الجنس في الثقافة العربية الزاهيد مصطفى - الدعارة باعتبارها أسلوبا في الحياة

سبق لي نشر وجهة نظري هذه حول موضوع الدعارة بأسبوعية المشعل (العدد400 من 26 دجنبر2013 إلى 1 يناير 2014) صمن ملف حول الظاهرة أعدته الصحافية فاطمة شكيب والصحفي مصطفى لختامير، ونظرا لأهمية الموضوع أعدت تحريره من أجل التعبير عن وجهة نظر مختلفة أنظر منها للموضوع، مستندا في ذلك إلى أطروحة جورج كانغيلام حول السوي والمرضي وما كتبه مشيل فوكو في تاريخ الجنسانية.

الدعارة باعتبارها أسلوبا في الحياة

.يعرف تطور المجتمعات عبر التاريخ وانتقالها من بنيات اجتماعية تقليدية إلى بنيات اجتماعية حديثة، ظهور العديد من الظواهر المحايثة 'لتجربة الانتقالات الإجتماعية" ومن بين الظواهر التاريخية اللصيقة بتطور المجتمع نجد ظاهرة الدعارة التي تعبر في العمق عن الأزمة الأخلاقية والاقتصادية والسياسية لأي نظام من الأنظمة، فخروج أوروبا من الإقطاع إلى التصنيع، وما صاحبه من انتقال لليد العاملة من البوادي إلى المدن الصناعية وارتفاع الاستغلال الرأسمالي لليد العاملة التي لم تكن قادرة على توفير السكن اللائق نتيجة الاستغلال البشع لفائض''القيمة من طرف البرجوازي أفرز "غيتوهات" في الهامش انتعشت فيها تجارة البشر بجميع أنواعها، إلا أنه في المغرب وجب التركيز على أن الدعارة ليست وليدة التغير الاجتماعي الذي عرفه المغرب "من القبيلة إلى الدولة" بل هي لصيقة بوجود المجتمع وتجربة الظلم و اللاعدالة الاجتماعية، وما يؤكد ذلك أنه في عهد الخلفاء ومن سبقهم نجد حضورا قويا للظاهرة، مما يعني أنها ليست سلوك أخلاقي بل هي ظاهرة اجتماعية تعبر عن العجز الأخلاقي لمجتمع من المجتمعات على ضبط سلوكات ورغبات أفراده انطلاقا من نسق أخلاقي ينتجه من أجل تبرير نفسه أمام هذا المجتمع، فالأحكام التي قد تصدر أحيانا من مؤسسة الفقيه أو من الضمير الجماعي للمجتمع بلغة إميل دوركهايم (المدرسة-الأسرة-الشارع) هي في العمق ليست إلا سلطة تطالب باستمرار مجتمع من المجتمعات ضدا على وجود الفرد، وهو ما يثبت لحد الآن فشل المجتمع الحديث على إيجاد حل جدري رغم جميع المقاربات السياسية والأخلاقية والاجتماعية للحد من الظاهرة التي نلاحظ أنها في ارتفاع مستمر، وهو ما يفرض أن ننظر للظاهرة من مقاربة نسقية تستحضر العلوم الإنسانية والفلسفة وعلم التاريخ من أجل فهمها باعتبارها خيار فردي وجماعي يقاوم الضمير الجماعي للمجتمع" ضدا على وجهات النظر الأحادية التي تتمثل في:
وجهة النظر الاقتصادية:يبدو الدافع الأول للدعارة حسب هذه المقاربة اقتصادي محض، ويعبر عن اللاعدالة الاجتماعية لنظام سياسي لا يقدم فرصا متكافئة لأفراده، ولكن هذا التبرير الاقتصادي سرعان ما يتهافت أمام المنهج المقارن، بحيث نجد دولا تعرف ديمقراطية ليبرالية حقيقة كما يوجد في النرويج والسويد لكن نسب الدعارة فيها مرتفعة وممؤسسة، وهو ما يدفع لإعادة النظر في هذا المنظور.
وجهة النظر الأخلاقية: يعتقد دعاة النزعة الأخلاقية (سواء كان مصدر الأخلاق الدين أم العقل) أن الدعارة هي تعبير عن فشل فردي ومجتمعي في تمثل السلوك الأخلاقي القويم، وبالتالي فالدعارة هي حالة من الانحراف الأخلاقي تستدعي الإيمان بضرورة التربية الأخلاقية التي تؤهل الفرد لكي يتصرف على نحو صحيح، ويقصدون بالسلوك الصحيح، السلوك الذي يتوافق وإرادة المجتمع. لكن الملاحظ أن المجتمعات الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية أو الدولة العلمانية التي تجعل مصدر الفعل الأخلاقي هو الدولة، لم تستطع القضاء على ظاهرة الدعارة .
وجهة النظر الإجتماعية: نستحضر هنا البعد الاجتماعي لنعطيه مفهوما شاملا يحيل على كل من الفرد والمجتمع، يرى رواد التفسير الاجتماعي للظاهرة أن الحل يكمن في البحث الدائم عن طرق للملائمة بين رغبات الفرد وإرادة المجتمع واستدماج الرغبة في نسق أخلاقي يتيح إمكانيات للتعبير عن الرغبات في إطار تحكمه القواعد الاجتماعية (مثلا تسهيل مسطرة الزواج+ التربية الجنسية للمراهقين+ التثقيف والتوعية...) لكن المقاربة الاجتماعية تظل قاصرة في الحد من الدعارة نظرا للتناقضات التي تتخللها والتي تعطي قيمة لاجتماعي على حساب الفردي .
الدعارة في المغرب
فالمجتمعات في تدبير مجالاتها الترابية تسعى دوما إلى التخفيف من ثقل السلطة والإعلاء من شأن الفرد(المواطن) لكن مع مشيل فوكو اكتشفنا أن التراب جزء من السلطة، بل يمثل في حد ذاته سلطة خاضعة لمنطق القوة والحركة، لمقاربة ظاهرة الدعارة في المغرب لابد أن ننظر إليها من هذه الزاوية باعتبارها تعبير عن أسلوب في العيش، تفرضه الحياة المعاصرة نتيجة القسوة التي يبديها منطق الرأسمال الذي قوض المعنى الحقيقي للحياة بصناعته للعديد من الأوهام الاجتماعية من بينها الأسلوب الحياتي القائم على السرعة والسهولة في النجاح، وهو ما دمر جذريا العلاقة بين العلامات (الدال والمدلول/المعيار وما يحيل إليه اجتماعيا) مما أدى إلى إفراغ جميع الضوابط الاجتماعية من محتواها الحقيقي.
وفق هذا المنطق اليوم بالمغرب تتسع بشكل جلي ظاهرة الدعارة التي تتم وفق وأمام أعين العائلات في منطقة بومية نموذجا، وفي الصويرة والزاوية "زاوية الشيخ" قرب مدينة تادلة، وهو ما يعبر بشكل جلي على الفظاعة التي وصل إليها الجسد المستباح كما تقول الباحثة المغربية فاطمة الزهراء ازرويل، فبعد عجز المجتمع على إيقاف وتقييد الجسد الذي يستبيح نفسه في الأماكن و الفضاءات الهامشية التي تعكس بعمق تراتبية وحقيقة المجتمع.
تعود الظاهرة تاريخيا إلى الفوارق التي خلقها الاستعمار بين الهوامش والمراكز الحضرية(المدن والمناجم والثكنات العسكرية) حيث فرض على الناس الانتقال من أجل الاشتغال داخل المناجم أو الضيعات الفلاحية لكبار القواد والملاكين، لكن الأجور الزهيدة وكافة أشكال الاستغلال التي كان يتعرض لها العمال فرضت عليهم ظروف عيش مزرية، نتيجة بطش بعض القواد الذين استباحوا أجساد الرعية، مما أدى إلى تشريد العديد من النساء اللواتي سيجدن أنفسهن في نهاية المطاف عرضة للاستغلال في الماخورات التي كانت تعود ملكيتها لأعوان السلطة ورجالاتها، لكن "العاملات الجنسيات بلغة الأستاذ عبد الصمد الديالمي" لم يتوقف استغلالهن فقط في الماخورات بل وظفن كذلك في الوشايات والاستخبار حول تحركات المستعمرين وكذلك رجالات الحركة الوطنية، مما يؤكد بنظري ما ذهب إليه فوكو بأن الجسد لم يكن في يوم من الأيام متحيزا أو محايدا في الصراع الاجتماعي والسياسي حول السلطة بل كان جزءا من هذا الصراع.
تبين جغرافية الدعارة التي و للأسف لا نملك دراسات سوسيولوجية وإتنوغرافية دقيقة حولها في المغرب (باستثناء دراسات الأستاذ عبد الصمد الديالمي/فاطمة الزهراء ازرويل/فاطمة المرنيسي) بأنها ليست ظاهرة إقليمية مرتبطة بالأماكن الهامشية أو الأماكن المدينية (نسبة إلى المدينة) بل الدعارة جزء من الحراك الاجتماعي الذي لا يتيح لجميع الأفراد داخل مجتمع معين توزيعا عادلا ليس وفقط في الثروة المادية بل في الخيرات الرمزية(التربية الجيدة، التعليم ، الصحة...).
حينما نعود إلى منطقة بومية مثلا التي تسعى بعض الكتابات الصحفية أن تفسر ظاهرة الدعارة بها نتيجة التفكك الذي تعرفه الأسرة وغياب الوازع الديني يبدو هذا التصور الأخلاقي متهافتا من الوهلة الأولى، لأنه لا ينتبه إلى طبيعة المنطقة التي تتشكل أغلبية ساكنتها من اليد العاملة التي تأتي للعمل في الفلاحة وباعتبار هذه الفئة غير منتمية من ناحية النسب (السلالة)، إلى نفس المنطقة وارتباطا بظروف العمل التي يشتغل فيها نساء ورجال من مناطق مختلفة في المغرب يفرض عليهم الاحتكاك اليومي نوعا من التواصل الاجتماعي والحميمي، الذي ينتقل إلى تبادل للآراء والرغبات وهو ما ينتج عنه حوامل و اغتصابات سيتم الصمت عنها بسبب الطريقة التي يصرف بها المجتمع العلاقات الجنسية الخارجة عن مؤسسة الزواج.
في هذه الشروط تجد المرأة نفسها أمام خيار أن تكون الدعارة موردا ماليا جيدا بأقل التكاليف الجسدية رغم التكلفة الأخلاقية أمام المجتمع. لكن باعتبار الدعارة الآن نمط ثقافي يتم صناعته وتصديره بشكل واع أو غير واع عبر الوسائط الرقمية، يصبح الأفراد قادرين نتيجة البروز التدريجي لقيم الفردانية قابلين لاشعوريا بأن يبرروا الدعارة باعتبارها حق فردي يتحمل فيه صاحبه كامل المسؤولية، لكن المجتمع رغم ذلك يسعى دائما إلى مقاومة هذه الشروخ التي تحدثها الرغبة على مستوى معمارية أخلاقياته، فنجده بين الفينة و الأخرى في علاقة بالسلطة يلجأ إلى المساجد أو الإعلام العمومي لتجريم الدعارة دون أن يعي هذا الخطاب الأخلاقي والوعظي أنه في الوقت الذي يجرم فيه الدعارة أخلاقيا يشجع عليها بطرق متعددة عن طريق الأفلام المكسيكية وأفلام الأكش والفضائيات والبورنوغرافيا التي يحولونها اليوم إلى فن !!! باعتبارها جزء من الحياة العصرية .

الزاهيد مصطفى/ أستاذ الفلسفة


* المراكشية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى