عبد الرزّاق الربيعي - أحلامنا القديمة..

عندما اندلعت حرب أكتوبر عام 1973م كنت في الثانية عشرة من عمري، وليس من الممكن نسيان تلك الأجواء الحماسية، التي غمرتني، كسائر أبناء جيلي، كوننا عشنا في بيئة كانت وما زالت شغلها الشاغل القضية الفلسطينية، فهي تأكل وتشرب مع أبنائها، وتتقاسم معهم الزاد، ليس بالمعنى المجازي، بل الواقعي، فقد كنّا نقتطع جزءا من مصروفنا المدرسي اليومي لشراء طوابع بريدية تدعم اللاجئين الفلسطينيين وكفاحهم لتحرير الأرض المقدّسة، ونقوم بلصق تلك الطوابع على ظهور دفاترنا، وكلّما كان عدد الطوابع أكثر، نتباهى بشكل أكبر، وحين يبلغ الحماس ذروته ويحصل تصعيد في الاعتداءات الإسرائيلية على أصحاب الأرض في الأرض المحتلة، كنا نخرج من المدارس في مسيرات تنديد واستنكار تحمل لافتات كتب عليها «فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية»، وتصدح حناجرنا بهتافات تدعو لتحريرها، ولم نكتفِ بخروجنا من الفصول، فقد كنّا نتوجّه للمدارس المجاورة، داعين طلّابها للخروج معنا في تلك المسيرة، فإن لم تستجب الإدارة نُحدث فوضى، ويبدأ الفصل الثاني من الفوضى المتمثّل بقذف نوافذ الفصول الدراسية بما أوتينا من حجارة نلتقطها من طرق غير معبّدة، هاتفين بأعلى صوتنا:
«لو تطلعونهم، لو نكسّر الجام»، والجام تعني بالعامية العراقية: الزجاج، فتذعن إدارات المدارس لطلبنا وتفتح أبوابها، ليخرج طلابها، وتكبر المسيرة التي تظلّ تدور في الشوارع، وسط تأييد أهالينا، وشعورهم بالفخر.
وحين انطلقت شرارة حرب أكتوبر، في السادس منه، كان لا بدّ أن تكون الشغل الشاغل لنا، فانتعشت الآمال بعد أن تحطّمت بعد نكسة الخامس من يونيو 1967م، بحرب الأيّام الستة، التي خرج العرب منها منكسرين، وقد ذهب الشاعر نزار قباني في قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» إلى أقصى درجات الانكسار بقوله:
جلودنا ميتة الإحساس
أرواحنا تشكو من الإفلاس
أيامنا تدور بين الزار والشطرنج والنعاس
هل نحن «خير أمة قد أخرجت للناس»؟
لكنّ حرب أكتوبر التي بدأت بهجوم استهدف خط بارليف، وعبور قناة السويس، أعادت الحماس إلى النفوس مجدّدا، إلى النفوس التي شاخ فيها الأمل، وصار النصر على الدخلاء وشيكا.
يومها كنت أخطّ حروف بداياتي الأولى في كرّاستي المدرسيّة، وأحيانا أتجرّأ فأبعث تلك الكلمات إلى صحيفة أسبوعيّة تعطف على الناشئة، بنشر محاولاتهم، في زاوية مخصّصة لهم، اسمها (الراصد)، ووسط تلك الأجواء الحماسيّة، كتبت نصا عن حلمنا بتحرير فلسطين، وعودة اللاجئين لديارهم من المخيّمات، وهممتُ بإرساله إلى الصحيفة، عبر مكتب البريد، وهذه هي الوسيلة التي كانت متاحة لنا، نحن الذين كنا نعيش على هوامش الساحة الثقافية، ولم نخض بعد غمارها مع الخائضين، ولأن الانتصارات كانت تتوالى على الجبهتين المصرية والسورية، قلت: ماذا لو تحرّرت فلسطين، وعاد اللاجئون إليها، هل سيجد المحرّر ضرورة لنشر النص؟ يومها كانت أحلامنا كبيرة، لا يحدّها سقف، ورأيت من الواجب عليّ التأنّي في إرسال ما كتبت، خصوصا أننا كنا ننتظر نشرها على الأقل بعد مرور شهر على الإرسال!!
هكذا كان شعورنا بأن النصر قريب، وتحرير فلسطين صار - بنظرنا - وشيكا، وفجأة توقّف إطلاق النار وانتهت الحرب، وعاد الجنود إلى مواقعهم خائبين، وانكسر الحلم، ولم أبعث النص للنشر،
ولم تتحرّر فلسطين!
واليوم بعد مرور كلّ تلك السنوات ينتعش الحلم مجدّدا مع الملحمة التي يدوّنها أبطال غزة، «فهذا زمان فلسطين» كما يقول الشاعر حميد سعيد:
«كل الذين يثورون ينتسبون إليها
وكل الذين يموتون أو يولدون.. بهم من شمائلها حالة
وجهها يسكن الفرح البشري
كما يسكن اللحظة البائسة
وجهها يملأ الماء واليابسة»
لعل الأيام القادمة تعيدها لنا ثانية أحلامنا القديمة التي رسمناها على كرّاساتنا، فـ(ما ضاع حقّ وراءه مطالب) كما يقول المثل العربي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى