عبد العزيز بركة ساكن - باتريشيا

كل من في الحي الصغير، بقشلاق السجون في مدينة القضارف، في تلك الأيام، كان يتحدث فقط عن السكان الجدد، الذين استغلوا البيت الفارغ، المجاور لبيتنا مباشرة، كان بيننا باب جيران صغير فتحه الساكنون القدامى.

أسرة صغيرة، تتكون من زوج فقط، تعمل الزوجة جاويشا بالسجن، يقال إن الزوج يمتهن صناعة كراسي الخيزران، ومادام لم يكن بالقضارف خيزران، فلم يكن يعمل شيئا، سيبقى عاطلا عن العمل، إلى أن يتم تجنيده بشرطة السجن.

أخي الأكبر وأنا، صغيران، هكذا يتم وصفنا من حين لآخر، ينصحوننا دائما بألا نستمع لونسة الكبار وتعليقاتهم، مما يحرمنا الاستمتاع بالمعلومات القيمة عنهما، لذا، كنا نحاول جهدنا أن نتحصل على الأخبار بأنفسنا، مباشرة من المصدر: الزوج سانسو وباتريشيا.

وذلك عبر الباب الصغير، التنصت من خلال صريف القصب القديم، عن طريق خرم الجرو، قدة الكديس أو كسرة الشباك.

الحوارات في الغالب، تجري بلغة محلية صعبة، عرفنا فيما بعد أنها لغة الباريا، لكننا دائما ما نجد معنى لما لم نفهم، معنى نفهمه، أما الأفعال، فما كانت تحتاج إلى جهد كبير لفهمها.

التقط أخي بأذنيه الوطواطتين، قولا- لعطا المنان مقدرة خارقة في سماع حتى ما يهمس به-قال لي،

- الليلة باتريشيا عاملة مشكلة مع سانسو.

- كيف عرفت؟

- أمي قالت لأبوي هذا.. باتريشيا مشاكلة سانسو.

بإشارة نستخدمها دائما،نطلقها من عيوننا، مصحوبة بحركة من الشفتين ورفسة سريعة من قدم لقدم، تعني : لنذهب ونر. اتخذنا مواقعنا، أنا عند قدة الكديس، عطا المنان عند خرم الجرو، لأنه الأكبر فهو دائما ما يحتفظ لنفسه بالمكان الأفضل.

البيت هادىء، لا ينتج شيئا مفيدا، لا، حتى مجرد همسات قد تئول إلى مقصد لذيذ بقدر بسيط من إعمال الخيال، فجأة خرج سانسو من القطية، في فمه كدوسه، ظلّ واقفاً، يدخن في قلق،يرسل خيوطاً من الدخان في الهواء بهدوء حذر، إلى أن أتت باتريشيا، وضعت كرسي الخيزران خلفه مباشرة،جلس دون أن يطلق صوتاً، وضع رجلاً على رجل، استمر في مهمة إطلاق الدخان، جاءت باتريشيا بكوب ماء، قدمته إليه بناء على طلبه - هكذا ظنّ أخي - أو من تلقاء نفسها - كما ظننت أنا - ليّ وله مبرران مختلفان، وعندما تناقشنا في الأمر وقد أصبحنا رجلين كبيرين: إنه طقس سري سحري،لم تتح لنا فرصة التعرف إليه إلى الآن.

أمسك بالكوب، نظر في وجهها، كان أسود لامعاً، به عينان كبيرتان، كل الناس يقولون ذلك،ألقى بالماء كله في وجهها في دفعة واحدة، ثم رمي بالكوب بعيداً: رطن جملة قصيرة أدخلت الخوف في نفسينا، لولا إصرار عطا المنان على البقاء ومتابعة الحكاية للآخر، لهربت مهرولاً، لم تقم باتريشيا برد فعل ما يظهر غضبها، دخلت القطية، وعندما عادت، كانت تحمل عودًا غليظًا، هبّ سانسو واقفاً، وبدأت المعركة، في لمح البرق تجمعت نساء الجيران، في متعة معروفة في تلك الأنحاء،كنّ يشاهدن العراك العنيف، الذي يدور بين الساكنين الجدد، لم يقض على متعتهن في إصدار الأصوات، التي لا تعني شيئا، إلا حضور أبي وجارنا مرجان كافي إلى ساحة المعركة، ليفضا العراك بالفصل بين الزوجين، منقذين سانسو - كما بدا لنا - من جلدة ساخنة.

أخي، عطا المنان وأنا، انتظرنا بعيداً قرب المرحاض العام المهجور، بالرغم من خوفنا من هذا المكان، حيث إنه مسكون بالشياطين، إلا أنه كان الموقع الأمثل لمتابعة ما بعد المعركة مع تجنب الوقوع في قبضة أحد الكبار، خاصة جارنا العم مرجان كافي، أو أبي، وفوق ذلك كله يتيح لنا رصد تحركاتهما.

باتريشيا تغسل رجليها الطويلتين وهي جالسة على كرسي عال من الخيزران، تلبس ذات الفستان الذي أدارت به المعركة ضد زوجها، كانت صامتة، تتجاهل تماما سانسو الجالس على كرسي الخيزران الآخر، وقد اعتدل مزاجه، فعاود إطلاق الدخان مرة أخرى، عندما فرغت من غسل ساعديها ووجهها،مسحت شعرها، قالت ليّ:

- تعال.

دقّ قلبي بشدة،هرب عطا المنان إلى جهة لا أدريها، قد لا يدريها هو نفسه،أما أنا فقد تسمرت في مكانيّ من هول المفاجأة،لأنني ما كنت أظنها ترانا،قلت لها بفم جاف، ولسان ثقيل وشفتين باردتين، ما معناه:

- أنا ؟

- أيوا، إنت يا ود مريم.

ومن دون تفكير، أدخلت رأسي كلها في قدة الكديس، زحفت إلى أن مرّجسدي كله عبر الفتحة الصغيرة ثمّ نهضت، نفضت التراب والقش عن ملابسي ووقفت، أمامها فيما يعني: أنا تحت الطلب.

أخرجت من بين ثنيات شعرها جنيهًا، وقالت لي

- امش الدكان، أحضر لي حجار للبطارية، يديك أبو كديس، أوعك تجيب أبو نمر سامع؟ أبو كديس.

انطلقت في سرعة البرق، نحو دكان صالح اليماني، خلفي عطا المنان، الذي لا أعرف من أي جب خرج، قلت له بين أنفاس متلاحقة:

- وقالت لي خذ الباقي أيضا.

أجلستنا على عنقريب عجوز، تفوح منه رائحة حبال السعف، ليس ببعيد عن سانسو، الذي كلما نفد التبغ من كدوسه، عبأه مرة أخرى، قدمت لنا طبقًا مليئًا بالسمسم المطبوخ بالسكر، ثمّ أدارت الأسطوانة فانبعثت منها أغنية جالو. اختفت لبعض الوقت ثمّ عادت تلبس فستانًا جميلاً قصيرًا جدًا، وحذاءً له كعب عالٍ، قبل أن نتمكن من أن نبدي دهشتنا أخذت ترقص بجدية وجمال رهيبين. همس أخي في أذني، خائفا،

- أرح نمشي البيت.

نهضنا في لحظة واحدة، متجهين ناحية الباب، لكنها تقدمت نحونا،وهي ترقص وفي فمها ابتسامة كبيرة، تبدو من خلالها أسنانها البيضاء: بيضاء، أمسكت كلا منا بيد وأخذت تطوعنا معها على رقص أنغام الجالو، مشجعة إيانا بصوتها القوي، مما زاد مخاوف عطا المنان،أخذنا نجاريها في الرقص، الذي لم يكن غريبًا علينا، حيث إن كل من في قشلاق السجون يجيد رقص الجالو، ولكن تخيفنا مناسبة الرقص الغامضة معها، ويبدو أنها لم ترق لأخي كثيرًا، حيث انه أخذ يعرق بشدة، قبل أن يتمكن من انتزاع يده من بين أصابع باتريشيا الطويلة، ويختفي نهائيًا، قالت لي برفق، وهي ترقص مقربة وجهها من وجهي، مما جعلني أحس بنفسها دافئًا،في جبهتي، ورائحة عرقها تملأ أنفي تماما، رائحة غريبة لم أشم مثلها في حياتي، ربما، هي التي تحكمت في ردي،

- عايزة تمشي أنت برضو؟

قلت وأنا استنشق الهواء المشحون برائحتها،

- لأ.

قالت وهي تقترب أكثر من وجهي،

- حترقصي مع باتريشيا؟

قلت:

- أيوا.

وأخذنا نرقص الجالو، كانت طويلة جدًا، لا أدري كم يرتفع رأسها من سطح البحر، أنا كنت قصيرًا، صغيرًا، ربما في العاشرة من عمري، وقد لا أكون قد تجاوزت المتر طولاً، بالكاد يوازي رأسي وسطها، لذا كانت تنحني بين فينة وأخرى، مشجعة إياي قائلة،

- هيا........هبا هبا.... سوا... سوا.

فيندفع نحوي نفسها دافئاً، لذيذًا وغريبًا،

كان سانسو، يرسل الدخان في الفراغ، متجاهلاً رقصنا وإيقاعات الجالو الصاخبة، بدا لي باردًا، ولحد ما حزينًا، لكنه فجأة أصدر صوتا غليظاً، نحى صخب الجالو جانبًا، اخترق أذني، في بحة ثقيلة،

- يا ود مريم، يلا أمشي بيتكم، بلاش كلام فارغ معاكي.

نفض كدوسه واتجه نحونا، قلت له بتحد وأنا أتمسك بأصابع باتريشيا الطويلة،

- ما ماشي؟

رمقني بنظرة شريرة:

- يا ود مريم اسمعي الكلام.

أخذتني باتريشيا في صدرها، غمرتني رائحة من جسدها، عظيمة، قالت

- أمشي البيت خلاص يا ود مريم. الأسطوانة خلاص انتهت، يوم تاني نجيب حجار بتاع بطارية، ونرقص سوا سوا.

قلت وأنا ألتصق بها بشدة:

- ما ماشي البيت.

دون أن تقول كلمة واحدة، مشت بي نحو الباب الصغير الفاصل ما بين بيتي وبيتها وفعلت فعلة شنيعة، حيث إنها نادت أمي، طالبة منها أن تأخذني، عندها سمعت صوت أبي، يهتف بغلظة طالبًا من أمي أن تسلمني له ومعي الحزام، لكني قفزت من صدر باتريشيا هربا عبر باب الشرع إلى حيث لا يدركني أبي.

جاء إليّ عطا المنان، وجدني جالسًا على مسطبة الماسورة القديمة المتعطلة، بجوار المدرسة الثانوية، أحاول جاهدا إيجاد تفسير لما مضى من أحداث مرت كالبرق، في الحق كنت أتتبع بقايا رائحة جسدها في أنفي، حيث بدت واهنة، بعيدة غالية، وجدني اتشمم الهواء مثل جرو صغير يبحث عن الاتجاه الذي ذهبت إليه أمه، قال لي مندهشًا،

- قاعد تعمل كدا ليه؟

- الريحة؟

قال وهو لا يفهم شيئًا أو متجاهلاً:

- باتريشيا وزوجها دخلوا جو القطية.

- متين؟

- الآن أرح نشوف بكسرة الشباك، أمي قالت لأبوي : سانسو سيقتل مرتو؟؟ أبوي قال ليها : بطريقتم.

عبر فتحة الكديس، دخلنا،على أطراف أصابعنا تسللنا إلى الداخل، من كسرة الشباك رأينا:

سانسو جالسًا علي كرسي خيزران، يرسل الدخان بعيدًا، باتريشيا ترقص الجالو، دون موسيقى فعلية، كانت تغني هي بنفسها وترقص، استطعنا أن نرى، مسجل الصوت مرميًا على الأرض،حوله تتناثر الأسطوانات لامعة جميلة ومهملة، قلت لعطا المنان،

- إذا طلّق سانسو باتريشيا، أنا حاتزوجها.

قال لي دون مبالاة،

- لكنها طويلة؟ طويلة شديد وسمينة؟

لم اهتم بحجته الواهية، التي لا تخلو من حسد،لأنني كنت واثقًا من أنني سوف أكبر وأصبح طويلاً مثلها وسمينًا، قلت له:

- الطول ما مشكلة بس كيف سانسو دا يطلقها لي ؟ أنا أكرهو، أنت بتكرهو ولا لأ؟

لم أشعر باقتراب الكارثة إلا عندما التفت إلى أخي عطا المنان، حيث كنت انتظر منه إجابة ما، ولم أجده،لقد استخدم أجهزة انذاره المبكر وهرب في الوقت المناسب، تاركني لأبي الذي : بيدٍ خشنةٍ قويةٍ،بغضبٍ، بصمتٍ كريهٍ، سحبني من خلف الشباك، قابضاً على أذنيّ، بقسوةٍ، ومثل تيسٍ عاقٍ، جرني عبر بوابة الجيران الصغيرة إلى البيت.


عبد العزيز بركة ساكن
ابريل 2007



عبد العزيز بركة ساكن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى