أحمد عفيفي - كعك العيد

جلست بجوار سائق التاكسي وعلب الكعك في المقعد الخلفي .. فقد حرمتني ظروف غربتي من المشاركة في الثورة ، وبمجرد ان سنحت لي الفرصة ، نزلت .. وقد هداني تفكيري الى إهداء عشر علب كعك بمناسبة العيد الى أسر الشهداء ، والعدد لايعني ان الأسر العشر هى فقط التي تستحق ان تحلًي فمها بكعك العيد ، ولكن مقدرتي المادية لم تسمح لي بأكثر من ذلك.
انطلق التاكسي قاطعا طريق السويس ، وقد اخترت هذه المدينة الباسلة لتكون مقصدي في بداية المشوار، ففيها سقط أول شهيد .. السائق بجواري لا يعرف ما بداخل هذه العلب ولا يعرف هدفي من هذه الزيارة .. كل ما يعرفه أنه مجند معي – بعد الاتفاق على الأجرة – الى ان انتهي من مهمتي المتواضعة في السويس والإسكندرية والقاهرة. .. حينما اقتربنا من مدخل مدينة السويس فاحت رائحة ذكية عطرة من الشوارع والبيوت وتراب الأرض ، وكأنها أجمل تحية للضيوف القادمين الى بلد البطولة والاستشهاد. يداعب أذني صوت محمد حمام : يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي .. استشهد تحتك وتعيشيي انت ، ورغم دفء صوت حمام الا ان رائحة البارود لم تبرحه بعد منذ عام 67.
لا اعرف بالتحديد أسماء او بيوت أسر الشهداء وداًني رجل عجوز صاحب محل بقالة على أم محمد ، ويطلقون عليها أم الشهداء ، فقد مات لها ولدان في حرب 73 والثالث والأخير مات يوم 26 ينايرفي ميدان الاربعين. البيت رغم قدمه الا ان جذوره ضاربة في أعماق الأرض ولا ألف زلزال يستطيع ان يهزه أو يجتزه منها. استقبلتني أم محمد بترحاب شديد بمجرد ان فتحت الباب ورأتني ، حتى ظننت أنها تعرفني ، وبحميمية شديدة قالت : اتفضل ياحبيبي .. بيتك ومطرحك .. ده احنا زارنا النبي.
وبتلقائية شديدة وبدون تكلف قبًلت يدها الممدودة بالسلام ، فمالت تقبًل رأسي وهى تقول : أكيد انت صاحب محمد قلت : شرف كبير لا ادعيه. سرحت للحظة وقالت : اهلا بيك ياحبيبي .. شكلك جي من مشوار بعيد .. نص ساعة ويكون الأكل جاهز. قلت : كتر خيرك يا أمي .. انا بس عايز أحلي " بقك " بكعك العيد قالت وقد بدأت عيناها تلمعان بالدموع : كأني بسمع محمد ابني .. كان دايما يقولها لي في كل عيد.. ح احلي بقك يامه بأحلى كعكة. قلت : ان كان ربنا اختاره شهيدا ، فأنا وغيري كثيرون أولادك.
وحكت لي عن محمد وبدلا من ان أمسح دموعها .. أبكتني هى : كان ياحبة عيني زي البدر في ليلة تمامه .. مهندس زي الفل ، وكان ناوي يتجوز العيد ده ، لكن ربنا اختاره عشان يشفع لي ويشدًني معاه في الجنة يوم الحساب. للمرة الثانية قبًلت يدها ورأسها وأعطيتها 5 علب كعك وقلت : واحدة لك ووزعي انت الباقي على من تختارين .. فأنا لا أعرف أحدا هنا قالت : كتر خيرك ياحبيبي .. السويس استشهد فيها 40 ، وانا حاقسم العلب دي عليهم كلهم عشان احلًي " بق " كل أمهات الشهداء.
نزلت من عندها وقد لمح السائق بقايا دموع في عيني وهو لا يعرف حتى اللحظة ماذا أفعل.. وطرنا على الإسكندرية وفي نيًتي بيت خالد سعيد .. لم يكن من الصعب بحال من الأحوال ان استدل علي بيته ، فكل الإسكندرية تعرفه ، فقد صار هذا البيت مزارا وعلامة من علامات عروس البحر .. وبمجرد ان دخلنا الشارع رأيت بيتا مزدانا بالأنوار " من فوقه لتحته " ويلف الأسلاك الكهربائية ورود بلدي بألوان وروائح تشرح القلب ، وعرفت من شباب الحي انهم تعاونوا في جمع الفلوس ليزيًنوا بيت الشهيد في هذا العيد. الشقة في الدور الثاني وبابها مفتوح ، وهالني هذا العدد الهائل من الشباب داخلها.. أعرف كثيرين منهم إلا أن وائل غنيم هو الذي خطف نظري ، وعرفت منه أنهم في كل مناسبة يأتون إلى أم خالد يقبًلون يدها ويسألونها الدعاء فدعوة أم الشهيد - على حد قول وائل غنيم - مستجابة.
لم تسألني ام خالد عن اسمي أو سبب مجيئي فأنا واحد من مئات الشباب الذين يزورنها .. سعدت كثيرا بهذه الصحبة الطيبة ، وأعطيتها علبة الكعك وقبًلت يدها ، فضمتني إلى صدرها بحنو بالغ وقالت : تسلم ياخالد يابني . فقلت لها : اسمي احمد يا أمي ردت : لأ .. خالد .. ثم وهى تلف أرجاء الشقة بعينها : كل اللي انت شايفهم دول اسمهم خالد .. كلهم ولادي. 3 وركبت التاكسي وقد أدرك السائق الغرض من زياراتي بعد أن عرف سر ابتهاج هذا الشارع ببيت خالد سعيد فقال لي : فاضل كام علبة ؟ قلت : 4 قال : تبقى العلبة السابعة لأميرة. سألته : مين أميرة ؟ رد : عروس شهداء الاسكندرية فسألته : هل تعرفها ؟ قال : أهلها ساكنين في نفس بيت أختي. وحكى لي عن أميرة .. وياليته ماحكى: وردة لتوها تتفتح للحياة .. جمال الدنيا فيها .. عمرها 16 سنة .. رأت من شرفتها الآلاف في الشوارع يهتفون باسم مصر وفي آياديهم العلم ، فلفًت شعرها وارتدت بسرعة حجابها ووجدت نفسها تمشي وسط هذا الهدير من شارع بور سعيد الى ميدان القائد ابراهيم .. لم تكن أميرة تدرك شيئا بعينه غير ان إحساسها جعلها تعرف ان البلد في طريقها الى الخلاص.. فليكن لها شرف المشاركة في هذه التظاهرة النبيلة ، ثم وهى واقفة سقط بجوارها شاب مضرجا في دمائه .. أذهلها الموقف وأفجعها وولًد فيها اصرارا عجيبا على المواصلة ، فحملت العلم الذي كان بيده ، وقد تزيًن وازداد تألقا بدمائه ، وصعدت على كتف أحد الشبان " الرجالة " وكأنها تسهًل للقناص هدفه وتتعجل هدية السماء.. وراحت تهتف لمصرها ، فجاءتها رصاصة اخترقت رأسها فتناثرت دماؤها واختلطت بدم من سبقها من دقائق ، فاكتسى العلم كله باللون الاحمر.
وعاد بي التاكسي الى القاهرة وقد لمحت في عيني السائق سعادة بالغة حتى أنه راح يدندن : ياليلة العيد انستينا وجددتي الامل فينا ياليلة العيد .. فأزاح عن نفسي حزنا لم استطع مغالبته بعد الزيارات الثلاث في السويس والإسكندرية. دخلنا القاهرة قبل فجر ليلة العيد بساعتين وأنا أعرف تحديدا الأسر الثلاث التي سأزورها .. أسرتين في الزاوية الحمراء والثالثة في الجيزة. أم الشهيد " حسين " التي رأيتها في برنامج مع بلال فضل وفتًتت مشاعري وهى تحتفظ بالرصاصة التي قتلت ابنها في جيبها .. فعلى حد قولها : رائحته فيها .. سقطت من جسده اثناء تغسيله فأبت ان تعطيها لوكيل النيابة كحرز لتظل معها .. وما لم تقله أم الشهيد : ربما ردًتها لصدر من قتلوه.
وفي نفس الشارع بالزاوية الحمراء أم جرجس .. نعم أم جرجس .. كان ابنها رجلا من صلب رجل ، رأى زملاءه جرحى امام القسم وكلهم مسلمون .. فراح ينقل الواحد بعد الآخر على الموتوسيكل .. الى المستشفى لإسعافهم .. كانوا ثلاثة ، اما هو فكان رابعهم ، غير انه تم نقله مقتولا. ..لم تبق الا علبة واحدة اعطيتها لشقيقة اللواء مصطفى البطران رئيس قطاع السجون الذي رفض خطة العادلي الخسيسة بفتح السجون لإشاعة الفوضى والرعب بين الآمنين ، فكان جزاؤه رصاصة في صدره أردته قتيلا. 5 خلاص يا استاذ خلصت المهمة ؟ .. يسألني السائق قلت : الحمد لله بس عدًي بينا على ميدان التحرير .. نطل طلة ونمشي على طول. .. المئات تخرج من مسجد عمر مكرم بعد أداء صلاة الفجر .. أفراد قليلة متناثرة هنا وهناك ، وشبان زي الورد يفرشون الميدان بالسجاجيد العريضة استعدادا لصلاة العيد .. واذا بطفلة " زي القمر" ترتدي فستانا ابيض وتزيًن شعرها بالفل والياسمين .. تجري وتلعب وابتسامتها أنارت الدنيا في قلبي. استوقفتها : كل سنة وانت طيبة ياقمر .. اسمك ايه ؟ ردت : شروق قلت : الله .. اسمك حلو اوي .. وبتعملي ايه هنا ؟ قالت : جيت ازور بابا . .. لم افهم وسألت : وهو بابا فين ؟ ردت بنفس الابتسامة المشرقة : هنا ياعمو .. مات هنا .. وانا وماما وتيته جينا نزوره ونعيًد عليه. .. وكأن سهما اخترق قلبي ، غير ان ضحكة الصغيرة هدأتني الى حد بعيد فقلت لها : كان لازم اعمل حسابك واحلًي بقك بكعكة حلوة زيًك .. فجرت من امامي وعادت ، وفي يدها كعكة دسًتها بعفوية وشقاوة في فمي ، فإذا بطعمها لم اذق مثله في حياتي .
بدهشة سألتها : منين جبتي الكعكة دي ؟ ردت : من عند بابا .. وقبل ان انطق .. جرت وانطلقت ضاحكة مستبشرة ، فرأيت الدنيا كلها تضحك لمائة سنة قادمة. .. وبدأت السماء تنثر نورها رويدا رويدا على الميدان ، فاهتزت باستحياء مياه النيل كأن النور ايقظها .. ، ورأيت الالاف يتدفقون من كل اتجاه ومعظمهم يرتدي أبيض في أبيض وكأن الميدان اصبح قبلتهم وكعبتهم والاعلام ترفرف بابتهاج عجيب مع نسمات صباح العيد. دسست يدي في جيبي واخرجت منها اجرة السائق: فلوسك يا اسطى .. سامحني تعبتك معايا نظر الى السائق وقد اغرورقت عيناه بالدموع : للدرجة دي يا استاذ مستهين بيا؟ قلت : اعوذ بالله .. ليه بتقول كده؟ رد : انت متخيل بعد المشاوير دي اللي ردت لي روحي من اول وجديد حاخد منك فلوس؟ قلت : بس ده حقك رد : وحياة كل اللي ماتوا عشان انا وعيالي نفضل عايشين ماحاخد منك مليم واحد. قلت : وانت ذنبك ايه .. بقالك يومين تقريبا معايا وعيالك مستنين العيدية. فقال : عيديتهم خدوها خلاص .. حط فلوسك في جيبك وان كان مفروض حد فينا يدفع للتاني .. يبقى انا مش انت. والقيت بنفسي داخل التاكسي الذي انطلق .. وماهي الا خطوات قليلة وتوقف فسألت السائق النبيل : وقفت ليه يااسطى؟ فرد: الاشارة حمراء يا استاذ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى