زكريا إبراهيم - على ضوء الفلسفة.. الأفعال الإنسانية

من الحقائق المسلم بها أن الإنسان مضطرب إلى أن يعمل

وهو إذ يعمل، ينتشر فيما حوله بتأثير أفعاله. فنحن لا نستطيع أن نتحرك، أو أن نتنفس، أو أن نحيا، أو أن نفكر، دون أن نسجل طابعنا في الخارج. ومن المشاهد أن جو الفردية هو بطبيعته محدود ضيق النطاق. فكل فعل يصدر عن الإنسان لا يلبث أن يصبح هو نفسه كائناً حياً له طابعه الخاص الذي يدل على حياة شخصية معينة. ولهذا فإن ثمة إشعاعاً ذاتياً يسم بطابعه الخاص كل حركات الشخص وأقواله، فالفعل يعبر عن فردية صاحبه، أي عن ذاتيته الخاصة، لأنه عبارة عن نية الشخص وهي في سبيل التحقق

ومن مظاهر النشاط الإنساني تلك الرغبة الملحة التي يجدها الناس، في أن يؤثروا بأفعالهم في الآخرين، فتطبع كل منهم صورته في الآخرين، ويسمهم بطابعه الذاتي، وبذلك يحيا مع الآخرين بحيث يكونون له شهوداً وشركاء ومعاونين ومقلدين. وليس الفعل عبارة عن عمل خاص يتصل بصاحبه فحسب، وإنما هو عمل كلي يتصل بالآخرين جميعاً. وتتمثل هذه الصلة في التأثير الذي يحدثه العمل الواحد في نفوس الآخرين بعد أن يتحقق في الخارج؛ وهذا هو ما يعطي الأفعال الإنسانية كل قيمتها، لأن هذه الأفعال هي عبارة عن نيات متجسدة، وقيم أخلاقية متحققة، ومثل عليا متجسمة؛ وهي تقوم بدور المؤثر الفعال في المجتمع، لأن الأفراد يستطيعون أن يفهموا معنى تلك الأفعال، ومن المحتمل أن يقعوا تحت تأثيرها.

وللفعل الواحد قدرة غير محدودة على الانتشار، على الرغم من أن ثمة أفعالا قد تبدو لنا تافهة لا معنى لها. فلو ضربنا صفحاً عن تلك الأفعال التي لا تدخل ضمن ما يعمله الإنسان في سبيل تحقيق غايته، وأمكننا أن نقول: إنه لا يمكن أن يوجد فعل إنساني بمعنى الكلمة هو عديم القيمة بالنسبة إلينا.

وما عمله الإنسان بنفسه، أو بالاشتراك مع غيره، لا يمكن أن يكون خاصاً به وحده، أو بمن شاركه وحده؛ وإنما هو عمل خاص بالجميع، بل إنه - منذ لحظة تحققه - موجه للجميع، فنطاقه واسع، وهو للأفراد الآخرين، كما هو بالنسبة إلى صاحبه تماماً. ومعنى هذا أننا لا نعمل أبداً لنفوسنا فحسب، فضلا عن أننا لا يمكن أن نعمل بمفردنا فحسب. ونحن لا نستطيع، بل على الأحرى لا نريد، أن نحتبس حياتنا داخل ذواتنا، ولذلك فإننا نعمل، عملنا لا يتم إلا بمعانة الآخرين، كما أنه لا يتحقق إلا في الخارج، أعني في وسط يضم كثيراً من الأفراد الذين يستطيعون أن يتأثروا بذلك العمل.

والفعل الواحد يقدم للآخرين أفكارنا، فهو أداة للترابط الاجتماعي، وهو روح الحياة الجمعية. وليس في استطاعة الفرد أن يعتزل وينطوي على نفسه، بل هو مضطر إلى الاتصال بالآخرين، وأفعاله تكون الوسط الذي تنشأ فيه وتصدر عنه أفعال أخرى كثيرة. ففي تربة أفعالنا، تنبت نيات أخرى كثيرة، وتزهر أفعال جديدة متنوعة!

ومن الخطأ أن نتصور أن من الممكن أن يخطئ الفرد الواحد دون أن يسيء إلى الآخرين؛ فإن كل فعل من أفعالنا يمتد في دوائر لا نهاية لها، ولا بد أن تستتبعه نتيجة تلحق بالآخرين. بل أن الفعل الواحد كثيراً ما يكون نقطة تحول في التاريخ كله! فعلى الإنسان إذن أن يعمل، وكأنما هو يتحكم في العالم بأجمعه، ويوجهه التوجيه الخاص الذي يريده هو! وقد يتقبل الآخرين أدنى منحة تقدم لهم، أو أقل فكرة تعرضها عليهم، فالفعل الواحد - مهما بدا يسيراً - قد تترتب عليه نتائج لا تخطر لنا على بال.

وليس من الضروري أن يشعر الإنسان بكل النتائج التي يمكن أن تترتب على فعله، أو كل المعاني الكامنة في هذا الفعل، بل قد تترتب على الفعل الواحد نتائج عظيمة، دون أن تكون لدى الإنسان فكرة واضحة عن ذلك. ولهذا فإن من الواجب أن نتخذ الحيطة في كل عمل نعمله، أو كل قول نقوله، لأن أدنى خطأ نقع فيه، قد يؤثر تأثيرا سيئاً في حياة الآخرين. وليس أخطر من مهمة أولئك الذين يتصدون للتربية والتعليم، لأن مسئوليتهم خطيرة في كل ما يقولونه، وما كان يمكن أن يقولوه، وما لم يقولوه حين كان من الواجب أن يقولوه! وكل نقطة غامضة كثيراً ما تكون مثاراً لكثير من التأويلات الفاسدة والآراء الخاطئة، والتطبيقات الكاذبة.

وما دامت الأفكار تنفذ إلى الإنسان من الخارج، فلا بد أن تتعرض لخطر التشويه أو التحريف أو سوء الفهم. أما إذا أدخلت تلك الأفكار في تيار الحياة نفسها، أعني إذا جعلناها تنبع من الأعماق الباطنة التي تتكون فيها الحقائق الشخصية اليقينية، فإنها تصبح عندئذ أفكاراً حية حقيقية.

ومن الضروري أن يكون تأثير المدرس (مثلا) تأثيراً خفياً يسري في نفوس التلاميذ دون أن يشعروا بذلك. فالفعل الحقيقي هو الذي يتحقق دون أن يشعر به الآخرون شعوراً مباشراً. ولا بد من اتخاذ الحيطة في هذا الفعل، حتى إذ كنا على ثقة مما نقوله، وكل ما نعمله، لا بد من أن نحترس، حتى إذا اعتقدنا أننا على حق. وليس أشق من فن (التطعيم العقلي) على كل من يمارس مهنة الفعل والتأثير

والفعل الحقيقي هو الذي يتم في صمت، إن التربية لهي مدينة في تأثيرها وقوتها إلى ذلك الإيحاء الصامت الذي يمارسه المدرس، فيوجه به التلميذ التوجيه الذي يريده، في الوقت الذي يعتقد فيه التلميذ أن أفكاره إنما هي وليدة تفكيره الخاص، وأن أفعاله إنما هي نابعة من ذات نفسه! ولكن ما أعظم مسؤولية المدرس إذا أساء استعمال سلطته، فأدخل في عقل التلميذ أفكاراً غير ناضجة، أو أوحى إليه بأفعال غير مثمرة!

أما المثل الأعلى للمدرس، فهو أن يعرف كيف يجعل نفسه سلبيا خالصاً، فيختفي هو وراء الستار، لكي يكتشف الطفل بنفسه ما يتعلمه، وبذلك يكون المدرس تلميذاً لتلميذه!

زكريا إبراهيم

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية



مجلة الرسالة - العدد 648
بتاريخ: 03 - 12 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى