رسائل الأدباء : رسالة محمد قطب إلى عباس محمود العقاد

13 - 08 - 1945


إلى الأستاذ العقاد

أستاذي الكبير:

قرأت كتابكم الأخير (في بيتي)، وأنا اقرأ كتبكم لأفيد منها علما بالحياة وبالنفس الإنسانية، ومتعة فنية عظيمة. وقد وجدت العلم والمتعة في كتابكم هذا كما وجدتهما في كتبكم الأخرى

ولكن ليسمح لي الأستاذ أن أخالف رأيه الذي جاء في الكتاب عن القصة، فقد جاء في ص27 ما يأتي:

(ثم راح (الصديق) يجول ببصره (في رفوف المكتبة) وهو يقول: ما أصغر نصيب القصص من هذه الرفوف!

(قلت: نعم. وأنه لو نقص بعد هذا لما أحسست نقصه، لأنني - ولا أكتمك الحق - لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول)

ولاشك عندي في أن الشعر فن أرقى من القصة، لأنه تعبير جميل عن النفس الإنسانية في أصفى حالاتها، بل أنا أحب أن أزيد يقينا بذلك، لا إيمانا بالفن الرفيع فحسب، ولكن اعتزازا كذلك بما أكتبه من الشعر بين الحين والحين!

ولكني أخالف الأستاذ في قوله: إنه لو نقص ما نقرؤه من القصة لما أحسسنا بهذا النقص، فالقصة دراسة نفسية لا غنى عنها في فهم سرائر النفوس، وليس الشعر أو النقد أو البيان المنثور بمغن عنها، لأنها في ذاتها أحد العناصر التي يحتاج إليها قارئ (الحياة)

وقد قرأت (سارة)، وقرأت في الديوان ما يقابلها من شعر، وهو شعر جيد رفيع، ولكني لا أستطيع مع ذلك أن أقول إنني استغنيت به عن قراءة (سارة)، أو إن (سارة) ليس فيها جديد مفيد من الدراسات النفسية العميقة فوق إنها من خيرة ما أخرجه الأستاذ، ولكني أقول إن هذا طعم وذلك طعم آخر، وكلاهما جيد مفيد

ويقول الأستاذ - في تقليل شأن القصة - (فكلما قلت الأداة، وزاد المحصول، ارتفعت طبقة الفن والأدب؛ وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف

(وما أكثر الأداة واقل المحصول في القصص والروايات! إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت: (وتلفتت عيني فمذ بعدت ... عني الطلول تلفت القلب)

ثم أورد الأستاذ أمثلة أخرى من الشعر

ولكني أحسب أن (التركيز) ليس في كل الحالات خير ما في الأدب، وأنه لا يغني في كل حالة عن التفصيل والتطويل، وليست التفاصيل الدقيقة التي تعرضها القصة لغواً باطلا يمكن الاستغناء عنه، أو إنها (كالخرنوب الذي فيه قنطار خشب ودرهم حلاوة)! فهي تؤدي مهمة فنية كبيرة، هي إعطاء صورة حية مفصلة من الحياة الإنسانية

والعقل يشبه الجسم في تمثيله للغذاء واستفادته منه، والجسم حين يقدم له من الطعام ما يمضغه، ثم يبتلعه، ثم يهضمه، ثم يمثله، ثم ينفي ما فيه من فضلات غير نافعة، يكون أنشط وأكثر استفادة مما لو أخذ مادة هذا الطعام بعينها (مركزة) في قرص صغير

والأستاذ يشير إلى مثل هذا المعنى حين يقول:

ليست خلاصة كل شيء غنية ... عنه ولو كانت خلاصة ماهر

ثم أحسب أن الأستاذ يكاد يستدل على إسفاف القصة بأن قوماً كالشيوعيين قد استغلوها في دعوتهم إلى أقصى حدود الاستغلال، وقالوا إنها اشرف أبواب الأدب

ولكن الشيوعيين قد استغلوا كل أنواع الأدب ومن بينها الشعر، وهذا شاعرهم الكبير (بوشكين) شاهد على ذلك، فلا يقال إن الشعر أو القصة فن غير رفيع لأن الشيوعيين قد استغلوه، وإنما يقال بحق إن القصة في إنتاج ما بعد الثورة قد هبطت كثيراً عما كانت عليه أيام تولستوي ودستيوفسكي لأنها اتخذت مظهر الدعاية وحادت عن الأدب الرفيع

ولاشك في أن القصة تستطيع أن تسف أكثر مما يستطيع الشعر أو غيره من الفنون الرفيعة، ولكن ذلك لا يعني أن القصة الجيدة ليست فناً رفيعاً، أو إنها لا تحتل مكانة عالية بين الفنون الإنسانية الكبيرة

وليس دفاعي عن القصة ومكانتها اندفاعاً مع العصر الحديث، فإن هذا العصر قد بالغ في شأنها أكثر مما ينبغي، ولكن إذا كانت مهمة القراءة كما قال الأستاذ في كتابه هي (الاستزادة من الحياة)، فإن القصة الجيدة كالشعر الجيد والفنون الأخرى ضرورية لتلك الاستزادة لا يغني عنها وغيرها من الفنون

محمد قطب خادمك المليونير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى