أحمد الملك - واحد فول

كان يلملم سرواله الضخم وهو يجتاز المطعم المزدحم بجسمه المترهل شاعراً بمعدته تتقلّص قليلاً بسبب شعور خفي فشل في معرفة كنهه . ألقى بنفسه على المقعد الحديدي الصامد الذي أصدر أنيناً حزيناً، ثم أخرج منديلاً أخضر ضخماً مسح به وجهه من التراب قبل أن يعلن: ((واحد فول وصلّحو)). في المقدمة كان الطباخ يوزع الطلبات مرتدياً جباباً قصيراً وقذراً، وعلى رأسه طاقية صغيرة تغطي بالكاد جزءاً صغيراً من رأسه، يساعده ثلاثة من الصبية. الطباخ كان يقف بجانب قدر الفول الضخمة الموضوعة على دكة عالية قليلاً، وثمة بقايا نار مشتعلة في الحطب فيما تدلت من السقف المتهالك خيوط طويلة كانت تبدو وكأنها تقترب لترى ما بداخل القدر. أخرج منديلاً أخضر ضخماً مسح به وجهه من التراب، وبعد أن لعن ـ أبو اليوم الجابنا البلد دي ـ أعلن بالتصميم الخائر نفسه: ((واحد فول وصلحو)).

الصبي الأول الذي كان إلى جواره تقريباً نقل الصوت بلحن ترابي مهشم يتمدد في صورة زعيق فير منتظم: (( واحد فول وصلّحو)). التقط الصبي الثاني الطلب ونقله هكذا: ((واحد فول)). والتقط الصبي الثالث بجوار الطباخ الطلب وأعلن للطباخ: واحد.. تراخت الكلمات المكملة في الطريق واختلطت بالضوء المترب المتهالك من النوافذ ونهم الزبائن المتعجلين. حدّق في الصحن أمامه بفزع، بضعة حبات من الفول تطفو فوق سائل أخضر قذر يشبه بركة صغيرة ملوثة بالزيت، ثم قطعة رغيف لها ملمس حجري جاف. انتشل بأصابعه حبة فول وسحقها في يده فانطلقت القشرة الخارجية البالية وبقي الجزء الداخلي جامداً في يده، نقله إلى فمه وطحنه بأسنان فولاذية متمرسه، فتسلل إلى لسانه مذاق خشبي حامض.. حدّق في الرغيف، وفجأةً اجتاحه شعور غريب. مدّ يده لينتزع قطعة من الرغيف لكن الرغيف كان جامداّ لا يتزحزح. فكّر قليلاً، ثم أمسك طرف الرغيف بأسنانه الفولاذية وبمجهود مركز أفرغ شحنة كاملة من الحقد في قضمة واحدة. إلا أن المحاولة أسفرت عن سقوط الرغيف خارج المقهى بسبب الدفع الشديد. وفوجئ بتدفق الدم من فمه، فمد يده داخل فمه وأخرج ضرساّ ضخماّ مكسوراّ. وفجأةّ شعر بأنه يتهاوى، فوق الضرس سقطت دمعات ساخنة، فأخرج منديله الضخم ومسح به دموعه، ثم لفّ به الضرس الضخم ووضعه بعناية في جيبه المتهالك، ثم تدحرج خارجاّ باحثاّ عن الرغيف الذي كان يتدحرج مبتعداّ مستفيداً من شكله الدائري وصلابته الحجرية. كان المنظر لفتاّ للنظر إلا أن أحداً لم يكترث له وهو يعبر وراء الرغيف خطوط المواصلات ثم قلب السوق القديم. وبدا أن الرغيف كان يعرف كل الأزقة و الشوارع التي تظهر أو تختفي فجأة وغاص الرغيف في بركة ماء راكدة في قلب السوق شقها مثل السكين. أما هو فقد سقط في البركة، في حفرة، وفيما حاول النهوض وجد أن سرواله قد تمزّق فتركه مواصلاّ مطاردته، ولحسن الحظ فقد كان يرتدي سروالاّ آخر أقصر قليلاّ من الأول. وفجأة في حمى المطاردة اجتاحه شعور غريب، كان الرغيف قد تسلل إلى أحد المحال الأنيقة واختفى بداخلها. أما هو فقد شعر فجأة أن رجليه قد التصقتا إحداهما مع الأخرى، ويديه مع جسمه وأنه يتدحرج بصورة دائرية. والتقطت أنفه رائحة خبز نفاذة وحينما التفت إلى الخلف بمجهود خارق إذ التصقت رقبته برأسه لاحظ أن أعداداّ هائلة من الناس كانت تجري خلفه. هنا اكتشف أن هناك شيئاً غير عادي، فقد تحول هو نفسه إلى رغيف ضخم. وخوفاً من أن يأكله مطاردوه دون منحه الفرصة لشرح الأمر تدحرج بسرعة شديدة محدثا هلعاً شديداً داخل الميدان المكتظ، وكادت سيارة ضخمه تكتسحه. وفي تلك اللحظة تذكر أنه قد تأخر عن الذهاب للعمل، وأنه سيتعرض حتما للمضايقة بسبب ذلك. وفكر بفخر: أنه طوال أعوام من العمل مل يرتكب سوى بضع مخالفات لا تذكر.

كان قد وصل إلى مكان بعيد عن السوق، وفي تلك اللحظة شعر بأن أقدامه تتحرر، وأنه يستعيد شكله البشري، ولاحظ أن ساعته لاتزال في معصمه إلا أنها بدت وكأنها متأخرة قليلاً. بدأ يركض عائداً ليستقل إحدى المركبات إلى مكان عمله . وفجأة فيما كان يقترب من الميدان توقف بص ضخم بجانبه واندفع إلى داخله طوفان من البشر. ولسوء الحظ فقد وجد نفسه مقيداً في مكانه مثل الجبل فيما الحركة تموج من حوله. وانجلى الموقف ليكتشف أنه فقد سرواله الثاني. ولحسن الحظ فقد كان يرتدي ثالثاً ولكنه كان صغيراً للغاية وخوفاً من اتهامه بإفتعال الفوضى فقد أخرج المنديل الأخضر الضخم. وحينما فتحه اكتشف أن أحدهم نشل الضرس الضخم، ومسح مرة أخرى الدمعات الساخنة التي نزلت على خديه واف وسطه بالمنديل الأخضر الضخم الذي كان في الأصل ملاءة صغيرة. وفيما كان يقف متحفزاً اندفع بجانبه بص ضخم فاندفع خلفه مثل الصاروخ، إلا أنه لم يفلح إلا في الإمساك بمؤخرة البص. وبدأت سرعة البص تزداد وكذلك سرعته هو، وأفلحت الريح في تخليص المنديل الضخم الذي اندفع ليسقط فوق شخص يركب دراجة ويحمل سلة ضخمة مملوءة بالخبز، فسقط أرضاً وتناثر الخبز بعرض الشارع فساد هلع مركزي في المكان. كان لايزال مندفعاً وراء البص، وشعر فجأة أن سرعته تفوق سرعة البص، وبعد قليل تمكن من تجاوز البص، إلا أنه شعر فجأة أن أعضاءه تتمدد بصورة مذهلة. واكتشف بعد قليل أنه تحول إلى بص ضخم وأنه نفسه ـ أو ماتبقى منه ـ يجلس في مقعد السائق، قام بدورة واسعة في الميدان المكتظ لإثارة شهية الجموع المتدافعة وشعر بأنه قد حقق، دفعة واحدة أكثر طموحاته إثارة: لطالما تاقت نفسه لأداء هذا الدور المروع. في النهاية توقف واندفعت الجموع إلى داخله. كان يشعر بأقدام تدوس بقيظ على أردافه. بل أنه شعر بشئ دبق على ظهره بدأ بخدر لطيف واكتشف أن بعض الأوغاد يبصقون السعوط. واندلعت رائحة نتنة مركزة؛ كانت إحد النساء تحمل فسيخاً. وكاد ظهره يحترق حينما ألقى أحدهم عقب سيجارة. وتبول أحد الأطفال خلسة خلف أحد المقاعد، إلا أنه شعر بالسائل الساخن بين ساقيه وقام شخص متطوع بدزر الكمساري، إلا أنه اختفى مباشرة بعد جمع النقود من الركاب.
وعند أول إشارة اندفع بلا هوادة دون أن يكترث للحفر الرئيسة في الشوارع أو برك المياه محققاً حله القديم: تحطيم إشارات المرور. اقتحم الإشارات بكل ألوانها شاعراً بأنه يفضل للمرة الأولى اللون الأحمر للعبور السريع المحفوف بالدهشة. وفي لحظات كانت تزعق خلفه عدة عربات. وبسبب الخوف فقد مات حصان كان يجر عربة (كارو) خرجت من شارع جانبي، تجمد في مكانه ومات واقفاً. وبسبب محاولته تفادي الحصان فقد اضطر أن ينحرف بشدة، فاكتسح شجرة عشر على جانب الطريق، وفي الداخل كانت المرأة التي تحمل الفسيخ، والذي اشترته خصيصاً لأن نفسها تاقت إليه بسبب الحمل، كانت قد وضعت بسبب التدافع المنقطع النظير طفلاً يشبه السمكة بزعانف صغيرة. كان لايزال مندفعاً حينما اضطر فجأة للتوقف، فقد كان الشارع أمامه مغلقاً بعربات الشرطة. وحتى لايكتسح عربات الشرطة اضطر للإنحراف شمالاً فتوغل داخل بيت منعزل مكتسحاً الجدار واستقر داخل المطبخ ـ بعد أن اقتلع شجرتي ليمون من جذورهما ـ حيث كان سكان البيت على وشك تناول الغداء.
وهنا تذكر أنه لم يتناول الفطور، وبسبب عادة الكرم فقد اضطر أان يشاركهم الطعام فيما تناثر الركاب المئة داخل الحديقة. كانت هناك امرأة وضعت طفلاً مشوهاً بصورة السمك وكان هناك أطفال يبكون ورجال يختبرون لحاهم الصناعية للتأكد من أنها لم تسقط، سيدات تبادلن ثيابهن الملونة وشباب ابتلعوا السعوط بسبب المفاجأة. وابتلع أحدهم سيجارة مشتعلة إلاّ أنها لحن الحظ كانت من النوع الرخيص المخلوط بورق النيم الجاف. وكان هناك رجل يتحسس مواطن رجولته بسبب الخوف لأنه كان ينوي الزواج للمرة السابعة. وقد وقف الرجال في صف واحد لتبادل السراويل. وصاح الرجل الذي صار جزلاً لأنه اطمأن على رجولته: سنعيد إلى شخص حقه! وقالت المرأة صاحبة الطفل المشوه: زمن يعيد هذا؟ هنا تقدم دجال متجول عارضاً خدماته. قال بثقة متكبرة: أنا! إلا أن المرأة وجدت عرضه مخزياً فقد اقترح إعادة الطفل، بل وإعادة الفسيخ حتى يتسنى خروج الطفل دون تشويه.
بعد تنتاول طعام الغداء شكر مضيفيه ثم أدار المحرك خارجاً، وهنا اكتشف مضيفوه أنهم كانوا يستضيفون بصاً. ولدى خروجه إلى الشارع ألفى رجال الشرطة القبض عليه وعندما حاولوا انتزاعه ممن داخل البص لم يتزحزح إلا بعد جذب وشد طويل أسفر عن استعادته لشكله البشري بعد أن تقوقع البص، والتصق بجسمه بسبب الجذب المفرط. اقتيد عارياً إلا من السروال الصغير إلى المحكمة. وهناك ووجه بعدة أشخاص، كان هناك مندوب لجمعية الرفق بالحيوان إذ تسبب باندفاعه المهول في وفاة حيوان برئ بالسكتة الدماغية الناجمة عن الدهشة المفرطة والخوف. ثم مندوب لجمعية تنمية البيئة والمصادر الطبيعية والذي أعلن بخطورة: لقد اقتلع شجرة! احتج قائلاً: شجرة عشر ! وهنا أخرج المندوب دراسة من ألفي صفحة مثقلة بالأرقام والإستنتاجات الباهظة عن الفوائد المختبرية لشجرة العشر، وأعلن عن مشروع طموح للإفادة من ثمار العشر لاستخداماتهاكبالونات محلية للأطفال، وبالتالي توفير مبالغ طائلة تستخدم لإستيراد البالونات المطاطية من الخارج. كذلك أثبت أن أخشاب العشر المحسنة تصلح لصناعة الأثاث الفاخر.. أو لصناعة السيوف! وقرأ مندوب عن شرطة المرور مئة مخالفة سجلت للبص آخرها أن البص غير مسجل، وأنه متهرب من الضرائب. وأعلن منوب الجمارك أن البص دخل البلاد عن طريق التهريب دون دفع الرسوم الجمركية.
وفجأة طهر ذلك الشخص المسكين الذي كان يركب دراجة وتسببت الملاءة في سقوطه وتبعثر الخبز في الشارع. كان يحمل الملاءة إلا أنه لم يتمكن من تقديم إفادته إذ فقد النطق! وجاءت المرأة التي وضعت طفلاً يشبه السمكة، واضطرت هيئة المحكمة لرفع الجلسة للتداول بسبب كثافة رائحة الفسيخ. وجاء أصحاب البيت الذي اقتحمه مقتلعاً الجدار وشجرتي الليمون والباب الخلفي للمطبخ. وجاء مندوب عن الإرصاد الجوية لأن اندفاع البص دون هوادة فوق الحفر الرئيسية في الشوارع أدى لحدوث إعتام جزئي في الرؤية نجم عن عواصف محلية صغيرة في الشوارع. وجاء مندوب عن هيئة تنقيب المعادن لأن مرور البص في إحدى الحفر كشف عن وجود معدن البترول الذي تدفق مشكلاً بركة سوداء غطت منتصف الشارع الأمر الذي تسبب في تلوث البيئة. أما هو فقد استطاع أن يتحايل على الأخرس، وبعد أن لفّ ملاءته الخضراء في وسطه انسل بهدوء من المحكمة مستغلاً حالة الإنهماك الشديدة، ثم عاد إلى المطعم وأعلن بالفتور الحازم نفسه: ((واحد فول وصلحو!))
نقلها الصبي الأول هكذا: (واحد فول وصلحو) والتقط الصبي الثاني الطلب وأعلن: (واحد فول)، الصبي الثالث قال للطباخ الذي كان يرتدي جلباباً أخضر قذراً وفي رأسه طاقية حمراء صغيرة: واحد.


احمد الملك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى