أحمد الرواز - الطحـــــان.. قصة قصيرة

بتعاقب رتيب نبعثر اعمارنا . تاخذنا السنوات الى بياض في منابت السواد نركض خلف امانينا . وأذا ما اضعنا اعمارنا نضع حجتنا اننا قادتنا المقادير. ثم نسميها الهوجاء . نبكي على ما بعثرناه من سنين . لكنها تبقى برتابتها تتعاقب . نحتضر في ساعات العودة الى الروح . لكن ارواحنا تتيه بين التبعثر حتى توقضنا من لحظات الاسهاب المذاقات الدمعية في زوايا الفم . فتعود الروح من تبعثرها القديم الى تبعثر جديد . من ماضيها الضارب في الذاكرة المهملة الى حاضر قد لايساوي مذاق دمعة في زاوية فم ألقم الجمر في لحظات اللهاث خلف امنية او هدف ضاع في سفر الحياة المزدحم . او حالت دونه اوجاع آدمية . او امل انطفأ بصيصه . اجمل مالدينا هو التنقل بذاكرة خربة بين شموع انطفأت ونهارات شطبت من اعمارنا لنصل الى حاضر مشطوب ايضاً . كلما اخذتني لحظات الاسهاب والبحث في زوايا الذاكرة الخربة بين ركام الاحداث المغبرة وأسماء مبعثرة لشيوخ تواروا خلف نصائب صخرية عليها خطوط لا تشبه سوى بقايا اسمائهم وذكرى لحظة الموت اما الولادة دائماً مجهولة يعتمد تاريخها على( يقال) اذن هي تواريخ لأناس حقيقيون دارت عليهم رحى الحياة بعد ان سقطوا بين حجريها . وآخرين ذابوا في احزانهم الحامضية ولم يبق لهم سوى الترحمات . انها ذاكرة لاتدفن موتاها . احس بارتجافة تسري في جسدي انه بردي القديم وطقطقة اسناني . وتزكم انفي رائحة عهدتها منذ القدم احس بها مع كل صباح . تلك الرائحة التي كان جدي يوبخني عليها . انها رائحة البول الطفولي لازلت اذكر ذلك الصباح الضارب في القدم رغم تزاحم الصباحات بأحداث شتى مع تشابهها في ان الشمس تشرق صباحاً . كنت اعتقد ان خيوط الشمس الحمراء هي اصابع نار تحرق اطراف عباءة الليل فيولي هارباً امامها لكنني جئت ابحث في ذاكرة اهملتها ثلاثون عاماً لأصحح هذا الاعتقاد الطفولي الخاطيء . مع عدة اعتقادات خاطئة سار خطئها معي حتى ادركت حقائقها فكانت تتباين في مذاقاتها بين مرة ومدهشة . كنت ضارباً في الوهم . فمن يستطيع ان يعيد لي ذلك الصباح ويأخذ مني صباحات حاضري . كان ذلك الصباح العالق في ذاكرتي مع احداث ارهقها كثر التقلب في لحظات الاسهاب . لازلت اذكر حيث دلفت جدتي قبل ان تستيقظ (( بنت الجرف )) لتردد لغط الناس دفعت باب الغرفة الطينية بعد ان اخرج عن صرير كان محبوساً في مزلاجاته لتدخل الكتلة السوداء . كنت اراقبها كثيراً واخافها كثيراً اتصور سعلاة الخرافة التي اجبرت ان اسمعها ليلاً تلك التي اكلت الرجل من ( رجليه ) ورغم ايماني بأن الابريق النحاسي الذي انتظر الصباح على الجمر سيكون اول من يحرق اصابع جدتي . هي تصورات . لكنها لاتتألم لأن اصابعها تصلبت بفعل عوامل الزمن من سنوات ( مص الابهام ) وحتى صيرورة الكبر مروراً بكل الاحداث التي شهدتها من (سقوط الترك ) و( وقتلت الملوك ) . اذكت الموقد الذي اصبح كومة رماد بالحطب لتنفث فيه فتتباعد منه اعمدة الدخان تغطي جو الغرفة الطينية التي اصطبغ سقفها الخوصي باللون الاسود حتى بيوت العنكبوت اصطبغت باللون الاسود فغدت كأنها خيم عزاء . تهمهم جدتي كأنها تكلم جدي لتوقضه الى صلاته لكني لم افهم منها شيئاً . ربما هي همهمات لاتعني شيئاً وما ان تخرج جدتي حتى يستيقظ جدي ويبدأ بتمتمات يهمس بها لنفسه كنت اسمع منها - اصبحنا واصبح الملك لله ثم يكملها بتمتمات لم افقها او لربما تعلمها هو هكذا . ويعالج بيده ابريقه النحاسي الذي كان ينام على الجمر حيث انا وجدي وهو ثالثنا . كنت اسمع ازيزه قبل ان انام واحياناً احس بحديثه وسمره مع الموقد انها علاقة الابريق والنار عندما استيقظ في الليل بعد تململ او يوقضني خوفي عند سماع صوت( ابن آوى) الذي يبحث عن دجاجه اهملها اصحابها لتبيت على حائط فتكون وجبةً تسد جوعه الشتوي القاتل او بول طفولي اشتعلت النار واكل الموقد لقمته . دابه لايبقي ولايذر. بدأ جدي بالصلاة . وانا جلست قرب الموقد خلت انني اجفف ثوبي المبتل بولاً . انهى جدي صلاته كما بدأها تمتمات مبهمة وقد تسمرت نظراته في َ وقد ملئت رائحة البول جو الغرفة بعد ان تطاير البخار من ثوبي المبتل . وليبدأ جدي بتوبيخي المعتاد من صغري
- الا تستطيع ان تخرج للتبول ليلاً ألا تكبر وتترك هذه العادة الطفولية.
لقد ألفت هذا التأنيب .. جيدا اعرفه سيأكل خبزته ويركب مطيته التي من الاكيد ان جدتي ملئت معالفها بالقش ليلا يقولون ان علف الليل يسمن الدابة لتعاود الكرة بعد ان القمت الموقد حطباً . رغم توبيخه لي الا انه لن ينسى ان يوصي جدتي بأن تشتري لي السكاكر عندما يمر( العطار ) الأشيب صاحب الدابة البيضاء لازلت اذكره يسير مارا بالقرى يبيع عطارته وينادي على مايحمل يقول المسنون ( العطار ينادي على ما بجعبته ) انها عملية تبادل حيث الشراء بالبيض والصوف بدل النقود .
- ايه جدي مسكين انا ثمرة تعب السنين وقطاف عمره . فأبي ذهب مع ( العصملي ) ولم يعد وأمي توارت خلف احزانها على ابي حيث الترحمات . كان على جدي ان يصل الى ماكنة الطحين قبل بزوغ الشمس ليبدأ نهاره المزدحم بغبار الطحين وبقع الزيت وذلك الصوت الذي كنت اسمعه لهدير المطحنة اتصوره مثل سعال الرجال المسنون او نقرات طبل بعيدة مسكين جدي كأنه رجل غباري التصقت على لسانه تلك الكلمة التي يرددها طوال النهار حب... حب ....حب فهو لايريدها ان تدور على نفسها لسنوات طويلة والرحى تدور لتطحن كل مايقع بين حجريها . ودأب جدي هو الذهاب باكراً . ودأب الحياة ان تغير اشياء كثيرة فقد فارقت عادتي الطفولية ومات حمار جدي وصارت جدتي اكثر شبهاً بالسعلاة بعد ان تهدمت اسنانها وبدت شفتيها كأنها جدار طين مهدم واضاعت احرف كانت تجيد لفظها حتى صارت تنطقها مثلي عندما كنت اتبول . مع ذلك لازالت تتمنطق بذلك النطاق الذي حاكته من خيوط الصوف منذ زمن حينها حاكت لي ( مقلاع ) واستحسن حياكتها جدي مما دفع كثير من الاطفال بأن يجلبوا لها الصوف لتحيك لهم (مقاليع ). لازالت تنهض مبكرة وتوقض جدي لصلاته بل لازلت اسمع منها تلك الدمدمات القديمة عندما تدلف الى الغرفة التي اعدنا بناءها بعد الفيضان الكبير واصبحت اكثر اضاءة مما قبل حتى ان طائر ( السنونو ) ( الخشاف ) بنى فيها عشاً يأتي كل صيف ليضع بيوضة . المهم ان الباب لازال له صريره المعهود حتى وان تغير نغمته بعد ان استبدلنا الباب الخشبي بباب حديدي . حين تدلف جدتي يعزف لها معزوفة الفتها من سنين . لقد تآكلت تلك المسكينة ودارت عليها حجراتها ربما على لاشيء سوى رسالتها في الحياة ففي الختام لايحصل احد على شيء 0( سوى الكفن) و قدر اداءه رسالته والا بقدر ماحصلت عليه انا بعد مضي سنين هو انني عرفت ان ابنة الجرف هو الصدى الذي يردد النداء وراء كل من ينادي وانني تعلمت تدوير رحى جدي . اشيب جدي ولازالت الرحى تدور حتى ان حاجباه اصطبغا ببياض حقيقي لا من أثر الغبار .
- ايه ... رحمك الله ياجدي لم يبق منك سوى انا وهذه الخردة الخربة ولا زالت بنت الجرف تردد كل صوت ولا زالت الصباحات عالقة في ذهني ابتداءً من منامي مع جدي مروراً بتلك الليلة الربيعية . لازلت اشعر بمقص ذلك الرجل الذي يعتمر كوفية صفراء يتكلم بلكنة غريبة لايفهم منها سوى(( اللهم صلي على محمد وال محمد)) ثم يعقبها ب((. ماشاء الله )) مكسر العربية عندما افرجوا له عن ساقي الصغيرتين ليبدأ بقص زائدة صغيرة سلكت بعده مجرى البول بعد الم ووجع لم اعهده من قبل انه المخاض الاول للرجال . لم انتبه الا والمذاق الملحي لدمعة انحدرت في زاوية الفم لتمتزج مع اللعاب فقد اخرجتني هذه الدمعات من بئر عميق لتوصلني الى تاريخ مشطوب وحاضر ملحي مذاقه حاضر يتصل بما مضى قد لايختلف عنه الا في العزف الذي يتناغم مع الروح عند العودة الى القعر الحقيقي . ربما كانت هذه الدموع رسائل شوق لأعزائنا الذين دارت عليهم حجرتي الرحى والحنين الى دفء الموقد واشتقت الى تلك الدمدمات المبهمة وصير مزلاجات الباب اشتقت الى رائحة خبز التنور و(( ملطوشة )) الزبدة على كسرة خبز تفوح منها رائحة الحطب المحترق دائماً يصطادنا من رش بالسكر زبدته . مرورا بيوم مات جدي وتوقفت ماكنته عن السعال وصمتت بنت الجرف ورحى الحياة لازال تدور. دائما يقول
-(( لاتقف بين حجرتي الرحى ))
لكن هيهات هيهات دأبها من آدم حتى جدي . فنحن خليقة عادات ومثقلوا وأرث . عدت من تيهي خلف اسوار التذكر مثقلاً بواقع فيه صوت ماكنتي الذي يصم الآذان حتى غدوت انا رجل غبارياً مبقع ببقع الزيت من خردتي التي ورثتها عن جدي . والتصقت على شفتي كلمة جدي المعهودة حب... حب... فانا لا أريدها ان تدور على نفسها وهي تسعل كالمسلول .



عن نادي القصة السعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى