دينا نبيل - تعاريج طقسية

اعتادت نشر الجوارب رأسًا علي عقب فوق شتلات الزرع في الشرفة الخلفية..
فخسارة تلك القطرات التي تنزل من الجوارب أن تذهب هباءً دون أن يستفيد منها كائن ما كان حتي وإن كان زرعًا، طالما لم تفلح يداها يومًا في عصر الغسيل جيدًا.
منذ أيام زواجها الأولي أصبح لزامًا عليها غسل جوارب زوجها بعد عودته من العمل مباشرة، فهي تخشي المفاجآت.. مفاجأة أن تستيقظ لتعد له ملابسه صباحًا فلا تجد ما يناسب ألوان الملابس، فصار غسل الجوارب طقسًا مقدسًا لا تستطيع عنه تقصيرًا، حتي في يوم الجمعة، بل وقد رسمت لنفسها استراتيجيات جديدة في تعليقها ونشرها فرادي أو أزواجًا بحسب اللون والطول والحجم.. استراتيجيات تطورت علي مدي خبرة زواج يزيد علي العشرة أعوام.
لا يخطر ببالها أيُّ نبت سري قد ينتج عن تمازج الماء المشرب بالصابون مع براعم الشتلات الصغيرة، ما يقلقها حقًا هو تسرّب قطرات الماء إلي أرضية الشرفة لترسم تعاريج تخترق البلاط الأملس الذي مسحته منذ برهة.
تأكدت من وضع الجوارب واتجهت حافية القدمين نحو المطبخ..
بقدميها تتحسس تجمع الأتربة علي الأرضية.. وتستعد لوضع خطّة محكمة لتثبيت أي قادم غير عابئٍ بحذائه المغبّر قبل الدخول إلي مملكتها، فسعت تُحصّن المداخل والمخارج بالخرق المبللة عند عتبة كل غرفة وتغلق النوافذ لمنع مغافلة الأتربة إياها بالتسلل إلي الداخل..
وبعد الغلق والإحكام أيقنت نجاح قدراتها التنظيفية.. لتعقبها المكافأة الرمزية تعويضًا عن تجاعيد أصابعها المبللة..
إلي جوارها تضع كوب الشاي بالحليب.. كطقس يلي عملية النظافة الشاقة. ليس مجرد كوب دافئ تشربه إنه أكثر من ذلك.. احتواء بعد احتياج.. ولم لا؟!
لكنّه اليوم يأتي بطعم نشوة افتقدتها ليلة أمس إثر نوبة أرق طويلة، أطاحت بثلثي حصتها من النوم..
لا تذكر فيما كانت تفكّر وقتئذٍ..
أفكار متضاربة.. غداء يوم الجمعة المميز الذي نسيت أن تخرج من أجله اللحم المفروم من (الفريزر).. ابنتها التي ستصطحبها إلي درس العلوم بعد الغداء.. مصير الشكوي التي تركتها علي مكتب رئيس القسم.. وقسط المكنسة الكهربائية الذي يحين موعده بعد يومين. أخذت عيناها تدور حتي استقرت علي السقف تتأمل تعاريج تشقق قشرة حائطه .. تذكّرت أنها ستحتاج إلي ترميمه بعد انتهاء الشتاء، ربما تتصل بجارتها لتكشف عن سباكة حمامها، لعلها هي السبب!..
مدت ساقيها علي الطاولة المقابلة.. كانت تري تعاريج مماثلة تنتشر في قدميها وتمتد إلي أعلي الساقين مثل خريطة مليئة بمرتفعات ومنخفضات تشق عروقًا مزرقة وأخري دموية كأنهار لا مبتدأ لها ولا منتهي..
تسلل إليها تنميلٌ يشبه موجات النوم الذي كان يفلت من بين جفنيها ليلة أمس..
رشفة وراء الأخري ويعود الخدر إليها ..
يسري دافئًا في كل عصب ووتر فتنفرج علي إثره الدماء كسيل مندفع في خرائط ساقيها وقدميها المتكتلّة بل وإلي رأسها الذي يقتات عليه الصداع فيحلّها من عزائم الضغط العصبي ويضرب عليها استرخاءً ورديًّا يفعل برأسها فعل المنوّم المغناطيسي..
أحست بدفءٍ يمسك بتلابيب رأسها ويتجه نازلًا نحو فخذها وينتقل إلي ساقها..
بدأ دافئًا ثم زاد لهيبه احتراقًا.
كان الكوب قد مال من يدها وانسكب ما به علي ملابسها ليطال الأرضية ويشق طريقه متواطئًا مع حدود البلاط المتعامدة.. فيسير شرقًا وغربًا.. راسمًا تعاريج داكنة جعلتها تقفز من فورها إلي المطبخ لتتعقب السائل المنسكب قبل وصوله إلي السجادة.. لم تتمكن من منع جُرم المغافلة التي افتعلها كوب الشاي بالحليب، فلملمت السجادة وانطلقت نحو الشرفة الخلفية استعدادًا لغسلها..
بسطتها علي الأرض.. حينما رمقتها البراعم تحت الجوارب بنظرة متهدلّة معاتبة.. زهراتها منكّسة الرأس وتفوح منها رائحة الصابون.


4/14/2018


* نقلا عن جريدة أخبارالادب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى