جواد علي - الفلسفة الإسلامية المتأخرة - 2 -

وكتاب الأسفار من الكتب الفلسفية المهمة، وقد أكسب مؤلفه شهرة عظيمة جعلته في عداد كبار فلاسفة الإسلام. فإنك إذا ما قرأت الكتاب شعرت بأهمية المؤلف وبالمسائل العويصة المدونة فيه. وبالأفكار والنظريات الفلسفية العويصة المسطرة في صحائف السفر العظيم. تذكرك بكتب ابن سينا أو محي الدين بن العربي أو الطوسي وبأمثالهم من فلاسفة المسلمين. وقد غلط المستشرق كوبينو في ترجمة عنوان الكتاب إذ توهم فظن أن المقصود من (الأسفار) السياحات ولذلك اختار كلمة والحال أن مقصود المؤلف من كلمة (أسفار) جمع (سفر) ومعناها الكتاب. ومقصود المؤلف من (الأسفار الأربعة) الكتب الأربعة لا السياحات الأربعة كما ظن ذلك هذا المستشرق المذكور.

راجت كتب الملا صدرا رواجاً عظيما وشرحت عدة شروح وظلت آراؤه فيما وراء الطبيعة تحتل مكاناً بارزاً في عالم الفكر الإسلامي حتى اليوم. ولا زالت كتبه تستعمل في الجادة القديمة لمن تقدم في موضوع الفلسفة كما تستعمل كتب ابن سينا أو ابن رشد. وقد أثرت آراؤه هذه على الأخص في الهند وإيران والأفغان فأوجدت بعض المذاهب الإسلامية التي لم تلبث أن أصبحت مذاهب دينية ذات مناهج مستقلة مثل مذهب (الشيخية) المنسوب إلى الشيخ أحمد بن زين الدين الإحسائي المتوفى سنة 1243 للهجرة ولسنة 1817 - 1828 للميلاد.

تأثر الشيخ أحمد الإحسائي بآراء الملأ صدرا كثيراً فشرح بعض كتبه مثل كتاب (الحكمة العرشية) وكتاب (المشاعر) وهو عيال على الملأ صدرا على الأخص في موضوع ما وراء الطبيعة. وبالنظر إلى ما كان يظهره من غلو في بعض الآراء نفر الناس منه والتمس الشيخ حاميا له ومعيناً، وكان ذلك الحامي هو الأمير محمد علي ابن فتخلعي شاه حاكم مدينة (كرمانشاه). ولما توفي هذا الحاكم اضطر إلى مغادرة إيران والالتجاء إلى (الحائر) المقدس في العراق حيث ألف كثيراً من كتبه وشرح ما راقه من كتب الملأ صدرا المهمة وبعض الكتب الأخرى. وقد عرف اتباع الشيخ أحمد باسم (الشيخية) وهم جماعة خاصة ظه في جماعات الشيعة في إيران. تزعمهم تلميذ الإحسائي ومنظم صفوف الشيخية (السيد كاظم الرشتي) ابرز تلاميذ الإحسائي على الإطلاق. (توفي سنة 1844م). وكان هذا السيد من أردبيل ملجأ الشيخ صفي الدين الأردبيلي المتصوف المشهور وجد الأسرة الصفوية والذي ينسبه الكتاب إلى الإمام موسى الكاظم الإمام السابع على ترتيب الشيعة الأثني عشرية من آل البيت.

يروى عن الشيخية أن الإمام تجلى للسيد كاظم الرشتى في ليلة من الليالي وكان عمره إذ ذاك اثني عشر عاما وأشار عليه بوجوب الذهاب إلى مدينة (يزد) إحدى مدن إيران والالتحاق بحاشية الشيخ أحمد الإحسائي الذي كان يعظ ويدرس في تلك المدينة. وقد اتبع السيد أمر الإمام وذهب إلى المدينة وأصبح من تلاميذ الشيخ وأصحابه ومن أقرب الناس إليه. ولما غادر الإحسائي إيران ثم ترك العتبات المقدسة في العراق لأداء فريضة الحج توفي في الحجاز ودفن بالمدينة في جوار قبور الأئمة بالبقيع سنة 1243 للهجرة. وأصبح السيد كاظم الرشتى خليفة الإحسائي والنائب منا به في الأمور. فنظم شؤون (الشيخية) وألف في الدفاع عن عقيدة أستاذه وفي توضيح قواعد المذهب الجديد إلى أن توفي بمرض أصابه ببغداد دون أن يتمكن من النص على تعيين شخص. يكون خليفته من بعده وزعيم الشيخية الديني المطاع بالنص والتعيين.

فانصرفت جماعة منهم إلى الميرزا علي محمد الشيرازي (ولد سنة 1820م - قتل سنة 1885م) الذي جاء بتعاليم جديدة تلتقي في الفكرة التي استقى منها الملأ صدرا تعاليمه والشيخ أحمد الإحسائي والبابية عيال على الشيخية في آرائها وفي أفكارها المغالية ولا سيما في نظرتها إلى الإمام المهدي وعلاقة الإمامة بالإنسان

ومن أقوال الإحسائي في الحشر والمعاد قوله (إن هذا البدن المحسوس المركب من العناصر الأربعة يفنى ويزول ولا يعود والمحشور في القيامة هو البدن النومي الذي تراه في منامك. كما يقول إذا دخلت في النوم خلعت الجسد العنصري وبقيت في الجسد الهور قليائي وجميع أجسام الجنة والنار من قبيل الصور النومية وقد أنكر معراج النبي بالبدن العنصري البشري المحسوس (مستدلا بأن الصعود بهذا البدن يلزم منه الخرق والالتئام تبعا لفلاسفة) وفسر المعراج تفسيرا يختلف عن التفاسير المألوفة التي تحاول التوفيق بين العقل والنقل.

وينسب إليه الغلو في الأئمة حتى أنه أشركهم مع الله في الخلق وفي القدرة وفي مسائل أخرى هي من صفات الألوهية والربوبية؛ لذلك حكمت عليه طبقة العلماء بالكفر والخروج عن الدين وكتبت بذلك وثيقة وضعتها في كربلاء إحدى المدن المقدسة في العراق.

ولم يكتب الرواج للمذهب (الشيخي) على عكس (البابية) التي نشأت في أحضان (الشيخية) ونمت بتربتها. والظاهر أن للتنظيم وقدرة زعماء البابية على إحكام أساليب الدعاية وتوجيه أنظارهم نحو العالم الخارجي المتعطش لكل فكرة غريبة هي التي دعت إلى رواج هذا المذهب الغريب. أما المذهب (الشيخي) فلم يظهر في وسطه زعيم قوى بعد وفاة خليفة (الإحسائي) السيد كاظم الرشتي يستطيع الاستمرار عل دعامة ذلك المذهب على الرغم من الجهود التي بذلها بعض علمائهم من أمثال الحاج محمد كريم خان الكرماني والملا محمد الماقاني ? ? ومع ذلك فلا زالت هنا لك جماعة صغيرة مشتتة بين العراق وإيران وسواحل الخليج تنتمي إلى مذهب الإحسائي ولكنها لا تتظاهر بذلك ولا تجهر به.

وأكثر الكتب المؤلفة في عقائد (الشيخية) هي من تأليف الشيخ أحمد الإحسائي نفسه الذي كان مؤلفا وكاتباً نشطا في التأليف، ومن تأليف تلميذه وخليفته السيد كاظم الرشتى والكرماني والماقاني ومن ظهر من رجالهم. وقد طبع بعضها ولا سيما كتب الشيخ أحمد الإحسائي في إيران والهند. ولدى الأستاذ المؤرخ المحامي عباس العزاوي وهو عالم ومن الهواة في جمع الكتب مجموعة مهمة من كتب الشيخية منها ما هو بخط الإحسائي نفسه، ومنها ما هو بخط السيد كاظم الرشتى أو بخط الزعماء الشيخيين.

حاول الملا صدرا كما حاول جماعة إخوان الصفا وبقية الفلاسفة الإسلاميين وقبلهم الفلاسفة المسيحيون التوفيق بين الفلسفة والدين، وبين العقل والنقل، وبين فلسفة اليونان وبين دين الإسلام. والملا صدرا ميال إلى آراء اليونانيين بل هو يؤمن بها إيمانا كليا ولكنه مسلم من جهة أخرى، وفي محيط إسلامي كانت الصوفية في ذلك الوقت تتحكم فيه. هو صوفي في التفكير والحياة والميول. ويذهب مذهب محي الدين بن العربي في آرائه ولا سيما في فكرة (وحدة الوجود).

ولعل وحدة المزاجين مزاج ابن العربي ومزاج الملا صدرا هي التي جمعت بين الملا صدرا وبين المتصوف الشهير على تباعد الوقت واختلاف العقيدتين - وهي التي جمعت بين الملا صدرا وبين بقية المتصوفة عموما. والظاهر أن الملا صدرا كان يؤمن بعقائد ابن العربي وبآرائه إيمان المقلد المعجب تراه يقتبس كلمات ابن العربي وأمثاله وأفكاره ويبثها في كتبه كما لو كان يقتبس من كتاب من الكتب المقدسة السماوية. ويدل ذلك في الوقت نفسه على اطلاعه الواسع على كتب ابن العربي ومؤلفاته على غموض العبارة وصعوبة الأفكار والأسلوب. وابن العربي من مبدعي مذهب (وحدة الوجود) في الإسلام والملا صدرا ممن يعتنق هذا المذهب ويدين به. يروى عن ابن العربي أنه كان يقول (كفر النصارى ليس بقولهم أن المسيح هو الله بل كفرهم لقولهم أنه ابن الله). وقال صدر الدين في أول رسالته سريان الوجود (ثم اعلم أن ذلك الارتباط كما مر ليس بالحالية ولا بالمحلية بل هي نسبة خاصة وتعلق مخصوص شبه نسبة المعروض إلى العارض بوجه من الوجوه وليس هي بعينه كما توهم. والحق أن حقيقة تلك النسبة والارتباط وكيفيتها مجهولة لا تعرف). وقال (الأٌقرب في تقريب تلك النسبة أعنى إحاطته ومعيته بالموجودات ما قال بعضهم من أن من عرف معية الروح وإحاطتها بالبدن مع تجردها وتنزهها عن الدخول فيه والخروج عنه واتصالها به وانفصالها عنه عرف بوجه ما كيفية إحاطته على ومعيته بالموجودات من غير حلول واتحاد ولا دخول واتصال ولا خروج وانفصال وإن كان التفاوت في ذلك كثيراً بل لا يتناهى ولهذا قال من عرف نفسه فقد عرف ربه).

وما الناس في التمثال إلا كثلجة ... وأنت لها الماء الذي هو فيه

فالملا صدرا على جادة ابن عربي في (وحدة الوجود) ويشاركه في آرائه الصوفية الأخرى. ولكنه كان من جهة أخرى حذراً جدا في كلامه لبقا في أساليب التعبير. وكان إذا أراد البحث في قضية من القضايا الحساسة تعمد التعقيد والإبهام والإجمال خوفا من الاصطدام بطبقة (المجتهدين) الذين ناهضوا التصوف والفلسفة والمتفلسفين واستحوذوا على الشاه وعلى بطانة الشاه.

استحوذ رجال الدين و (أصحاب الاجتهاد) على الرأي العام وتدخلوا في شؤون الحكومة حتى أصبحت الحكومة لهم والحكم في القضايا المدنية إليهم. وتغلبوا شيئاً فشيئاً على أصحاب الذوق وعلى رجال التصوف الذين استأثروا بالحكم في بادئ الأمر حين تشكلت الدولة الصفوية، تلك الدولة التي نشأت على أسس صوفية وعلى دعوة منظمة سياسية تسترت باسم التصوف والدروشة وذكر الله العظيم. ولكنها كانت تبث الدعوة وتوجه الأنظار سراً إلى عمل سياسي منظم قام به أنجال صفي الدين الأردبيلي الصوفي والزاهد المشهور واحد السلاطين الصفويين.

ومما ساعد تفوق رجال الدين على طبقات المتصوفة الفوضى الأخلاقية التي انتشرت في نوادي المتصوفة وأوكارها من (تكايا) و (خانقاه) وفي صفوف (القلندرية) و (الدراويش) إذ تحول (الذكر) الديني إلى رقص إيقاعي خليع، وتحول (الغزل الإلهي) إلى غزل شهواني مبتذل حتى اضطر المتصوفة أنفسهم إلى مكافحة هذه الطرق فيها كما فعل الملا صدرا نفسه وهو في عداد المتصوفة في رسالته (كسر أصنام الجاهلية).

وصبغ متصوفة إيران ممن سبقوا الملا صدرا أو ممن جاءوا من بعده ابن العربي وإخوانه المتصوفة بصبغة شيعية فجعلوه من كبار المجاهدين في خدمة التشيع وآل البيت وأحاطوه مع أمثاله كما أحاطه متصوفة السنة بهالة من التبجيل والتقديس. وكان الأحرى بهؤلاء أن يعدوه مع إخوانه في قائمة خاصة لا هي سنية ولا هي شيعية؛ قائمة يسجل فيها مع أهل الباطن وأهل الآراء الخاصة

على أن أهل الفقه من رجال الدين ممن اشتركوا في محاربة التصوف ورجاله لم يرضوا عن ابن العربي ولا عن زملاء ابن العربي ولم يخفوا حنقهم عليه. وقد حار المترجمون فيما بعد واضطروا إلى نقل الرأيين المدح والذم على الجمع بين الضدين في مكان واحد.

(يتبع)

جواد علي



مجلة الرسالة - العدد 633
بتاريخ: 20 - 08 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى