محمود عزت عرفة - الألغاز في الأدب العربي (3)

ألغاز الفقهاء والنحويين

(1) كان الفقه الإسلامي في نموه، وانشعاب فروعه من أصوله، أشبه شيء بالدوحة العظيمة أنشبت في الأرض جذورها ثم تطاولت إلى السماء بهيكلها، وأرسلت أفنانها مكتسيات بالورق النضر في كل متجه فلم تدع تحتها مكاناً ضاحياً أو موضعاً غير ظليل

وفي العصر العباسي وما تلاه من عصور التدوين والتصنيف توسع الفقهاء في دراسة الفروع توسعاً لم يتركوا معه شاردة ولا واردة إلا أثبتوها؛ وراحوا يفتنون في افتراض مواطن الشبه، ثم الإفتاء فيها بما يزيل لبسها، افتناناً ولجوا به باباً من التكلف والصنعة لم يحمد الكثيرون لهم مغبته لما قد صرفهم إليه من الحفول بالتوافه واستنفاذ قوى التفكير فيما لا تعظم جدواه أو ينفع كثيراً علمه

وقد أشرنا فيما قبل إلى ذيوع ما أسموه فتيا فقيه العرب؛ ونذكر هنا أن جلة العلماء ورؤساء المذاهب منذ القرن الثاني لم يسلموا في مجالسهم وحلقات دروسهم ممن يتعرض لهم بأسئلة يرمي بها إلى تعجيزهم، ويذهب فيها مذهب التعمية والإلغاز على نهج فتاوى فقيه العرب

ولم يكن بد لهؤلاء الأئمة من أن يجيبوا وإن صرفهم ذلك لحظة أو لحظات عما هم بسبيله من البحث المجدي والتحقيق المفيد

قال الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي - المتوفى سنة 606هـ - في كتابه مناقب الإمام الشافعي: اعلم أنه نقل أن الشافعي سألوه في بعض المسائل بألفاظ غريبة، فأجاب عنها في الحال بألفاظ عربية ونحن نذكر بعضها. أحدها: قيل له: كم قرء أم فلاح؟ فأجاب على البديهة: من ابن ذكاء إلى أم شملة. والمراد بالقرء الوقت، وأم فلاح الفجر وهو كنية الصلاة. والسؤال واقع عن مدة وقت صلاة الفجر؛ وقول الشافعي رضي الله عنه من ابن ذكاء أي من وقت الصبح وهو كنيته، إلى أم شملة وهي كنية الشمس أي إلى طلوع الشمس. . . وسئل: هل تسمع شهادة الخالق؟ قال: لا ولا روايته. والخالق الكاذب قال تعالى: (إن هذا خلق الأولين) وأورد الفخر الرازي أمثلة أخرى، ثم ختم بقوله: فلنكتف بهذا القدر، إذ لا يمدح الشافعي بمثله! (ب) وقريب من ألغاز الفقهاء وفتاويهم - وإنهن لكثر - ألغاز أئمة اللغة

على أن هؤلاء لم يكتفوا بابتداع الألغاز ابتداعاً، أو جمع ما قيل منها مقصوداً به التعمية حقيقة، وإنما أضافوا إلى ذلك أشياء من كلام العرب فطنوا إلى إمكان إيجاد التعمية فيها، وإن لم يقصد قائلوها ذلك. وأكثر هذا أبيات من الشعر القديم (لم تقصد العرب الألغاز بها وإنما قالتها فصادف أن يكون ألغازاً. وهي نوعان: فإنها تارة يقع الألغاز بها من حيث معانيها وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب). ويسمى القسم الأول أبيات المعاني، ومن أقدم أمثلتها قول الشاعر - يصف عقاباً صعد إلى موضع وكرها في يوم عاصف الريح:

ومحجوبة أزعجتها عن فراشها ... تحامي الحوامي دونها والمناكب

وخفاقة الأعطاف باتت معانقي ... تجاذبني عن مئزري وأجاذب

ومن جياد أبيات المعاني في شعر المتأخرين قول النواسي يصف الكرم:

لنا هجمةٌ لا يدَّري الذئب سخْلها ... ولا راعها غضُّ الفِحالة والحظرُ

إذا اختبرت ألوانها مال صفُوها ... إلى الحوِّ إلا أن أوبارها خُضُر

وقوله من قصيدة يمدح فيها الفضل بن يحيى:

إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحْضَرميَّ الملسَّنَا

قلائصُ لم تعرفْ حنيناً على طَلي ... ولم تدْرِ ما قرعُ الفنيق ولا الهِنا

قال ابن رشيق: (فذكر أن قلائصهم التي امتطوها إليه نعالهم، فأخرجه كما ترى مخرج اللغز، واتبعه أبو الطيب فقال:

لا ناقتي تحمل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها

شراكها كورها، ومشفرها ... زمامها، والشسوع مِقْودها

ومن أبيات المعاني قول شاعر يصف أيام الزمان ولياليه (وهي الأسبوع):

سبعٌ رواحلُ ما ينخْنَ من ألونا ... شيمٌ تُساق بسبعة زُهْر

متواصلات لا الدؤوبُ يملُّها ... باقٍ تعاقُبها على الدهر

ولأبن اسحق الجرمي (توفى 225هـ) في دودة القز:

وبنات جيب ما انتفعت بعيشها ... ووأدتُها فنفعْننَى بقبور ثم انبعثن عواطلاً فإذا لها ... قرن الكباس إلى جناح طيور

وقال صرّ در ملغزاً بجرة (توفى عام 465هـ):

ذاتُ أيدٍ ثلاثة أبدَ الدهْ ... ر ترى فوق رأسها أيديها

شربتْ ما سقيتهَا من شراب ... ثم تسقيك مثل ما تسقيها

خَرْتُ آذانها مَغابنُ أيدي ... ها ويافوخُها مقرٌّ لمفيها

ولأبن الخشاب بلغز في كتاب (توفى سنة 567هـ):

وذي أوجه لكنه غير بائح ... بسر، وذو الوجهين للسر مظهر

تناجيك بالأسرار أسرا وجهه ... فتفهمها ما دمت بالعين تنظر

وقال شاعر يلغز في (الإبرة):

سعت ذات سَمّ في قميصي فغادرت ... به أثراً، والله يشفي من السمِّ!

كست قيصراً ثوب الجمال وتبَّعاً ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم

وللحاتمي في الباب (توفى عام 388هـ):

عجبت لمحرومين من كل لذة ... يبيتان طول الليل يعتنقان

إذا أمسيا كانا على الناس مرصداً ... وعند طلوع الفجر يفترقان

ألغاز في اللفظ والتركيب والإعراب

مرت بنا أمثلة مختلفة لأبيات المعاني قديمها ومحدثها. . . أما الضرب الثاني من ضروب الألغاز وهو ما يستعان فيه بالأغراب في (اللفظ أو التركيب والإعراب) فذلك ما تتضاءل جودته أمام النوع الأول ويصغر قدره دونه

وإن أثر التكلف والصنعة ليظهر فيه ظهوراً لم تعرفه العربية في عصورها المتقدمة. وهو لا يعدو أن يكون - في أكثر أمره - تمويهاً لفظياً سهل الإدراك قليل العمق، لا يصعب على السامع فهمه، ولا على المنشئ إيراد مثله

ومن أقدم نماذجه التي تلمسها اللغويون في شعر الأوائل. قول الفرزدق:

يفلِّقنَ هاماً لم تنله سيوفنا ... بأسيافنا هام الملوك القماقم

قال ثعلب: ها حرف تنبيه ومن استفهام. قال مستفهماً: من لم تنله سيوفنا؟ وتقدير البيت: يفلقن بأسيافنا هام الملوك القماقم. قلت: فيكتب البيت هكذا: يفلقن (ها، من لم تنله سيوفنا؟) =بأسيافنا هامَ الملوكِ القماقم

وقال آخر:

عافت الماء في الشتاء فقلنا ... برديِّه تصادفيه سخينا

قال السيوطي: جوابه أن الأصل (بل رديه) ثم كتب على لفظ الإلغاز

ومن ذلك قول الآخر:

لما رأيت أبا يزيد مقاتلاً ... أدع القتال وأشهد الهيجاء

قال: يقال أبن جواب لما؟ وبم انتصب (أدع)؟ ثم أوضحه بما خلاصته أن يكتب البيت هكذا. لن - ما رأيت أبا يزيد مقاتلا - أدعَ. . . الخ

ومن ذلك أيضاً قول الشاعر:

أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم

معنى البيت: أقول لعبد الله - لما سقاؤنا وهي أي ضعف ونحن بهذا الوادي - شم، أي شم البرق عسى يعقبه المطر. . .

ونلاحظ أن هذا الضرب الأخير من الألغاز اللفظية لقي أنصاره والمتشيعين له منذ القرن الخامس الهجري فما بعده؛ وراج على ألسنة النظامين والسجاعين ممن آثروا جانب اللفظ على جانب المعنى، وأنفقوا مجهودهم في المحسنات البديعية والحلي اللفظية يرصعون بها صفحات منثورهم ومنظومهم. وكأنما الضرب الأول من أبيات المعاني قد ذهب بذهاب المطبوعين من أدباء اللغة، وذوي القرائح المبتكرة فيها. وبقى هذا الضرب الأخير من التلاعب بالألفاظ يتمم الصورة الباهتة لحالة الأدب في عصور انحطاطه، وهو كما قلنا أيسر تأليفاً وأقل عمقاً من سابقه. ومن أمثلته المتأخرة قول ابن نباته ملغزاً في (القطائف):

أحاجيك، ما حلو للسان وإنه ... لأبكم إذ تعزى إليه المعارف

يُرى جالساً في الصدر ما كان كاملاً ... فإن نقصوه فهو في الحلْقِ (طائف)

وللشريف فتح الدين القنائي يلغز في (كمون):

يأيها العطار أعرِبْ لنا ... عن اسم شيء قل في سوْمكْ

تبصره بالعين في يقظة ... كما يرى ب (القلب) في (نومك)

وذلك أن مقلوب أحرف (نومك) هو (كمون). . .

وقال صلاح الدين الصفدي ملغزاً في (الفيل):

أيما اسم تركيبُه من ثلاث ... وهو ذو أربع، تعالى الإله!

حيوان و (القلب) منه نباتٌ ... لم يكن عند جوعه يرعاه

(فيك) تصحيفه، ولكن إذا ما ... رمت عكساً يكون (في) ثلثاء

وقال آخر ملغزاً في (بلبل):

وما طائر نصفُه كله ... له في ذرى الدوح سير ولبث

رأينا ثلاثة أرباعه ... إذا صحفوها غدت وهي (ثلث)

وكانوا ربما يهوى أحدهم إلى درك من السخف بعيد فيقول:

يا من له الطول في المعالي ... وبالمعاني لنا يبصِّرْ

إني كما قلت في سؤالي ... ما مثل قولي نعم مقصِّر!

و (نعم مقصر) يرادفها (إي وان)؛ فذلك لغز في (إيوان) بعث به علي بن الحسين الموصلي إلى صديقه ومعاصره صلاح الدين الصفدي

وقريب منه قول شهاب الدين بن حجر ملغزاً في (صهباء):

يا فاضلاً هو في الأحا ... جي ليس يخلو من ولع

ما مثل قولك للذي ... يبكى الحبيب: (اسكتْ رجَع!)

(يتبع)

محمود عزت عرفة


مجلة الرسالة/العدد 568
22 - 05 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى