لطيفة الزيات - عن رواية منتهى هالة البدري

في رواية هالة البدري "منتهى" (الهيئة العامة للكتاب 1995) نجد أنفسنا إزاء مشروع ضخم وطموح وفت الكاتبة بمتطلباته بعملية توثيق هائلة وحرفية متميزة، وبمنظور شامل ورحب للواقع يجيد رصد خصوصياته وعمومياته في ذات الوقت. والمشروع هو مشروع التأريخ لمصر في الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى 1914 إلى أعقاب الحرب العالمية الثانية وقوفا على مشارف الخمسينات. وبؤرة التاريخ قرية وهمية هي (منتهى) وأهلها، وعائلة من ملاك الأرض من ثلاثة أجيال متعاقبة. وما أن تتكامل الحياة هادرة في هذه القرية من قرى الوجه البحري حتى تتكامل الصورة مشيرة إلى تاريخ مصر في فترة من أهم فتراتها وتحتمل هذه الرواية الضخمة حقا والقيمة حقا كثير من زوايا التناول النقدي، وكثير من إمكانيات عقد المقارنة بينها وبين ما سبقها من أعمال تقوم على محاولة التأريخ لمصر في فترة معينة من الفترات تأريخا روائيا. ولكني سأكتفي هنا بتناول زاويتين يتصلان في اعتقادي الواحدة بالأخرى اتصالا عضويا وهما تاريخية الرواية أولا وماهية هذه التاريخية، ونسيج الرواية المبني على الجدل ثانيا.
وبالتاريخية أعني قدرة الكاتب / الكاتبة على إسباغ الصفة التاريخية على أحداثه وعلى شخوصه وعلى البيئة الزمانية والمكانية لهذه الشخوص وعلى اللغة التي تستخدمها والمشاعر التي تعانيها وعلى الآمال والإحباطات التي تنفرد بها، كما أعني أيضا قدرة الكاتبة على الإمساك بزمن معين في مكان معين، شديد التفرد في مساره، في حركته لا في جموحه في انسيابه من ماضي إلى حاضر ليصب في نهاية المطاف في اليوم الذي نعيشه الآن مشكلا جذور هذا اليوم ودعامته معا ومشيرا إلى الثوابت المتغيرات فيه. ورواية (منتهى) لهالة البدري رواية تاريخية بهذا المعنى.
وكاتب مثل هذه الرواية التي تعرض للتأريخ لفترة تاريخية معينة عادة ما يرصد الأحداث المهمة على المستوى العام في هذه الفترة التاريخية التي يعرض لها، سواء أكانت هذه الأحداث سياسية أم اقتصادية أو غير ذلك. وطريقة رصد هذه الأحداث العامة. العوامل التي ترسي الفصل ما بين تاريخية رواية ما عن هذا النوع أو لا تاريخيتها. والأحداث العامة التي تًرصد تبقى زائدة عن حاجة النص ما لم تؤثر إيجابا وسلبا في مصائر الشخصيات وما لم تتفاعل مع هذه الشخصيات تفاعلا حيا يؤثر في مسارها، أي ما لم يرتبط العام والخاص ربطا عضويا قائما على التبادل والتفاعل. وروايات نجيب محفوظ تتصدى في كليتها للتأريخ الروائي لفترات مختلفة من فترات تاريخ مصر، ورغم وحدة الهدف فهي تكتسب أحيانا الطابع التاريخي وتفتقر إليه أحيانا أخرى. وفي رائعة نجيب محفوظ "الثلاثية" يتوفر التفاعل المطلوب ما بين العام والخاص، وتخرج إلى الوجود الثلاثية بطابعها التاريخي اللامحدود.. أما في بداية ونهاية أو خان الخليلي على وجه المثال فتستطيع استبعاد الحدث العام دون الإخلال بحدث يمكن أن يقع في كل زمان ومكان ونفتقر بالتالي إلى عنصر التاريخية في رواية تضع نصب أعينها التأريخ لفترة تاريخية.
ويكتمل رواية (منتهى) الطابع التاريخي، إذ يتوفر لها هذا التفاعل الدائب ما بين العام والخاص الذي يصنع مساره، والمتغيرات التي تحدث على المستوى الشخصي تخرج بالأحداث العامة من إطار مجرد الرصد وتجعلها جزءا لا يتجزأ من نسيج الرواية ودافعا من الدوافع التي تُقرر مسار الحدث.
وفي رواية (منتهى) نجد الكاتبة ترصد حرب فلسطين، والحرب العالمية الأولى والثانية وبدايات ثورة 1952 وحادثة صدام بين أهل القرية وقوى الاحتلال البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى والمقاومة السرية متمثلة في جماعة اليد السوداء، وحادثة صدام أخرى بين أهل القرية وقوى الشرطة المصرية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والصراع الذي أعقب هذا الصدام بين قوى الهجانة التي تمنع التجول في القرية عند المغربية وتحول بين الأهالي وحصاد القمح الذي يتم عادة ليلا، ثم اعتقالات الإخوان المسلمين والشيوعيين في أوائل ثورة 1952.
والعام في رواية منتهى موجود بمدى ما يمس الخاص ويؤثر فيه لا كمجرد إنه يشير إلى أحداث الفترة العامة، والحرب العالمية الأولى في اختلاف مع الحرب العالمية الثانية، موجود بمدى ما طالت كل منها أرزاق البشر في القرية وبمدى ما طالبت أرواح الأبناء والأزواج وهم يساقون في كل منهما في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والصورة الشعرية لشهداء كل من الحربين يعودون عصافير خضراء إلى القرية صورة تغزو الرواية. والحدث العام موجود بمدى ما يتفاعل ومصير الشخصيات ومسار الحدث. وتسجل الرواية صدامين ما بين أهل القرية والقوى المتحكمة في مصر، أو بمعنى آخر بين أهل القرية والسلطة، الأول أثناء الحرب العالمية الأولى والثاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والصدام الأول صدام بين أهل القرية وقوى المحتل البريطاني في هذه المذبحة التي طالت قرية العزيزية والبدرشين وغيرها. والصدام الثاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية صدام بين أهل القرية والسلطة أيضا، ولكن السلطة قد تغيرت، وتمثلت مع تطور الأحداث التاريخية في الشرطة المصرية، أو بالأحرى في جنود الهجانة الذين لعبوا دورا إرهابيا مهما في تاريخ القري المصرية.
وما بين الصدام والصدام والقهر والقهر يسقط الضحايا من شخوص الرواية جرى مسجونين ومشردين، وما بين صدام مختلف عن صدام وقهر مختلف عن قهر، وما بين الثابت والمتغير يعيش أهل القرية يصطلون بالأحداث ويصنعون الأحداث من خلال المقاومة للمعتدي، في كل مرة من المرات. وتنبع تاريخية الرواية من حقيقة أن التفاعل ما بين العام والخاص تفاعل متبادل وليس بتفاعل من جانب واحد، والشخوص في رواية (منتهى) ليست بالآلات الصماء المفعول بها دائما وأبدا، وإنما هي أيضا فاعلة بمدى ما تتاح فرصة للفعل، وهي أيضا تصنع تاريخها في ظل ضرورة ليست من صنعها وهذا بدوره مقوم يضفي الصبغة التاريخية على رواية هالة البدري حيث تُرصد الشخوص وهي تتفاعل تفاعلا دائما مع واقعها، وترصد الحقيقة التاريخية بكل إمكانياتها في حركتها لا في سكونها.
وتقف رواية (منتهى) عند مشارف ثورة يوليو 1952 وتمر مرورا عابرا بصورة إيجابية لجمال عبدالناصر، غير أن الرواية لا تنته هنا وقبيل النهاية نلمح إبنة الشيخ طه عمدة (المنتهى) والشخصية الرئيسية في الرواية تفر مع زوجها من مصر إلى السعودية ثم إلى الكويت، زوجها يهرب من حركة اعتقال واسعة للمعارضين للنظام في الرأي.. والقهر ثابت وإن تغيرت وجوهه وتعددت بطبيعة كل فترة تاريخية، وغيبة الديمقراطية هي الملح التي تبرزه الكاتبة وهي تتابع التاريخ في مساره من أمسنا إلى يومنا، وتأتي نهاية الرواية مبنية على خلط زمني بارع يقرر ماضينا ويشير إلى وضعنا الراهن ونحن نرى الأهالي في قرية (منتهى) يتحدون أوامر حظر التجول المفروضة عليهم من جانب سلطة الهجانة ويخرجون ليلا يحصدون القمح وروح المقاومة تحملهم أقوياء سعداء، يتخذون الأغاني والضحكات وحصادهم في متناول أيديهم. ومن أوج المقاومة التاريخية تحملنا الكاتبة إلى لحظتنا الراهنة في جملة موجعة ودالة هي: بعد أيام اكتشفتهم الشمس وقد داهمهم العطن.
وتستند تاريخية رواية (منتهى) فيما تستند على إدراك تاريخي شامل من جانب الكاتبة للأحداث ومغزاها وعلى عملية توثيق هائلة اقتصتها جهدا كبيرا، وقليل هي رواياتنا التي تحمل هذا القدر من التوثيق، وفي رواية (منتهى) توثق هالة البدري الحدث بمختلف أبعاده وطقوسه، التي تشمل فيما تشمل طقوس الميلاد والزواج والحمل والولادة وأغاني العمل والأفراح، والطعام والملبس التي تنتمي إلى فترة تاريخية معينة، ولذلك لا تتحرك شخوصها أبدا في فراغ، وإنما تتحرك في بيئتها التاريخية الخاصة شديدة الخصوصية والمتفردة شديدة التفرد، تنطق بلغتها وتنشد أناشيدها وتلتمع بأساطيرها وطقوسها وأوهامها وحقائقها، وسلبياتها وإيجابياتها، وقصورها وكمالها في هذا التيار الحي المتدفق الذي هو تيار الحياة والذي هو مزيج من الثوابت والمتغيرات. ولم أكن أعلم قبل أن انتهى من رواية (منتهى) أن لدينا هذه الشبكة الهائلة من الطقوس والأساطير والمعتقدات والأوهام والأحاجي والتقاليد التي تتناول كل صغيرة وكبيرة في حياتنا.. والجدل القائم بين العام والخاص جيئة وذهابا يساهم لا في تاريخية الرواية فحسب، بل في حيويتها، ويرتبط ارتباطا فعالا بجدل من نوع خاص من الجدل يدور في نسيج الرواية مرسلا بدوره فيها الحيوية وتعددية الحياة.
تعتمد كل رواية من الروايات على مزيج من الوصف والسرد أو تفتح الحدث تفتحا، والميزان في رواية (منتهى) هو في صالح الوصف الذي يغلب على السرد، ويسم الإسهاب في استخدام الوصف وحلقية الأحداث المختلفة التي تتتالى فيها في ارتباط بالحدث الرئيسي أو في غير ارتباط، الرواية بسمتها الخاصة، فهي رواية ملحمية أكثر منها رواية درامية. ولا يتوقع منها والأمر كذلك أن تعمق بعض لحظات الحدث أو تكثفها أو أن تتابعها متتالية في تطورها على طيلة الرواية كما يحدث في الرواية العضوية التي يتفتح منها حدث موحد تفتحا دراميا. ومن ثم فمن الخطأ أن نحاكم الرواية بمقاييس خارجة عن منطقها الخاص بها وهو هنا المنطق الملحمي.
والوصف في رواية (منتهى) دقيق ومُسهب يتناول كل صغيرة وكبيرة من دقائق الحياة في القرية، ملامح الشخصيات، ملبسها، مأكلها وطريقة طهي هذا المأكل إلى جانب الأشياء الكبيرة والصغيرة التي تستخدمها في حياتها اليومية، وما يصدق على الشخوص بصدق على كافة الموجودات من حيوانات وطيور، وعلى الطبيعة ومظاهرها وتقلباتها. وتمتزج كل هذه المستويات من الكائنات والطبيعة كل في كل في جدل دائب وفي حوار دائم الحيوية. ويأتي الوصف في اسلوب شاعري محمل بالصور الشعرية (أكثر مما ينبغي أحيانا) بحيث تمتزج الكائنات جميعها وبيئتها المكانية والزمانية في هذا التيار الهائل الذي يستوعب مظاهر الحياة جميعها دون أن يركز على جانب دون الآخر، أو وجه من وجوه الحياة دون الآخر.
وبمثل ما تمتزج الطبيعة وكائناتها في جدل دائب تمتزج الأساليب متحاورة بدورها في جدل دائم، الأساليب الشاعرية منها والخبرية المبنية على التقرير، الواقع منها وما فوق الواقعية المبنية على الفانتازيا.
وبمثلما تتحاور الأساليب المتباينة وتتفاعل مبنية على الجدل بمثل ما يمتزج الزمن بمستوياته المتعددة الماضية منها والحاضرة في ظل بناء ملحمي يتيح أقصى حد ممكن من هذا الامتزاج، ونجد أنفسنا إزاء خطة زمانية على جانب كبير من التركيب، تعتمد على استرجاع وعي الشخصية للماضي أحيانا وعلى تواجد الراوي في هذا الماضي الذي يصبح حاضرا معظم الأوقات. وفي رواية من فصول ثلاثة رئيسية تحيل الماضي الفصل الثاني، ويأتي محصورا ما بين حاضر الحدث في الفصل الأول وفي الفصل الثالث والأخير. ولكن الجدل بين الماضي والحاضر والحوار فيما بينهما لا يتوقف. هذا الحد البنائي بل لا يكف في التداخل في نسيح الرواية على طيلة الحدث.
وكل ألوان الجدل هذه، خاصة الجدل ما بين المستويات الزمانية يُرسي شعورا بالمفارقة الحادة نتيجة لتعارض الموقف الآخر وتضادهما يؤدي إلى التعددية، فالتجربة الواحدة لا تُسفر عن وجه واحد بل عن كل أوجهها المتعددة المتباينة والمتعارضة أحيانا على ذات المنوال الذي نتعرف به على التجربة في الواقع المعاش.
وما من حدث أحادي الوجه في رواية (منتهى)، الموقف الواحد يشمل الشيء ونقيضه في مفارقة دالة. وفصول الرواية الثلاثة مقسمة كل إلى أقسام، ومن المفروض أن يقدم كل قسم الزمان والمكان ومزيد من الشخوص، وأن يدفع في ذات الوقت الحدث إلى الأمام، وكل من الأقسام في (منتهى) تفي بهذه الوظائف وتضيف إلى أخرى على جانب كبير من الأهمية حين تحيل نسيج الرواية إلى جدل مستمر مبني على المفارقة نتيجة لتعدد أوجه الحقيقية التي تعرض لها. ويستمر هذا الوضع ما استمرت الرواية.
ويعرض القسم الأول من الفصل الأول على وجه المثال لعودة الضابط رشدي أخي الشيخ طه من حرب فلسطين 1948 جريحا وأثناء الهدنة. ويقدم الفصل عددا كبيرا من شخصيات عائلة الشيخ طه، ويرسي المكان والزمان ويناقش الحرب والاستشهاد، غير القسم الأول لا يتوقف عند هذا الوجه من وجوه الحقيقة بل بمزج العام بالخاص والجليل والتافه وحرب فلسطين بالجنس المحرم، ويعارض ما بين أخلاقيات عائلة الطبقة الوسطى المتزمتة وأخلاق أهل القرية الحريصين على تحويل الأتراح إلى أفراح، والمتقبلين للأمر الواقع محولين الفتاة الحامل التي ارتكبت جريمة الجنس المحرم مع غريب من أهل القرية إلى عذراء ينثر دم عذريتها على منديل أبيض ليلة الزفاف، وفيما بين هذا وذاك، الحرب والجنس، الأسرة الغنية وأهل القرية، وما بين نظامين متعارضين للسلوك والأخلاق تندرج وجوه جديدة من أوجه ذات الحقيقة متمثلة في طقوس الإجهاض والزواج وأغاني الفرح.
وفي القسم الثاني من الفصل الأول تلتزم الكاتبة كما تلتزم على طيلة الرواية بنفس النمط وبنفس وجوه الازدواج المتباينة للحقيقة الواحدة، وكبديل لمستوى أحادي تخلق الكاتبة مستويات ثلاثة. ويتصل المستوى الأول بعملية صيد تزاولها أسرة صياد من أهالي القرية وتصورها الكاتبة تصويرا شاعريا قائما على الامتزاج ما بين الإنسان والطبيعة بكافة موجوداتها، وتنتهي عملية الصيد بالمستوى الثاني الذي هو مستوى واقعي يصور انتشال الصياد لجثة غارقة، واصطدامه بالشرطة نتيجة لذلك، فالشرطة المحلية لا تريد وجع الدماغ الذي يستدعي النيابة والتحقيق وبعد الانتهاء من هذا المستوى الواقعي الذي يكشف بقسوة عن واقعية الحياة يأتي المستوى الثالث كمستوى شاعري يصور وديدة زوجة الشيخ طه في شاعرية تجعل منها ربة من ربات الخصب والحب والنماء. وتعارض هذه المستويات الثلاثة وتداخلها والجدل الذي يدور فيما بينها يٌفجر نسيجا شديد الثراء ويخلق إيحاءً لتفجرة الحياة التي لا تحمل لنا أبدا وجها أحاديا.
ويبقى نسيج الرواية القائم على تعدد وجوه الحقيقة وعلى الجدل الذي يدور فيما بينها والمفارقة الحادة التي تنشأ نتيجة لهذا الجدل معلما مهما من معالم هذه الرواية المتميزة حقا والجديرة حقا بالإعجاب.


د. لطيفة الزيات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى