محمد علي الطائي - جليس الحزن.. قصة قصيرة

كان يغذ السير الى اللا مكان.. كطفل تعلم لتوه كيف يلقي خطاه، وبعد نزاع بينه وبين افكاره التي مافتئت تصارعه، استسلم لها ولانتصارها فوجد نفسه في حيرة من امره لا يدري اي وجهة يسلك، انحرف متخبطا يعثر داخلا الى مقهىً. جلس سارحا بأفكاره متأملا وهو ينظر الى سقف المقهى الخرب الذي تآكلت جدرانه حتى غدت كاحلام فتى يائس، هذه الشروخ والتصدعات التي لم تخلق ولم ترسم عليه الا بعد ان حمل هموم واعباء من جلسوا تحته فضاق بها ذرعا فذرف لها الشروخ بدلا من الدموع ! كلُ من السقف والجدران والسواري الخشبية للمقهى كان يبث الحزن والكدر.. كان يئن انين من به سقم، الحزن هنا يُلمس باليدين.. يُحس.. يُرى، اترى هل الحزن يُعشعش في الامكنة كما يُعشعش في الصدور والافئدة ؟ هل المرء يرى بعين قلبه ام بعين رأسه ؟ هل يرى في الاماكن مافي قلبه ؟ فأن كان مسرورا وجد مكانه روضة من رياض الجنة وان كان حزينا بائسا وجده قبرا ذا نتن وعتم ؟

في كل التفاتة منه يرى شبحا قميئا يجلس في مرأى عينيه فيدبر عنه عله يرى شيئا اخر فيجد شبحا اخراً، شهيقه وزفيره له ازيزُ كأزيز رصاصة في صوتها وسخونتها، انبثق من رحم الدجى نورا اشبه ببرق اصاب فوهة كهف فأبدل حاله من سواد قاتم الى بياض وهاج، فتح جليس الحزن عينيه ممعنا النظر فيما امامه، شيئ مختلف ولا ريب. لم يكن ليتوقع ان يبصره، اذ ان كل ماحوله نم عن الحزن واليأس.

اشرأب بعنقه محملقا فاذا بها امرأة في عقدها الثالث، كانت اشبه بوردة غضة.. تميس بكرياء بادٍ.. تبدو مترفعة متعالية وكانها مليكة تعتلي عرشها.

تسير تهز يديها في مشيتها كاغصان اصابتها رياح خفيفة لم تكد تحركها حتى عادت في ثباتها الاول، دخلت مرتدية معطفا ارجوانيا حاملة حقيبتها التي تفصح عن ارستقراطيتها، تحمل بيدها الاخرى جريدةً كانت اشبه بمرافقة صامتة لا حول لها ولا قوة في يد امراة متسلطة.

وقفت عند باب المقهى وقفة باحث عن شيٍ ما، ملتفتة الى يمينها لتجد طاولة منزوية متوارية عن عيون الناس فأتجهت اليها، جلست بعد ان خلعت معطفها والقته مع مافي يديها بالقرب منها.

جلست متكئة ملقية على ما يحيطها نظرة فاحصة، مرت على من كانوا هناك بنظرة سريعة دون اكتراث لاي شخص منهم ثم اعادت نظرها الى جريدتها واخذت تتصفحها حتى اتاها النادل وبعد هنيهة تركها ليعود بفنجان قهوة وضعه امامها مع ابتسامة تنم بالانكسار تعلو شفتيه فاستقبلت الفنجان ولم تعبأ به وبأبتسامته وعادت لجريدتها.

كان ذلك على مرأى منه فما زال ينظر اليها حتى احست بنظراته متوجهة اليها فازاحت جريدتها عن احدى عينيها ورمقته بنظرة ثاقبة لم تخل من ازدراء، نظرة تحمل في مكنونها شتى انواع الاسئلة : من انت ؟ ماذا تريد ؟ لم تنظر الي ؟ نظرة صمتها فتاك، صمتها قادر على ان يقول ماتعجز عن قوله الالسنة.

نظرت اليه لثوانِ فهرب ببصره الى سواها فأعادت نظرها الى جريدتها واخذت فنجان القهوة ورشفت منه رشفة دون ان يُرى منها شيئ او يُسمع لها صوت، توارت هي وفنجانها وراء ستار الجريدة حتى تهاوى الفنجان الى موضعه.

مرت الدقائق على هذا الحال، جريدة وقهوة وشاب ينظر بحرقة مستعطفا مستجديا نظرة تعطيه شيئا من الحياة.. ازاحت المتمردة جريدتها واعادتها الى طياتها السابقة، ارتدت معطفها وحملت جليستها الصامتة وانصرفت، عندئذٍ وثب اليها متأملها المنفي الذي ما ان رأى عينيها حتى وجد فيهما وطنه الضائع، تبعها من شارع الى اخر من رصيف الى اخر واستمر على حاله لفترة من الوقت ليست بقليلة وهو يرقبها كطفل فقير يرقب بائع حلوى دون ان يجرؤ على الاقتراب منه.احست بمن يلاحقها فأسرعت في خطوها لتنزل الى الشارع لتستقل سيارة اجرة وتتلاشى مسرعة وكان ينظر اليها عاشقها المتيم المنسي، الغريب في اهله، الطريد بين اقرانه، فبقي ناظرا الى الاتجاه الذي غادر منه حلمه.. هذا الومض الذي لمع لدقائقٍ اعادت له بهجة الحياة ولم تزل كذلك حتى استرجعت هذه الدقائق ماوهبته من الحياة واعطته بدلا عنها الحسرة والكدر، فعاد ادراجه يجر اذيال الخيبة ورائه لا يعلم الى اين يعود وما الهدف فما وجد مكانا افضل من المقهى الذي رأى فيه معشوقته المجهولة، المقهى الذي فتح عينيه ليرى حلما حقيقيا يسير على قدمين، ليرى زهرة تتحرك، زهرة تمردت على قانون الطبيعة الذي ينص على سكون الازهار دون حراك، ليرى سحابة تسير بين الناس تمطر عليهم عنفوانا وتمردا، تدهس كل مااعترض سبيلها كعاصفة ضريرة لا ترى في مرمى خطاها شيء.عاد الى المقهى المنشود ملقيا الخطوة في اثر الخطوة راسما في مخيلته صورتها.. مستنشقا عطرها.. مقلدها في مشيتها.. في نظرتها.. في حركة يديها.. في التفاتتها، حتى اذا ماوصل الى مأواه كان المقهى اشبه بأم احتضنت ابنائها واكتنفتهم ولكنها سرعان ما تركتهم حتى افترقوا وانتشروا كلٌ في وجهته، دخل المقهى ووقف حيث وقفت باحثة عن طاولة شاغرة فرأى طاولتها لا زالت شاغرة وكانها تندب لفراق هذا الحلم اللامع.. هذا البدر المتلئلئ، فأسرع الخطى نحو طاولتها وجلس حيث جلست ووضع يديه حيث وضعت يديها، كان يتبع المواضع التي لامست جسدها كأنه مريد يتبع مواضع لمست جسد شيخه متبركا بها.

لم يزل كذلك حتى وقع نظره الى مابين كرسيه والكرسي الذي بجانبه ليجد محفظة صغيرة ملقاة على الارض فأمعن النظر فأدرك لحظتئذ بأنها بقايا من حلمه ولا ريب، التقطها حتى اذا مالامست المحفظة يده ايقن بحقيقة مايرى فأسترد يده مسرعا وواراها الطاولة كمن وجد كنزا نفسيا او حجرا كريما، شم ماعلى المحفظة من اثر للعطر فوجده مضاهيا لعطرها الذي لا يزال في انفه وعقله ودمه، فتح المحفظة فوجد بداخلها منديلا وبعض النقود وزجاجة عطر صغيرة واسوارا من الذهب، فأغلق المحفظة وارسل نظره الى سقف المقهى الذي كان يرى به قبل ان يرى معشوقته الغائبة اليأس والقنوط فراى فيه بعد ان صار شيئا من معشوقته بين يديه راى في ذالك السقف الخرب احلاما ورديا وعشقا سرمديا اذ ادرك انها سترجع الى هنا لا محالة باحثة عما فقدت وسيتسنى له رؤيتها مرة ثانية.

امتد به التفكير وتسارعت الدقائق والساعات وانسدلت ستارة الظلام وبدا القمر وكانه حارسا للسماء فأستفاق من سباته واجال بصره في مكانه فاذا بما يحيطه قد خلى من سواه ومن امراة عجوز اتخذت من كرسي في اقصى المقهى للجهة المقابلة له مكانا لها وقد اخذتها سنة تاركة لراسها حرية الاتكاء على مايرغب، فنهض خارجا من المقهى متجها الى بيته.

ولج الى بيته ثم الى غرفته فوضع المحفظة امام عينيه واستلقى على سريره الذي احسه كغيمة تحمله وتسقيه العشق قطرة تلو قطرة واستمر يحملق في بقايا حلمه، في الوتد الذي ثبت قلبه فوق معشوقته المجهولة التي لا يعلم عنها سوى انها جذبته اليها بعينها وطرحته ارضا واردته قتيلا فكان شهيدا الحب مقتول الهوى، قضى ليلة لم تبارح فيها عينيه تلك المحفظة التي كانت تضارع مقلتيه التي لا تفارقه، استمر بالنظر اليها طوال ليلته متخيلا ماسيؤول حاله مع هذه القطعة النفيسة التي ستوصله الى حلمه، وماذا سيقول لها اذا مارأها باحثة عن ضالتها وماذا ستكون ردة فعلها اذا ماأعطاها ماعادت لتبحث عنه هل ستقول له : شكرا ؟ هل ستُعجب به ؟ هل ستكون هذه المحفظة بداية لانطلاق قصة حب ؟ بدأ يفكر بما ستقول له وماسيقول لها وكيف سيدور الكلام بينهما وفي اي مكان وكيف ستنظر اليه، هل ستنظر اليه كنظرتها الغابرة التي كانت ملؤها التجاهل والازدراء ام ستستبدلها بنظرة ملؤها الحب والشكر والامتنان ؟

افنى ليلته حالما راسما في مخيلته احلاما يبتغيها ويتمناها، لم يتخيل للحظة الا ان تحبه ويحبها وتبدا قصة حب بينهما بسبب محفظة قد تكون تافهة عند غيره ولكنها عنده وصلت لحد التقديس حتى انه قضى ليلته واضعا المحفظة على مرتفع منه ناظرا اليها لا يجرأ على لمسها متخيلا بانها لا تصلح للمس الا لمن كان طاهرا ! وجد في نفسه الصغر والضآلة امام هذا الكنز النفيس في قلبه.

بعد تفكير دام ساعات وساعات بعد ليلة مغموسة بالحب والامال واحلام اليقظة وعينين ترفض ان تنصرف الى غير مااستمرت بالنظر اليه طول الليلة المنصرمة واي عينين ؟ عينين لم تذق طعم النوم بسبب معشوقة انتزعت القلب وسرقته دون رقابة من احد، سرقت قلبه ومضت غير عابئة بما سيحل به فما كان منه الا ان جلس يسامر المحفظة العطوف التي كانت كظل معشوقته، نظر اليها دون حراك او التفاتة او نوم فالنوم على العاشق حرام.

أطلت من النافذة المجاورة لسريره خيوط اشعة الشمس التي وشت باقتراب دخوله الجنة، باقتراب ارتقائه الى السماء، باقتراب معانقنه السحب والنجوم، وثب من فوره وارتدى سترته وانطلق حاملا المحفظة الى مكان لقائه المرتقب الذي نظمته له الاقدار وادارت اركانه ملائكة الحب، اي موعد هذا الذي سيجمعه باحلامه، بماضيه وحاضره ومستقبله.. بحياته وموته.. بسعادته وشقائه. بلغ المقهى.. بلغ الام التي سيعود ابنائها الى حضنها طائعين.. بارين.. خاضعين.. لاجئين، دخل فوجده مقفرا الا ممن يعملون فيه، وجد اديم الارض تعلوه المياه والطاولات والكراسي مبللة مقلوبة مما دل أنه قد اتى مبكرا، فأشار اليه النادل بعد ان راه ثابتا في مكانه دون حراك بالدخول والجلوس، دلف الى الداخل واتخذ له طاولة مواجهة للباب ليرى من اقتلعت النوم من عينيه وجعلته هائماً على وجهه لا يكد يقدر على شيء سوى التامل فيما تركت له. جلس وجيء له بفنجان قهوة، وضِع امامه وبدأ يشرب من فنجانه دون النظر الى مافي داخله لان نظراته التي كانت موجهة ليلاً الى المحفظة اضحت الان موجهة الى الطريق مترقبة شخصاً يطل من بعيد، وبعد انتظار دام ساعة او اكثر بدأ الزبائن يتوافدون الى المقهى بين رجل مسن وامراة عجوز وفتاة عاشقة وشاب اصابه الوجد فجاء للقاء من سعرت نار شوقه، كان يجلس مرتقبا، وبينما هو في جلوسه الصامت ذاك اذ دخل رجل طويل القامة عريض المنكبين مفتول الشارب يرتدي بذلة سوداء تدلت من جيبه ساعة فضية، و في يده عكاز يُنبئ عن شخصه، دخل واجال بصره في المكان ومن فيه، ثم اتجه الى النادل الذي كان يقف في نهاية المقهى فتكلم معه للحظات ثم صحبه واتجه الى المراة العجوز التي كانت تجلس في الامس والتي قد جاءت في صباح هذا اليوم كعادتها، فاتجه الرجل الغريب بصحبة النادل وتكلما مع العجوز لدقائق ثم انصرفا عنها حتى اقبلا الى العاشق الحاضر جسدا الغائب قلبا وروحا وعقلا، فلما وصلا اليه القى اليه النادل التحية ثم ساله :

ياسيدي من فضلك نود ان نسألك عن محفظة مفقودة يسأل عنها هذا الرجل ويزعم انها سقطت منه بالامس.

سمع هذا الكلام فأحس بصفعة تهوي اليه فتعيده الى واقعه وتنتشله من عالمه المزخرف البراق، ركن الى الصمت مشدوها فاغرا فاه، ثم رمق النادل سائلاً : ولماذا تسالني انا دون غيري ؟ فأجابه النادل : لان اخر شخصين كانا هنا البارحة هما انت والسيدة العجوز تلك التي سألناها قبل دقائق واجابت بالنفي، فغلب على ظننا انك على دراية بمكان مايبحث عنه هذا الرجل.فالتفت جليس الحزن الى الرجل الغريب ملقيا اليه نظرة فاحصة، نظرة محقق الى متهم يرتاب في صدقه ثم وجّه اليه الكلام سائلا : هل لديك مايثبت ان المحفظة التي تسال عنها ملك لك ؟ فاجاب الرجل : بكل تاكيد.. انها محفظة صغيرة ذهبية اللون في داخلها منديل وعطرا وبعض النقود واسوار من الذهب.فما ان سمع هذا الكلام من الرجل حتى ذهل وتهاوت افكاره من سفح راسه الى قعر احزانه، ثم وجه اليه سؤال من يتعلق بأي شيء محاولا انقاذ حلمه من الضياع راجيا ان يكتشف كذب الرجل الغريب ليعود اليه الامل من جديد، فساله : ومالذي اتى بالمحفظة هنا وانت تزعم انها سقطت منك وهي على ماتبدو محفظة نسائية ومحتواها من عطر نسائي وسوار من الذهب والمنديل الذي يحمل اللون والعطر النسائي والذي يغلب على نقوشه ذوق النساء لا يؤكد الا انها تعود لأمراة لا لرجل ؟

فأجاب الرجل : صدقت ان المحفظة لسيدة وليست لرجل انها لزوجتي ذهبت لزيارة أقربائنا في الشارع الخلفي القريب من هنا قبل اسبوع ونسيت محفظتها هناك فطلبت مني البارحة ان اذهب لبيت اقربائنا الذين كانت في زيارتهم لأجلب محفظتها وبالفعل ذهبت الى البيت المقصود وجلبت المحفظة وعند وصولي الى هنا دخلت الى هذا المقهى لأستريح ثم عدتُ الى البيت وعند وصولي الى البيت اكتشفت بان المحفظة ليست في جيبي فأيقنت انها سقطت مني عندما كنتُ هنا لاني لم اجلس في مكان غيره ولما عدت في نفس اليوم كان المقهى قد اقفل لتاخر الوقت فأجّلت البحث عنها الى اليوم، فالمحفظة لامراتي ولكنها سقطت مني بالامس.

فراى جليس الحزن الذي رأى بأن احلامه قد نُسِفت وافكاره قدا ضاعت سدى، راى ان لا جدوى من المماطلة وراى من الامانة ان لا ينكر وجود المحفظة عنده بعد ان سمع من الرجل من الدلائل مايؤكد صدق كلامه وملكيته للمحفظة، فأخرج المحفظة من جيبه ويده تأبى اخراجها الا انه صارع يده ومشاعره وقلبه حتى اخرجها وناولها الى الرجل كأبٍ يودع ابنه ليسلمه الى احضان المنايا، فلما راى الرجل ضالته اقبل عليه ممتنا له واخذ يده مصافحا ملقيا عليه شتى انواع الثناء ولكن كان المثنى عليه قد غاب في عالم غير العالم الذي هو فيه كان يغرق في بحر تملؤه الخيبات حتى افلت الرجل يده واستدار وانصرف وبقي وحده في صدمة كانه في كابوس مزعج لا يدري ما الخبر ومالذي حصل فعلم ان حلمه ضاع الى الابد وان الليلة التي مضت بصحبة تلك المحفظة والساعات التي قضاها معها وهما يتسامران ماكانت الا الاعيب الايام وسخرية القدر به وبقلبه، فطوى ساعديه وافترشهما فوق الطاولة واسند جبينه فوقهما واغمض عينه وادرك انه كان ومازال وسيبقى.. جليس الحزن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى