عبد العزيز عبد الوهاب سلطان - دهاء إمرأة.. قصة قصيرة

في قرية من قرى ريفنا التي تغفو على شواطئ نهر دجلة وفروعه في الجنوب التي تموج بالمياه التي تتراقص فوقها الطيور المهاجرة وتتجمع المواشي بأنواعها تسبح وتشرب من مياهها العذبة، تلك القرى التي كان أهلها يتميزون بصفات الكرم والألفة والتعاون وجلسات السمر في المضايف وربعات البيوت وخاصة وقت المساء

وفي بعض الأحيان وأمام البيوت يجلس البعض من الرجال والنساء يتبادلون الأحاديث والنكات وشرب الشاي فتأخذ تلك السمات مكانها في الذاكرة، إنها صورة من صور الحياة في الريف أيام الخمسينات والستينات والتي تتصف بالطيبة والمحبة.

وهناك كانت إمرأة قروية على درجة من الجمال، وتملك الكثير من المال الذي ورثته من زوجها الذي توفي. وكانت إمرأة قوية مفكرة ومدبرة، تعرف الرجال وخبرتهم من خلال المضيف الذي كانوا يترددون عليه للتسامر مع زوجها أيام حياته. وكانت تأبى الزواج من كل من تقدم إليها لأنها تعرف الأهداف من وراء هذا الزواج.

ولكنها وبمرور الأيام أخذت تراقب راعي أغنام يمر بالقرب من بيتها وهو يسوق الغنم الى الحقول للرعي، ويعود مع مغيب الشمس. كان هذا الراعي طويلا وله جسم قوي ومفتول العضلات وله شارب جميل ودائم الابتسامة والمرح.

فاستدعته في يوم من الأيام وسألته : ما اسمك ؟

فقال اسمي (دهش)

فقالت له كم يعطوك كل يوم أجرا عن رعاية الأغنام ؟

فأجابها : يعطونني (درهم) وطعامي وكسوتي كل سنة. فقالت له : أترك رعي الأغنام وأنا أعطيك درهمين بدلا من درهم. ولكن على شرط أن تختفي من هذه القرية فترة من الزمن وكل مصاريفك من عندي يا رجل. ولما كان الراعي على درجة من البساطة ولم يعرف أهداف المرأة ووافق فورا على شروطها وفي صباح أحد ألأيام اختفى (دهش) من القرية.

وبعد مرور أشهر على غياب الراعي أرسلت بدرية إليه من يستدعيه فعاد إليها. فقامت إليه ورتبت لحيته وشاربه وألبسته ملابس جديدة وعقال (طمس أبو الهلبة) ووضعت الخنجر في حزامه والمسدس في جيبه ثم قالت له تعال اليوم إلى المضيف واخطبني من أبناء عمي. والباقي أتركه عليّ. طار الراعي المسكين من الفرح. وفعلا في المساء جاء (دهش) فاستقبلوه في المضيف ولم يعرفوه ولكنهم رأوا أمامهم رجلا هيبة.

تكلم دهش ببساطة وطلب يد ابنة عمهم. فتضاحكوا لأنهم يعلمون بأن (بدرية) طلبها فحول الرجال ولم توافق فهل يعقل إنها توافق على هذا الغريب الطارئ، ولكنهم عندما عرضوا الأمر عليها وافقت مما أثار دهشتهم جميعا ولكنهم لم يستطيعوا ان يمانعوا لأنها أختهم الوحيدة ومدبرة شؤونهم.

وهكذا تم الزواج بين (دهش) و (بدرية)

وبعد أن أنهى دهش أيام العرس بهناء لا مثيل له قالت له بدرية : (أنتَ ما عليك بأي شيء.. واجبك أن تجلس في المضيف وتعلق البندقية فوق راسك) وكانت قد اشترت له بندقية (برنو مع حزام فشك (رصاص) وتعلق المسدس في رقبتك وتجلس في صدر المضيف.. فهذا المضيف لك من الآن وصاعدا.. وتسكت ولا تتكلم.. وأنا أعلمك بماذا تتحدث.

ومضت الأيام والأشهر.. فتمرض دهش وهزل جسمه، وعجز الأطباء عن علاجه. وفي يوم من الأيام جاء إلى القرية طبيب حاذق، فعرضوا عليه حالة دهش، فقال لهم أتركوني معه : فتحدث معه،وعن بداياته فعرف الطبيب مرض دهش، فدعا زوجة دهش وقال لها :

إن زوجك ليس مريضا، وإنما إذا أطعتني وعملت الذي أوصيك به فإنه سوف يشفى من مرضه.

فقالت له بدرية : أنتَ تأمر يا دكتور وأنا أنفذ. فقال لها : إن زوجك كان راعيا للأغنام، وكان من عادته ان يسرح ويمرح مع الغنم ويشم رائحتها وهو منذ مدة ينعم في الأكل الجيد والفراش الجيد ويضع العطر المسك والعنبر، مما أثر على نفسه وتدهورت صحته. وهو الآن بحاجة إلى تلك الأجواء لكي تعيد له صحته.

وخلال أيام وبالاتفاق مع إحدى بنات عمها هيأت قطيعا من الغنم والماعز وطلبت من دهش ان يرافقها بزيارة الى بنت عمها التي تسكن في قرية قريبة الى سكنهم. وعند وصولهما إلى القرية وشاهد (دهش) ذلك القطيع من الغنم والماعز يرعى وسمع أصوات الأغنام والماعز وشم الرائحة التي تنبعث منها استبشر وراح يسرع في خطاه ليقترب من القطيع وما أن وصل حتى توسطه وراح يجول بينه ويردد عاليا بعض الكلمات التي يخاطب بها الأغنام والماعز، وبعد أن قضى بعض وقته يمسك بهذا الخروف ويركض وراء تلك المعزة، نادته زوجته (بدرية) فتوجها إلى بيت بنت عمها فاستقبلتهم وجلسوا في (ربعة البيت) يتحدثون ويشربون الشاي وهم يشعرون بالراحة. بعدها عادا إلى بيتهما ودهش مرتاح والبسمة تعلو محياه وهو يداعب زوجته ويمازحها وحينما وصلا إلى البيت قالت له بدرية : إهدأ واجلس واسمع مني ما أقول :.

فقالت له زوجته هذه الأغنام والماعز ملكنا وكنت قد كلفت أحد أبناء القرية برعيها.. والمطلوب منك أن تزوره بين فترة وأخرى وحسب رغبتك والمكان كما شاهدت ليس بعيدا عن بيتنا.. فاحتضن زوجته مقبلا ومازحا وقال لها :

لقد فتحت لي باب السعادة يا (بدر.. يا بدران.. يا قمر) فأنا رهن يديك وطوع أمرك يا جنتي.. وأنت تأمرين وأنا أنفذ.. وراح (دهش) يزور أغنامه ومعزه بين فترة وأخرى وهو سعيد ويغني (أفيش يا ريحة هلي.. يا عيني يا ريحة هلي) ومنذ ذلك الوقت بدأت صحة دهش بالتحسن ويسترد قوته، وكان قبل أن يذهب إلى المضيف يغتسل ويلبس ملابسه الأنيقة ويتعطر ويذهب ليجلس في المضيف حيث فرض احترامه على الجميع.

وهكذا إصبح دهش سعيدا بفضل فطنة ودهاء بدرية.. فيا لها من إمرأة شاطرة أحبت زوجها وأحبها وعاشا في سعادة في ريفهما الجميل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى