عبد القادر وساط - ما دار بيني و بين الرباوي خلال العطلة بمدينة الشاون

لم أكد أقضي بضعة أيام بمدينة الشاون، حتى بلغني أن ولد علي قد حلّ هو الآخر بالمدينة نفسها وأنه يقيم في مكان سري، وأنه واجدٌ علَيّ، بسبب ما يحكيه الناسُ في المدينة عن معارضتي له فيما يذهب إليه بخصوص الرجز والأراجيز. وعندما تيقنتُ من ذلك الخبر، مكثتُ في غرفتي بالفندق أسبوعا لا أخرج. فلمّا لم أسمعْ أحداً يَذكرني في ذلك الأسبوع، أمنْتُ وخرجتُ. ثم إنني جلستُ في رصيف أحد المقاهي، وطلبت كأسا من الشاي، وانهمكت في قراءة قصيدة ( الشاون) للشاعر الرباوي. وهي القصيدة التي يقول فيها:

الشاونُ عشُّ يمامْ = و الشاعر فيها سربُ غمامْ

فلم أدْر إلا وثلاثة رجال قد وقفوا علَيّ، وقالوا بصوت واحد: " يا وساط، أجب الرباوي"، فقلتُ في نفسي: "مِنْ هذا كنتُ أخاف! " ثم إني تمالكتُ نفسي وقلت لهم: " اتركوني حتى أذهبَ إلى الفندق، فأسدد ما بذمتي وأودّع المكانَ وداعَ مَنْ لا يَعودُ إليه أبداً، ثم آتي فأسير معكم"، فقالوا: " ما إلى ذلك من سبيل". فلما أيقنتُ أنه ما من أمَل في إقناعهم، استسلمتُ في أيديهمْ، ثم صرتُ إلى محمد بن علي، فدخلتُ عليه في مقر إقامته الخفي، فوجدتُهُ جالساً على طنفسة حمراء، وعليه ثياب من حرير أحمر، وقد ضُمِّخَ بالمسك، وحوله رجال أشداء، يكاد القلب ينخلع من نظراتهم. فلما وقفتُ أمامه سلمتُ عليه، فردَّ السلام، ثم استَدْناني فدنوتُ منه، فنظر إلي نظرة ذات معنى وقال " كيف أنتَ يا وساط؟ وكيف حالك؟"، فقلتُ: " بخير يا سيدي الرباوي"، فسكتَ قليلا ثم تنحنح وقال: " أتَدري فيمَ بعثتُ إليك؟"، قُلَْتُ: " لا"، فقال: " لما علمتُ أنك حللتَ بالشاون، تذكرتُ ما كان دار بيننا بخصوص الرجز والأراجيز، فرأيت أن أستقدمك لأطرح عليك بعض الأسئلة . "
فأسقط والله في يدي وبقيتُ صامتا إلى أن زايلني شيء من الروع، ثم قلتُ لولد علي:
" إني لأرجو أن يُلهمَني الخالقُ سبحانه ما ينبغي أن يكون من الجواب."
فتهللتْ عندئذ أساريرُ الرباوي وقال:
- أخبرني يا وساط، ما الرجز في اللغة؟
فحدثتُ نفسي قائلا: " ها هو الداهية يريد أن يضيق عليّ الخناق "
ثم إني قررتُ أن أجيبَه جوابَ من يجاريه في مذهبه، وذلك إيثارا للسلامة وحسْن العاقبة فقلت و أنا أتصنع الثقة في النفس :
- الرجز داء يصيب الإبل في أعجازها مما يجعلها تضطرب حين تريد القيام...
فنظر إلي مبتسما ثم قال:
- فما الأرجوزة ؟
وعندئذ أيقنتُ أنه إنما يريد استدراجي لمخالفته، فيأمر رجاله أن ينكلوا بي دون رحمة. وهكذا بدا لي أن أجيبه بعبارات وردتْ حرفيا في أطروحته عن العروض، فقلت:
- الأرجوزة قد تكون مؤلفة على بحر الرجز أو المنسرح أو السريع... وقد كان القدماء - يا سيدي ولد علي - يستعملون لفظة رجز للدلالة على الأرجوزة، لا على البحر المعروف.
قال ولد علي::
- فهل الرجز شعر أم ليس بشعر ؟
قلتُ متماديا في ( استلهام ) أطروحته:
- إن المعنى اللغوي للكلمة يدل على أن الرجز مرادف للضعف، ولهذا عدّ النقاد العرب القدامى أن الأرجوزة دون القصيد. بل إن بعض العروضيين، ومنهم الخليل بن أحمد، كانوا يرون أن الرجز ليس بشعر، فهو زهيد القيمة، شديد البساطة، شديد القرب من النثر. ولأبي العلاء المعري شعر يسخر فيه من الرجز مثل قوله:
( و من لم يَنَلْ في القول رتبةَ شاعر = تقَنَّعَ في نظمٍ برتبةِ راجز).
وقال اللعين المنقري يهجو رؤبة الراجز:
( أبالأراجيز يا بن اللؤم توعدني ؟ = إن الأراجيز رأسُ اللؤم و الفشل)
فلما سمع محمد ولد علي كلامي انشرح صدره وتهلل جبينه وقال لي:
- فما تقول في الرمَل يا وساط؟
قلت:
- هو نوع من أنواع الغناء الجاهلي، نُقل إلى الشعر فسُمي به أحدُ بحوره. وهو بحر يمكن أن نعده من فصيلة الرجز، لانسيابه على اللسان...
قال :
- فما البيت المعَدّل؟
فحمدتُ الله على كوني أحفظ جيدا ما جاء في أطروحة ولد علي بهذا الصدد، فقلت غير هياب:
- البيت المعدل هو ما اعتدلَ شطراه وتكافأت حاشيتاه وتمَّ لأيهما معناه، فهو أقرب الأشعار من البلاغة، وأحمدُها عند أهل الرواية وأشبهها بالأمثال السائرة ...
وعند هذا الحد، نهض محمد ولد علي واقفاً، وربت على كتفي للتعبير عن رضاه، ثم إنه نادى على أحد رجاله وقال له: " ادفع لوساط خمسمائة ألف درهم، وتكفل بكل مصاريفه خلال العطلة التي سيقضيها هنا بالشاون. فإذا هو أزْمعَ الرحيلَ عن هذه المدينة، فأعطه جملاً مَهرياً يَسير عليه خمس عشرة ليلة إلى الرباط، وحين يبلغ العاصمة، فليتجه رأسا إلى باليما وليجلس في انتظاري، فإني لا محالة مُوافيه هناك..."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى