علي حسين - دعونا نتفلسف.. فيلسوف السلطة الذي مايزال يثير كراهية الناس (20)

في نهاية عام 1518 يبعث برسالة إلى صديقه فرانشيسكو فيتوري، يكتب فيها : " لم يعد لي رجاء في شيء إلا ان يساعدني الله ، كان قد وجد نفسه منفياً يعيش أسير القيل والقال من جانب القرويين ، شاغلاً وقته بين صيد السمك ولعب القمار مع جيرانه المساكين ، كان يستهل يومه قبل بزوغ الفجر واول ما يفعله هو أحضار الطعام لأسرته ، يتلهى بعد ذلك في امور اخرى مثل قطع الحطب اوالجلوس تحت احدى الاشجار حاملاً تحت ذراعه احد اجزاء الكوميديا الإلهية لدانتي الذي كان يسحره ، خرج من السجن قبل عام ، بعد ان طُرد من وظيفته في البلاط بتهمة الاشتراك في مؤامرة ضد العرش ، لم يغب عن ذهنه المأزق المأساوي الذي وضع نفسه فيه ، وكان حين يقوم برمي النرد ويحرك اقراص اللعب على لوحة الطاولة ، يقف فجأة ليقول : " ألا يخجل القدر من معاملتي هكذا " .




ولدت لأجل الفكر
في المساء يعود الى منزله ، وبعد ان يفرغ من تناول طعام العشاء ، يدخل الى غرفة مكتبه ، فيقوم بنزع ثيابه المتسخة، ليرتدي ملابس البلاط الملكي ، ثم ينظر الى صورة الإسكندر الأكبر المعلقة على الجدار ، ويمد يده يتحسس صورة يوليوس قيصر التي يضعها على المكتب ، ليدخل بعدها الى عوالم الملوك ويبدأ يُغذي نفسه على هذه الأفكار : " التي لا تخص احداً سواي ، ولأجلها ولِدتُ " . ثم يبدأ يتجاذب اطراف الحديث مع صور الملوك والأباطرة المعلقة في غرفة المكتب ، مستفهماً منهم عن الدوافع وراء اعمالهم :" وهم يجيبونني بدافع عطفهم الانساني ولا اشعر بأي نوع من الضجر طيلة اربع ساعات ، هي المدة المنقضية في كل مرة اجلس فيها مع نفسي ، وأنسى كل معاناتي ، ولا أتوجس خيفة من الفقر ولا أهاب الموت ، فأنا أطمس تماماً هويتي فيهم " . لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد كما يخبر صديقه فيتوري ، فهو بعد ان ينتهي من الحديث مع الأباطرة والملوك يمسك قلمه ثم يدوِّن :" ما انتفع به من حديثهم " وقد حوّل ميكافيللي هذه الاحاديث فيما بعد الى كتاب صغير عن مبادىء الحكم :" أقلب فيه بكل ما وسعني من عمق الأفكار المتعلقة بهذا الموضوع ، متناولاً ماهية الإمارة ، وما انواعها ؟ وما طرق الحصول عليها ؟ وكيف يمكن الحفاظ عليها ؟ ولما يفقد الأمراء إماراتهم ؟ " . أطلق على هذا الكتاب اسم " الأمير " ليظهر صاحبه نيقولا ميكافيللي ، كابرز واشهر منظر في فلسفة السياسية .

****
لسان لاذع
ولِدَ نيقولا مكيافيللي في أيار عام 1469 وهو الابن الأكبر لبرنارد ميكافيللي وسيكتب فيما بعد :" ولدتُ فقيراً وتعلمتُ في عمر مبكر ألا أنفق سوى أقل القليل بدلاً من ان أعيش في ترفٍ " ، ويشير كتاب سيرة ميكافيللي أن هذا الزعم ينطوي على نوع من المبالغة ، صحيح ان والده لم يكن ثرياً، لكنه عاش في منزل كبير ، كما انه اقتنى مزرعة خارج فلورنسا ، وكان والده يعمل موثقاً قانونياً ، وتربطه علاقات بعدد من رجال البلاط ، وعُرف بشغفه باقتناء الكتب ، كان يهوى الاعمال الادبية الكلاسيكية ، ويردد أمام ابنه الصغير مقولات لافلاطون وارسطو وشيشرون ، ويبدو ان الأب المحب للقراءة كان قد قرر ان ينعم ابنه بفوائد الثقافة الانسانية التي كانت مزدهرة في فلورنسا آنذاك ، على الرغم من التكاليف المالية التي قد يتكبدها ، بدأ الابن وهو في سن الرابعة يتعلم اللاتينية ، وبعدها بعام كان يدرس علم الحساب ، وبعد عيد ميلاده الثامن انتظم في دروس خاصة بالأدب على يد كريستوفر لاندينو ، الذي اشتهر بتفسيرات لكتاب دانتي الكوميديا الالهية ، بعدها التحق في ستوديو فيورنتينو ، وهي جامعة صغيرة ، كان مكيافيللي يتمتع بصفات جسدية غير جذابة إذ كان نحيل القوام ذا شفتين رفعتين وذقن صغير ووجنتين غائرتين وشعر اسود قصير ، وكان ذكاؤه الحاد وميله الى حياة الصخب يتناقض مع مظهره المتقشف ، وقد عُرف عنه نهمه للقراءة وولعه بلعب القمار وفي الجامعة اشتهر باسم " ميكا " وهي تورية لكلمة ايطالية ، تعني لطخة او بقعة اشارة الى الضرر الذي يحدثه لسانه اللاذع .
في الجامعة درس البلاغة وقواعد اللغة والشعر والتاريخ والفلسفة ، وكانت قصيدة الفيلسوف الروماني لوكريشيوس التي تحمل عنوان " طبيعة الأشياء " احد النصوص التي درسها وأثّرت به كثيرا ، وقد اعجب بالحجة الرئيسية للوكريشيوس القائلة بأنه ينبغي التخلص من الخوف والخرافات الدينية باستخدام العقل والتعمق في دراسة الآليات الخفية للطبيعة البشرية في الجامعة انهمك مكيافيللي في دراسة الشعر والفلسفة ، وقد جمع ثلاثة من اعماله التي كتبها آنذاك في ديوان شعر مزوّد بلوحات للرسام بوتيشيللي ، وفي تلك السنوات يتتلمذ على يد مارسسيلو أدرياني الذي كان شديد الاعجاب بمواهب تلميذه ، وتشاء الصدف ان يتولى ادرياني منصب المستشار الاول للبلاد ، ويتذكر الاستاذ تلميذه الموهوب ، فيقرر ان يُعيّنه في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية ، ليجد نفسه في صيف عام 1498 موظفاً حكومياً ، وقد اثبت مهارة في وظيفته مما دفع البلاط لتعيينه رئيساً للجنة الاستشارية ، وبهذه الصفة جرى تكليفه بمهام تتعلق بالعلاقات الخارجية لفلورنسا ، فذهب بمهمة الى بلاط لويس الثاني عشر ، وكانت هذه المرة الاولى التي يجري فيها حواراً مع احد الملوك ، وقد ظل في البلاط الفرنسي ستة اشهر ، وعاد الى فلورنسا بعد ان ارسل له مساعده برقية يُخبره بأنه :" اذا لم تعد ادراجك فسوف تفقد مكانك في البعثة الدبلوماسية " ، وفي عام 1501 يتزوج ماريتا كورسيني التي أنجبت له ستة ابناء ، ويبدو انها احتملت خياناته المتعددة . بعدها يُرسل في مهمة الى روما لمتابعة اختيار بابا جديد بعد وفاة البابا الكسندر السادس ، وهناك اعجب بشخصية البابا الجديد يوليوس الثاني ، لكنه سرعان ما بدا ينفر منه بسبب قراراته الخاصة بالحرب ، فكتب لأحد مساعديه ملاحظة تقول ان البابا الجديد على ما يبدو قد كلفه القدر ليدمِّر العالم ، كانت هذه الملاحظات تؤكد اهتمام مكيافيللي بما يجري في غرف السياسة ، حيث بدأ يسجل احكامه في رسائل الى استاذه مارسسيلو ادرياني ، وبحلول عام 1510 وبعد عدة جولات في الخارج كان مكيافيللي قد توصل الى راي نهائي بشأن معظم رجال الدولة الذين التقاهم ، لكن رأيه في البابا يوليوس الثاني ظل محيّراً ، فمن ناحية كان اعلان البابا الحرب على فرنسا يبدو استهتاراً جنونياً بالنسبة لمكيافيللي ، لكنه في الوقت نفسه كان يأمل ان يثبت البابا انه المنقذ لإيطاليا وليس نكبتها المنتظرة ، ويبدو ان مخاوفه قد تحققت فبعد اربع سنوات حتى زحف الجيش الاسباني باتجاه ايطاليا ، لتجد فلورنسا نفسها محتلة ، والنظام الجمهوري يُحل ، وفي السابع من تشرين الاول عام 1511 طُرد مكيافيللي من الوظيفة وحُكم عليه بالسجن لمدة عام ، ثم في شباط عام 1513 تلقى اسوأ ضربات القدر على الاطلاق ، اذ اتهم بطريق الخطأ انه شارك بمؤامرة ضد البلاط ، وبعد ان تعرّض للتعذيب ، حُكم عليه بالسجن ودفع غرامة مالية كبيرة ، وقد عبّر عن ذلك فيما بعد حين اهدى كتابه الامير الى عائلة مديتشي الحاكمة قائلاً : " ان خبث القدر الهائل والمعهود اطاح بي بلا رحمة " ، ولم تمضِ فترة سجنه طويلا حيث اعلنت الحكومة العفو ، فخرج مكيافيللي من السجن ، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته هدفها الاول تبرئة نفسه من التهم الموجهة اليه ، ومع الانتهاء من كتابه الأمير تجددت آماله في العودة الى موقع حكومي مؤثر ، وكتب الى صديقه فيتوري ان منتهى تطلعاته ان يجعل من نفسه : " نافعاً لحكامنا حتى اذا بدأوا بتكليفي بدحرجة حجر " .إلا ان محاولاته خابت ، ونجده يتخلى عن كل امل في العودة الى العمل الحكومي :" انني سأضطر لأن اظل أحيا هذه الحياة البائسة ، دون ان اعثر على رجل واحد يتذكر خدمة قدمتها او يعتقد انني قادر على فعل اي خير " ، ونجد مكيافيللي في هذه السنوات يتجه بحماس الى الكتابة ، فأنجز كتابه الشهير المطارحات ، بعدها بدأ بكتابة تاريخ فلورنسا ، وتفرغ لكتابة " فن الحرب " ، وبدا ان فرصته في العودة الى الوظيفة الحكومية قد لاحت بسبب تغيير نظام الحكم ، لكن اسمه لم يذكر ضمن الأسماء التي رُشّحت للعمل في الجمهورية الجديدة ، وكان في ذلك ضربة كبيرة لطموحاته ، ما ادى الى اصابته بالمرض ، وقد شكا لزوجته من آلام في قلبه التي لم تمهله طويلا ، حيث توفي في الثاني والعشرين من عام 1527 وقد كتب على شاهدة قبره " لا يبلغ المدح شأو ذلك الاسم نيقولا مكيافيللي " .

****
السياسة مثل الفيزياء
يكتب فرنسيس بيكون في تقييمه لآراء مكيافيللي في الحكم :" اننا مدينون بالكثير لصاحب كتاب الأمير ، اذ حدثنا عما يفعله الناس بدلا مما ينبغي عليهم ان يفعلوه " ، ويصف ميرلو بونتي العمل الذي قدمه مكيافيللي بأنه اشبه بما يقوم به العالم الفيزيائي اذ يقوم على الملاحظة وجمع الوقائع ويتخذ من ذلك نقطة بداية لكل تفكيره .
ان الكتاب الصغير الشهير " الأمير " الذي لا يزال مكروهاً لدى الكثيرين والذي صدر بعد وفاته بخمسة اعوام ، يعطينا صورة شاملة لمنهج مكيافيللي وطريقة تفكيره ، فهو يحاول في هذا الكتاب وصف السبل التي يلجأ اليها الحاكم الفرد " الأمير " ويبقي عليها ليدعم بها مكانته كحاكم .انه لا يحاول التاكيد على ما سيفعله الحاكم الفاضل أو الأفضل ، ولا ان يقدم تبريراً للطاعة ، ولا حتى ان يعرض محاسن ومساوىء السياسة ، انه يحدد المشاكل التي تواجه الحاكم ، وما هي الظروف التي تُضعف او تدعم سلطانه ، ولهذا نراه يقول :" انتقلنا الآن الى التفكير في ما ينبغي عليه سلوك الأمير ومواقفه ازاء رعيته ، اعرف ان كثيرين كتبوا عن هذا الموضوع ، ولكن دعني اسأل سؤالاً : " هل من الأفضل ان يكون الحاكم محبوباً أم مرهوب الجانب ؟ ولكن نظرا لصعوبة تحقيقهما معاً ، واذا كان لابد من الاختيار فان اكثر اماناً ان تكون مرهوب الجانب من ان تكون محبوبا ، فثمة ملاحظة نلمسها لدع الناس بعامة انهم جاحدون متقلبون مخادعون حريصون على تجنب المخاطر ، يقتلهم الجشع واذا كنت نافعاً لهم فكلهم معك ، يفتدونك بدمهم وأموالهم وحياتهم طالما الخطر بعيداً ، ولكن إذا ما دنا الخطر انقلبوا عليك. "

****
الكتاب الذي يكره الناس
يتألف كتاب الأمير من ستة وعشرين فصلاً ، ويبدو الكتاب محاولة من مكيافيللي لاستعراض مهاراته بوصفه محللاً سياسياً ، ونراه يصرّ منذ الصفحات الاولى على ان كتابه هذا جديد في منهجه ، أراد من خلاله حسب قوله ان يقدم قوائم من الفضائل والوصايا التي على الأمير ينفذها ونراه يؤكد ان نهجه في السياسة يختلف عن نهج من سبقوه ، فالآخرون وفق ما قاله في " الامير " تناولوا الجمهوريات التي لم يكن لها وجود في أي مكان على وجه الارض ، لكنه على خلاف من ذلك يناقش الواقع الفعلي للأشياء ، ولهذا نراه يؤكد ان الامير الذي يسعى وراء حب رعاياه بدلاً من ان يجعلهم يخافونه ، لابد ان يفقد موقعه ، وهو يرى ان على الحاكم ان يتصرّف كأسد قوي وحاسم وكثعلب ماكر ومراوغ في احيان اخرى ، وهو يصر على ان الامير لا يسعه ان يتقيّد بدواعي المُثل الاخلاقية المعتادة ، إن اراد ان يؤدي دوره اداءً سليماً. وباختصار نرى مكيافيللي يواجه قرّاءه منذ الصفحات الاولى بنظرية تقول بان الجهود المخلصة لامتلاك ناصية المعتقدات الاخلاقية التقليدية وتطبيقها ، لن تؤدي الى ظهور حاكم مُطاع . فالامور السياسية حسب وجهة نظر مكيافيللي تحتاج الى احكام خاصة بها .
ولعل ابرز فصل من فصول الكتاب ، هو الذي يحاول فيه مكيافيللي ان يحدد نطاق حرية البشر في القيام بعمل . حيث يرى ميكافيللي ان الثروة كانت لها سلطات قوية على الانسان ، فهي من حين لآخر تكتسح مثل النهر كل شيء امامها وتدمّر المؤسسات كافة التي استطاع الناس اختراعها لحماية انفسهم وحفظ النظام ، وهو يرى ان الثروة مثل فاتنة متقلبة المزاج تبدّل اوضاع الملعب تماما فتعمل على الإبطاء في التكنيك السليم ، وهو يرى ان النجاح والفشل في الحكم لا يتمُّ اكتسابهما بحسن السلوك ، بل شيئان يتم انتزاعهما بالقوة من بين يدي عالم لا يتسم بالعاطفة ، وفي مكان اخر يرى مكيافيللي ان الناس لهم سمات ثابتة على الدوام شجاع او جبان ، فالأوضاع قد يصلح لعلاجها اسلوبُ معيّنٌ من العمل احياناً ، وقد يصلح اسلوب آخر في احيان اخرى ، لكن لا احد يستطيع دائما ان يتزيّا بزي واحد لأزمنة تتغير وتتبدل
والكتاب في النهاية يقدم صورة للحاكم وكيف يجب أن يكون؟ وفي الفصول التسعة الأولى درس مكيافيللي شتى المسارات التي تؤدي إلى تكوين الإمارات، وغالباً انطلاقاً من مفهوم الاجتماع البشري في مكان معين يؤمن للمجتمعين فرص العيش والتبادل وما إلى ذلك و، في الفصل التالي، تناول الكاتب قدرة الدولة بعد أن تتشكل بصرف النظر عما يكون من شأن نظام الحكم فيها، القدرة على التصدي للعدو الخارجي. ومن بعد التوقف عند الحالة الدفاعية تلك، يصل المؤلف إلى الحديث عن أنواع الدول ليركز حديثه في فصل تالٍ على دراسة الدول القائمة على أساس الارتباط بالكنيسة، وهي دول يرى مكيافيللي لا تعير اهتماماً إلى القوانين التي تحكم تكوّن الدول الأخرى ومسارها.
وإذ يصل إلى هذا المستوى من التفصيل في حديثه عن التجمعات السياسية المؤسّسة، يجد أن الوقت حان كي يدخل في صلب الحديث، حيث نجده يدخل إلى صلب الحياة الداخلية للإمارة التي يعرفها جيداً ولا يعود الحديث عنها هذه المرة نظرياً. فيتوقف مطولاً عند أسلوب الحكم والعلاقة مع الرعايا وتشكيل القوات المسلحة فيها. وفي هذا الإطار يركز مكيافيللي على عبثية الاستعانة بالمرتزقة بعد الآن، إذ صار من الضروري تكوين الجيوش القومية . وفي واحد من فصول الكتاب يركز مكيافيللي على مهاجمة الفلاسفة والكتّاب الذين سبقوه الذين تحدثوا عن جمهوريات وإمارات ومدن فاضلة لا توجد إلا على الورق.
وفي تقدير اهمية كتاب الامير نجد كان الفيلسوف الألماني آرنست كاسيرر يتحدث عن مكيافيللي في كتابه " أسطورة الدولة " ، باعتباره الكاتب الذي أعطىالصورة الواقعية الأولى، في الأدب السياسي الغربي للحكم كما هو، لا كما يجب أن يكون .

****
المقدمة التي سبقت الأمير
قبل نشر كتاب الامير لميكافيللي بمئة وثلاثين عاما وصل الى القاهرة قادما من افريقيا الشمالية رجل بلغ الخمسين من عمره ، كان قد دُعي للتدريس في الجامعة الأزهرية ، الرجل هو عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ولد في تونس سنة 1323 ، كان يسعى لدراسة تطور الدول وتعاقبها ، وكان يرى ان حضارة الانسان تنشأ عن التجمع السياسي ، وكما ان وجود المدن ضرورة لترسيخ حكم الملوك ، فان حياة الحضر لا غنى عنها لنمو الحضارة وازدهار الثقافة ، وقد وجد ابن خلدون ان الحضارة لا تنمو الا في ظل حكومة قوية متمدنة .
ويدرس ابن خلدون في كتابه " المقدمة " آثار البطش والسياسة العابثة في نفوس الشعب، ويقدم صورة عن حماية الدولة وأعطيات الجند، وعن منافسة الأمير للرعية في التجارة والكسب؛ وعن تطلع الأمير إلى أموال الناس وأثر ذلك في حقد الشعب عليه، وعن تطرق الخلل إلى الدولة وامتداد يد الجند إلى أموال الرعية .
يكتب المؤرخ البريطاني الشهير ارنولد توينبي :" إذا كان الفلورنسي العظيم مكيافيللي يعلمنا وسائل حكم الناس، فإنه يفعل ذلك كسياسي بعيد النظر، ولكن العلامة التونسي ابن خلدون استطاع أن ينفذ إلى الظواهر الاجتماعية كاقتصادي وفيلسوف راسخ، مما يحمل بحق على أن نرى في أثره من سمو النظر ومن النزعة النقدية ما لم يعرفه عصره "
ونستطيع أن نرجع كثيراً من أسباب هذه المشابهة بين المفكرين إلى تماثل عجيب في العصر والظروف السياسية والاجتماعية التي عاش كل منهما فيها. فقد كانت الإمارات والجمهوريات الإيطالية التي عاش مكيافيللي في ظلها تعرض في إيطاليا نفس الصور والأوضاع السياسية التي تعرضها الممالك المغربية أيام ابن خلدون، من حيث اضطرام المنافسات والخصومات في ما بينها، وطموح كل منها إلى افتتاح الاخرى، وتقلب إماراتها ورياساتها بين عصبة من الزعماء والمتغلبين.
ويؤكد توينبي أن ابن خلدون أغزر مادة وأوسع آفاقاً من المفكر الإيطالي. ذلك أن ابن خلدون يتخذ من المجتمع كله وما يعرض فيه من الظواهر مادة لدرسه، ويحاول أن يفهم هذه الظواهر وأن يعللها على ضوء التاريخ، وأن يرتب على سيرها وتفاعلها قوانين اجتماعية عامة. ولكن مكيافيللي درس الدولة فقط، أوأنواعاً معينة من الدول، هي التي يعرضها التاريخ اليوناني والروماني القديم، وتاريخ إيطاليا في عصره، ويدرس شخصية الأمير والمتغلب الذي يحكم الدولة، وما يلحق بها من الخلال الحسنة أو السيئة، وما يعرض لها من وسائل الحكم. وهذه الدراسة المحدودة المدى تكون جزءاً صغيراً فقط من دراسة ابن خلدون الشاسعة،. وحتى في هذا المدى المحدود يتفوق ابن خلدون على ميكافيللي تفوقاً عظيماً. ويبتدع هنا نظرية العصبية، ونظرية إعمار الدول، ويتناول خواص الدولة من الناحية الاجتماعية وإن كان مكيافيللي من جهة أخرى يتفوّق على ابن خلدون في سلاسة المنطق، ودقة العرض والتدليل، ورواء الأسلوب.

****
دليل قطاع الطرق
يعد كتاب فن الحرب هو العمل الوحيد الذي نشر لمكيافيللي اثناء حياته ، ومع ان كتاب الامير جرى تداوله كمخطوطة اثناء حياة مكيافيللي ، فان طباعته لم تتم الا بعد وفاة مؤلفة بخمسة اعوام ، ففي عام 1531 منح البابا كليمنت السابع تصريحا بطبع الكتاب الى جانب كتاب المطارحات وظهرت اول نسخة منه عام 1532 ، وقد اكتسب كتاب الامير سمعة سيئة في حياة مؤلفه ، حيث قال احد اصدقاء مكيافيللي :" لقد كرهه الناس بسبب كتاب الامير ، لقد نظر الناس على انه خاطيء ، ويعمل على اثارة الشر " . ومما لاشك فيه ان مكيافيللي مفكر بالغ التعقيد ، كتاباته تثير سخط العامة لانها تساعد على اتباع الخدع الشريرة في الحكم ، لكن كتاب الامير لايزال يفضي الى عدد ضخم جدا من التفاسير ، وقد قدم لنا لازيا برلين عشرون تفسيرا لكتاب الامير مختلفة تمام الاختلاف ، فقد وصف برتراند رسل الكتاب على انه دليل لقطاع الطرق واعضاء العصابات ، فيما اعتبره برنادشو دراما عائلية ، وكان ماركس معجبا بذكاء صاحب الامير ، فيما اعتبره سارتر الواعظ الذي يقدم رسالة شريرة الى العالم ، في الوقت الذي اعتبره جان جاك روسو وديدرو متحدثا رسميا باسم الحرية السياسية ، فيما اعتبره ميرلو بونتي حامي حمى الماركسية اللينينية. ورأى ليفي شتراوس ان مكيافيللي لايمكن ان يوصف الا بانه معلم الشر
واختلف الدراسات السياسية عنه فبعضها اعتبره اكثر علماء السياسة دهاء ، فيما نظر الية اخرون باعتباره واضع نظرية الاستبداد ، في الوقت الذي قال عنه هتلر انه شخص يمجد الحرية والحكومة الشعبية، ولعل تتبع مسيرة حياته وافكاره الفلسفية لاتزال مستمرة حتى يومنا هذا.





* عن جريدة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى