محمد عباس اللامي - حاصلة النقود

وقف راني وهو ابن اربع سنوات في شباك غرفته في الطابق العلوي.. وهو يراقب الاطفال يلعبون كرة القدم.. في الحديقة المواجهة لدارهم.. التي يفصلها الشارع العام عنهم والبعض من الاطفال يتسابقون بدراجاتهم الهوائية ذات الالوان الفسفورية وهم يتضاحكون وفي الطرف الاخر من الساحة وجد بعض البنات وهن يلعبن (بالحبل) امام احد البيوت.. حيث يدور الحبل حولهن فيقفزن من فوقه.



وكان راني يرقب كل حركة من حركات الاطفال بتمعن شديد.. ولم يتمن ان يكون واحدا منهم يلعب كما يلعبون فقلد تعود دائما ان يكون وحيدا يلعب وحده بما يملكه من الالعاب التي قدمت له كهدايا من العائلة.. او التي اشترتها له والدته بناء على طلبه ورغبته..



لقد كان يتحاشى الاختلاط بالاخرين.. وليس له صديق يلعب معه.. وحتى في الروضة التي هو فيها لم يتخذ له صديقا وبرغم المحاولات الكثيرة من الاهل في اخراجه مما هو عليه الا ان محاولاتهم باءت بالفشل.



وتم عرضه على الطبيب الاختصاص فنصحهم بان يتركوه على حاله لان هذا هو تكوين شخصيته.. وانه سيتأقلم معها تدريجيا ستظهر ابعاد هذه الشخصية فاطمأن الاهل على ولدهم الحبيب.



والشيء الوحيد الذي جلب انتباه الاهل هو حرصه الشديد على الاشياء التي تخصه فما ان ينتهي من لعبة كان يلعب بها حتى اعادها الى مكانها بعد ان يمسحها وينظفها.. وكذلك الحال مع ملابسه وكتبه.. وكان يولي اهتماما خاصا بدفتر رسوماته واصباغه المائية.. ولقد اثنى الجميع على رسوماته وخطوطه واحدى معلماته في الروضة كانت ذات خبرة بالرسم وقد تنبأت له بان يكون رساما كبيرا.. واخيرا اقفل الستارة ودخل غرفته واتجه صوب حاصلة نقوده التي يحتفظ بها ورفعها وراح يتفحصها ان كانت قد امتلأت ام لا.. ثم راح يحصي المبالغ التي سوف يحصل عليها بعد اسبوع حيث عيد ميلاده.. فلقد كانت عمته هدى وخالته رحاب يعرفان حرصه على ملء حاصلة نقوده فكانتا يمدانه دائما بالنقود فيركض ويضع النقود في حاصلته وهو يضحك وكان يداعبهما ويطالبهما بالمزيد.. وكانت والدته تعطيه يوميا مبلغا من المال فكان يذهب معها الى الاسواق ويرفض ان يشتري شيئاً.. وتضحك والدته وتعرف لماذا لا يشتري لانه يريد ان يضع الفلوس في حاصلته فكانت تضطر وتشتري له بعض الحلويات.. وفي طريق عودتهم سقط درهما منه في فوهة صرف الامطار في الشارع العام ووقف يريد اخراجه ولكن تعذر عليه ذلك لعدم استطاعته من رفع غطاء الفوهة الحديدي وكانت والدته تحثه على السير وترك درهمه الا انه يرفض التحرك وراح يضرب الارض بقدمه مصرا على اخراج الدرهم.. واعطته والدته عوضا عنه درهما اخر،إلا انه رفض واصر على اخراج درهمه.. واخذ يستنجد بالمارة لمساعدته في رفع غطاء الفوهة.. ووالدته مندهشة من تصرفه.. حتى هب شابا لمساعدته ورفع الغطاء بعد معاناة فمد يده واخرج الدرهم.. وشكر الشاب وهو فرح واخذ يلقي على والدته محاضرة فيقول لها: انه درهمي فمن الحرام ان اتركه يضيع مني دون ان استفيد منه فقالت له والدته: انك تقول الحق ايها البخيل وهي تنظره وتضحك وبادلها هو ضحكتها قائلا: ليس بخلا يا امي وانما هذا يسمى حرصا.. فاجابته بجدية: ما تقوله هو الحق يا ولدي.



وفي عيد مولده حصل على العديد من الهدايا ومن النقود استقرت في حاصلة نقوده.. وسألوه ماذا تفعل في هذه النقود.. فضحك واجابهم اني اريد ان اقيم معرضا للرسم فهل ستساعدوني..؟



ودهش الجميع لفكرته ورفعه والده من على الارض وقبله قائلا: وانا يا سيدي ساساهم بكل صرفيات المعرض ما عليك الا ان تنجز رسوماتك.. وبعد ستة اشهر تقريبا كان راني قد انجز اكثر من مئة لوحة عمل والده عرض رسومات ولده بعد ان شاهدها اكثر من استاذ في فن الرسم واعجبوا برسوماته على صغر سنه.. وتحدثت الصحافة عنه ولاقى معرضه اقبالا شديدا.. وتم شراء بعض لوحاته.. وتقرر ان يدرس فن الرسم على يد اساتذة اكفاء تبرعا منهم لموهبته وصقلها وكان راني محط اعجاب الجميع ولاسيما اهله واقاربه.. وقد اكتشفت العائلة ان راني قد بدأ مرحلة جديدة من حياته باختلاطه مع الاخرين والحديث اليهم.. وكان رجلا كبيرا. وفعلا كان كبيرا بكل طموحاته..





محمد عباس اللامي – بغداد


* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى