سيف شمس الدين الالوسي - قرية سيزيف.. قصة قصيرة

في قرية نائية مهملة ، أنهكتها الحروب والاقتتال بين أبنائها، وجردت ممتلكاتها من لصوصها ، حتى أصبحت عديمة الحياة والروح ، قرية لم تعد كالسابق في أيام ازدهارها ، عندما كانت تنتج البلح والكروم والزيتون ، عندما كنت تزورها تجد عالما يدرس فيها ويحاول تطويرها، وهنالك شاعرا يتغنى بأفنانها وثمارها وجداولها ، وفلاحا يقلب تربتها مبتسما ومطمئنا من عودة أطفاله من المدرسة ، وهنالك نساء يتفسحن على ضفاف نهرها .


قرية سبقت باقي قريناتها من القرى ، استقرت على بابها السكينة والآمان ، كل من يدخلها ينل قسطا من الغنى والشهرة والاطمئنان والراحة ، يصنع فيها المجد ويحقق أحلامه ، حتى باتت منارة وقبلة جميع القرى ، من يريد أن يشيد قراه يطمح أن تكون مثلها أو حتى اقل منها .


كثر الطامعين فيها وكثرت حسادها وخطط في الخفاء لإسقاط مجدها وضعفها وتشتت أبناؤها ووقع الحقد والبغضاء بينهم لكي لم تعد هنالك لها أي شيء يذكر .


لكل شيء أرضته وسوسته ، وكل شيء له أماكن ضعف في أسواره ممكن أن تقتحم بسهولة ، فالسلسلة تقاس قوتها بأضعف حلقة فيها ، وكذلك المدن ، والقرى ، فمها قويت لا بد من وجود معاول يمكنها دك أسوارها المنيعة .


بدأ صرير المعاول بالعمل لهدمها ، بثت فيها روح الطائفية والحقد والفساد والرشاوى والخيانة والكذب ، بث فيها من يتولى أمرها من الجهلاء والبلهاء، بطون جائعة همها المفاخر والمباهاة ، وجلب كل شيء متخلف ودون المستوى ، والحط من قيمة العلم وجعله في المراتب الأخيرة باهتمام تلك القرية .


حتى بات العالم مجرداً من كل شيء، سياسة قهر العلماء وتجويعهم ، وسياسة ذل أصحاب الوجاهة وجعل أصحاب المستويات الدنيئة على قمة الهرم ، وإفشاء الجهل وتعميمه بين أبناء تلك القرية ، حتى يسهل حكمها ويسهل سرقتها .


رحل العالم وتركها من دون أن يلتفت وراءه ، ورحل العاقل والنزيه وأصحاب المبادئ السامية ، وبقى فيها كل شرير وعاهر ولص وكذاب ومنافق ، وبقيت بقية قليلة من العلماء والحكماء وأصحاب الشرف لكنهم لا يستطيعون الخروج منها بسبب ظروفهم ولو أتيحت لهم لتركوها غير مبالين ولا نادمين ، فجردت منهم الكلمة والحكمة والـــــــرأي السديد، لقد تاهوا بين هؤلاء.


سرقوا كل ما فيها وجعلوها صحراء جرداء من كل شيء ، أغلقت مدارسها وأصبحت زرائب غنم ، وأغلقت متاحفها لتكون مخازن أغذية ، وألغيت جميع دور الثقافات والمنتديات لتحل محلها أشياء شكلية لا ترتقي بواقعها ومستواها التي كانت عليه سابقا .


أصبح أهلها كسالى ، زرعت بينهم روح الضغينة والبغضاء ، والتشتت ، كل ذلك تدار بيد مختارها ، الذي حاول إضعافها أكثر وأكثر حتى يسهل عليه حكمها ولا احد يحاسبه ، والكل تصرف أنظارها عنه ، ألهاهم بحقدهم وتفرقهم وتشتتهم وسرقة ما تبقى فيها ، يعطيهم القلم ويسلبهم الثقافة ، يمنحهم حرية السرقة ويمنع عنهم حرية الكلام ، يتكلم عن الحرية للمساجين ، ويصف طيب الطعام للجياع ، ويوصف الموسيقى للأصم .


وفي النهاية أدركوا حالهم وانتبهوا إلى وضعهم ومستوى تخلفهم ومدى ما أصبحت عليه القرى المجاورة لقريتهم ، بدأت أحلامهم تكبر وتكبر ويتمنون لو يحدث التغيير ويذهب مختار قريتهم ويأتون بمختار آخر ، لقد طال مكوثه في القرية ، لكنهم خائفون ساكتون ، لا يستطيعون تغييره ولا يعرفون كيف ومتى ، ومن هو البديل المناسب ، لأنهم أصبحوا دون رؤى ودون تخطيط ، جردوا من كل ثقافة لم يعد بمقدورهم تقرير مصيرهم ، وكلما أتى شخص يحاول إصلاحهم نبذوه وأثاروا عليه ، ويعيدون اختيارهم ، مهما حاولوا من رفع صخرة سيزيف الجاثمة على صدورهم والتي منعتهم حتى من التنفس ، كلما حاولوا رفعها إلى القمة عاودا إنزالها مرة أخرى بإرادتهم ، ولتعود تجثم على صدورهم مرة ثانية وثالثة ، سيبقى هذا حالهم حتى تنزاح صخرة سيزيف وإلا سيبقون ملعونون في هذه القرية المحصورة في ذلك الوادي المليء بالسباع الضارية ، ستجف أنهارها وجداولها ، وتنقطع عنها كل سبل الحياة ، ستشتعل فيها نار الحقد والكراهية والتفرقة أكثر وأكثر ، لأنهم لم يحسنوا التصرف .



* سيف شمس الدين الالوسي – بغداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى