محمد علي الطائي - المتغطرس.. قصة قصيرة

سئمت المرآة وجهه الذي لم يبارحها منذ سنوات ، يمر اليوم في اثر اليوم وشغله الشاغل هو هيأته ومظهره الخارجي ، يقف ثابتا محملقا بوجهه القميء مقلبا البصر بكل تفاصيله يتلفت يمنة ويسرة ليتعرف على ادق تفاصيل وجهه ليزداد غرورا مع غروره ، ويوما ما وبعد انا اعتكف في احشاء مرآته قرر ان يخرج من صومعته ، من بيته ، هذا البيت الذي احتوى ليس رجلا متغطرسا فحسب بل انه حوى الغطرسة بكل اشكالها ومعانيها . استيقظ متجهم الوجه .. عبوس الثغر .. قانط الفؤاد والعقل .



ارتدى بذلة سوداء، ووضع على راسه قبعة بيضوية الشكل سوداء اللون، وتحت البذلة ارتدى قميصا ابيض تعلوه ربطة عنق كالتي يرتديها ذوو المجتمع المخملي، دس قدميه في حذاءٍ احاطته النقوش من مقدمته حتى نهايته، أدلّى من جيب سترته الايسر ساعة فضية اللون مربوطة بسلسلة ملتوية مثبّة على طرف سترته الايسر.


خرج من بيته الذي كان بمنأى عن صخب المدينة وثرثرتها، سار وعصاه في يمينه يأرجحها بين لحظة واخرى لعله يُظهر بحركة عصاه خيلائه المضمور، أما شماله فقد كانت تلاطف شاربه المنتصب كأنتصابة دكتاتور يُلقي خطبة مملة وسط حشد ممن يتملقونه، ارخى قبعته على جبينه محاولا ان يضفي على شكله بعض الهيبة والوقار !!


القى خطاه بتؤدة مجتازا باب بيته ثم الباحة الخارجية ثم الباب الخارجي الصغير الذي لا يُغني من خطر، بلغ الشارع حيث كانت سيارته مصفوفة على جانب الطريق وسائقه قابع بداخلها قد اخذته سِنة، وقد اغلق نوافذ السيارة اتقاء البرد وقد ارخى راسه على مقعده، رأى سائقه في حاله تلك فرمى عكازه الى الاعلى ليلتقطه من وسطه ويضرب بمقبضه زجاج السيارة الجانبي مزمجرا بسائقه في سخط: استيقظ


فتح السائق عينيه فزِعا فلما رأى رئيسه اعتدل في جلسته، ثم فتح الباب ووثب يدور حول السيارة ليفتح الباب الخلفي لسيده، ركب الرجل واغلق سائقه الباب ثم صعد خلف المقود وانطلق في الطريق يجوب الشوارع بسيارته، اشعل الرجل سيجارته الكوبية بشي من الغطرسة البلهاء، وضعها بين شفتيه البغيظتين قابضا عليها بغطرسته تلك، سحب منها نفسا توهج به وجهه لتظهر تقاطيع وجهه العبوس، وخلال الطريق القت السماء الارض بقطرات ماء اشبه بدموع طفلة خائفة، ومالبثت ان اضحت القطرات المتقطعة رصاصات متتالية ترتطم بزجاج السيارة الامامي لتنبأ من في داخلها بهيمنة الشتاء، وبعد ثواني من هطول المطر الغزير سأل الرجل سائقه بحنق:


هل لديك مظلة في السيارة ؟


فأجابه السائق الوجِل: لا ياسيدي


فصاح به: ايها الاحمق، اتريد القول بأني سأسير وسط هذا المطر ؟


فأجاب السائق والخوف يجلجل في حنجرته: اسف ياسيدي ولكن الجو كان صحوا نهارا ولم اظن ان السماء ستمطر في الاصيل…


فصاح به الرجل متهكما: اخرس.. سحقا لك


توارى السائق وراء صمته حزينا عاجزا واستمر في القيادة، بعد برهة توقف المطر ليختم عرضه بقطرات متباعدة يُخبر من في الارض بنفاد ما في جعبته، توقف المطر نهائياً وفرش اديم الارض بالبلل الذي رسم لوحة الشتاء فوق الشوارع والارصفة التي خلت من المارة اذ تهافت الناس على المطاعم والمقاهي التي عجت بالصخب والدفء كما عجت بالناس من طبقاتهم كافة. خاطب الرجل سائقه قائلا:


قف هنا، واشار بسبابته الى مقهى قد شُيّد في ركنٍ سحيق من الشارع


توقف السائق ثم هبط الى الشارع كعادته ففتح الباب لرئيسه بأحترام مصطنع ثم اغلقه ووقف يرتقب الاوامر التالية، فقال له الرجل من دون ان ينظر اليه:


لا تبارح مكانك حتى اخرج، فأجاب السائق من فوره:


امرك سيدي


ثم رجع الى الخلف وفي نيته ان يُفسِح الطريق لسيده بالرغم من خلو الطريق من اي شيء !! سار الرجل متوسطا الرصيف كأنه ملكه، يُلقي على الطريق خطى مُثقلة متجها الى المقهى الذي اشار اليه، وما ان وصل الى المقهى حتى دفع بابه بعصاه بكبرياءٍ ليفتحه وكأنه يستعفف ان يلمسه بيده، فتح الباب ودخل، كان المقهى مظلما سوى من انارة حمراء خفيفة، وخيوط ضئيلة اطلقتها نار لتسخين القهوة والشاي، وقد حوى هذا المقهى بِضع طاولات مع كرسيين لكل طاولة، وقد زُينت جدرانه بلوحاتٍ وصور لشخصيات ثقافية وسياسية وفنية، وقد خَيّم على هذا المقهى هدوء لضيق مساحته وقلة زبائنه، جلس على طاولة في نهايته، طاولة بكرسي واحد حيث كانت الطاولة الجانبية لطاولته بثلاثة كراسي، يجلس عليها رجال في عقدهم الخامس، تتضح عليهم امارات الثراء الفاحش.


جلس على طاولته التي استقبل منها الباب ليشعر بأحاطة بصره لجميع ما في المكان، بعد برهة اقبل اليه فتى يرتدي ثيابا متسخة في اكثر من موضع برشة قهوة وقطرات شاي والوان عصائر، فسأله بأحترام:


بما تأمر ياسيدي ؟


فأجابه بأزدراء: شاي.. وضع فيه قرصا من الليمون


فأنحنى الفتى باحترام وقال: حاضر سيدي.. اهلا بك


فلم يجبه الرجل بشي، اكتفى فقط بجلوسه المشبع بالغرور، استمر في صمته وهو يجول ببصره بين وجوه من كانوا هناك، مُلقيا المكان ومن فيه بنظرة فاحصة بأنفة تعلو وجهه. اقبل اليه الفتى بكوب الشاي مع قرص الليمون فوضعه امامه وانحنى ثم عاد الى مكانه فلم يعبأ به الرجل حتى بنظرة، استمر في عمليته الاستكشافية التي يقوم بها بغير هدف، التقط كوب الشاي فرشف منه رشفة بعجرفته المعهودة، ثم وضع الكوب على الطاولة ومد يده في جيب سترته الداخلي ليُخرِج منه السيجارة الكوبية التي لم يُدخنها الا ليفاخر بهـــــا البؤساء والصعاليك.


اشعل السيجارة وسحب منها نفسا ليمزج الدخان مع ما في فيه من شاي ليكوّنا طعما كطعم الخمر، نظر شزرا الى الرجال الذين جلسوا بجواره على الطاولة الجانبية وكانوا يضحكون متباعدين عن بعضهم ثم يقتربون من بعضهم فيتمتمون ببعض الكلمات ليعودوا الى سيرتهم الاولى ويفترقون الى الوراء لتعلو ضحكاتهم واهازيجهم، فتحول ببصره عنهم حانقا ليتوجه به الى الطاولة الاخرى التي كان يجلس عليها شاب في العشرينيات ارخى شعره على عينيه واضعا في فيه سيجارة رخيصة ووضع امامه كوبا من الشاي الذي ما زال ممتلئ وقد كف عن اصدار خيوط البخار مما دل على برودته لمكوث الشاب في مكانه لمدة طويلة، واثناء متابعته للفتى الوحيد دخلت من باب المقهى فتاة في سن الفتى فتوجهت الى الفتى الذي نهض اليها مرحّبا بها واضعا على خدها قبلة بودٍ ساحر.


هرب ببصره الى الطاولة التي كانت مواجهة لطاولة الفتى الذي لم يعد وحيداً !! فكانت الطاولة الثالثة تضم رجلا في سنه ولكن ليس بزيه، حيث كان هذا الرجل في ثياب اقرب الى الفقر منها الى الترف، فقد ارتدى (جاكيتا) جلديا ازرقا قد اصابته السماء فأضحى ككيس قمامة لامع، وارتدى بنطالا اسود رثا مع حذاء يظهر فيه بُئس وشقاء من يرتديه، كان هذا الرجل بصحبة امراة تُجاوره بعد ان قرّبا مقعديهما من بعضهما لكي يهمسان لبعضهما بشي من الحب، واستمر الرجل المتغطرس بمتابعة هذا الرجل وخليلته التي احاطها بذراعه ليضمها اليه مع ضحكة تعلو اصواتهما، فأدار وجهه عنهما بسخط لينتقل الى الطاولة الاخرى فوجد ان الطاولات الاخريات شاغرات ولم يكن في ذلك المكان من احد سوى من رآهم. مد يده الى جيبه واخرج شيئا من النقود، وضعها على طاولته ونهض من مكانه واجما بيده عكاز متجها الى باب المقهى وهو يعلو بنظره اتقاء النظر الى من حوله ممن رآهم، فوصل الى الباب وفتحه على عجل واتجه آسفا الى سيارته التي كان سائقه بداخلها غاطا في النوم، فطرق زجاج السيارة الجانبي وصاح بالسائق مزمجراً: استيقظ.



* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى