مزهر جبر الساعدي - بحث.. قصة قصيرة

أكثر من ساعتين أخابر، لم يأت الجواب، يرن في أذني الصوت النمطي المقرف، خارج التغطية. أين هي الآن في ليل بغداد، في أي مكان منه، ربما حصل لها مكروه. همس مني أو من عمق الليل، لا فرق، أسمعه لاشيء يستحق القلق، الوقت مبكر جداً، سحبت الكرسي القريب مني :

أجلس عليه. أفتح النافذة، يندفع الهواء نحوي، محمل بالغبار أختنق، أتحمل وأنظر إلى العمارات العالية، الكائنة إلى اليسار مني، يحجبها ظلام الليل عني. أفكر في الكون والوجود والزمن والتاريخ والناس والحرب وأشياء أخرى، أحاورني: الناس تصنع التاريخ أم العكس، التاريخ يولد قوة الخلق في عقل وروح الناس، من يتحكم بمن، الناس أم القوة ثم أي نوع من القوة، القوة المجردة أم القوة الحيوية أي قوة الناس.

أمام الواجهة الزجاجية أثنان من الندل يقفون إلى اليمين مني، ينظرون إلى الساحة المزدحمة بالناس، منشغلون عني، لم ينتبهوا لدخولي، أخذت أتأمل الناس في الساحة القريبة من القاعدة البحرية بانتظار أن يأتي صاحبنا، ضمير العراقي. عرفته منذ أكثر من سنتين، كنت أبحث عمن يعاونني في دراسة الأدب العربي، الذي أدرسه في جامعة الولاية مع أني بالمرحلة في الثالثة ما أزال أجد صعوبة في فهم نصوص العرب، عندما طرحت الموضوع وما أعانيه على حبيبيببيبانو، في الحال قال:

بإمكاني ان أجد من يسهل الأمر عليك، أدهشني وطلبت الإيضاح، أجابني بواسطة صديقي، ضمير العراقي، الأمر سهل للغاية، لأنه شاعر. يؤسفني، لم أعرفك به، شخصية جميلة، موسوعة ثقافية، غداً عندي موعد معه، في المقهى المطلة على الساحة القريبة من القاعدة البحرية، في المساء، الساعة الرابعة، نذهب معاً إليه.

وإذا لم يحضر، كلا، أنه لا يتخلف عن الموعد أبداً. أجلبي معك مادة دراستك. قرب كرسيه مني عندما فتحت على المنضدة امامي، رواية التيه، الجزء الأول من مدن الملح للكاتب عبد الرحمن منيف، هذه السنة أدخلوها في المنهاج. وأخذت أؤشر برأس القلم المفردات الموزعة على الصفحتين، المعلمة باللون الأحمر. قلت: أستاذ ضمير قبل أن نبدأ أشرح لي ما تعنيه هذه المفردات.

أقترب مني، أصبح إلى جانبي ولم انتبه إليه إلا عندما ضربت موجات صوته أذني: أين أنت، لم تسمعِ مناداتي.

أنظري إلى تلك الشجرة، من أمامها وأنا أصيح: شتاين.. شتاين… المهم تعالي معي، تقدمنا نحاول اختراق الحشد البشري، اللفتات ترتفع، أقرأ: لا للحرب.. ازداد تدفق الناس من فم الساحة، إلى الطريق المؤدي إلى القاعدة البحرية.

ترك يدي واندفع إليهم. ظللت في مكاني إذ تمكن التعب مني. لاحقاً، بعد دقائق فك هتاف الناس قيد لساني كأنه قوة عظيمة، تفجرت داخلي، أصرخ في الرياح: لا للحرب ووجهي إلى السماء المضببة بالبرد.

– اين ببيانو

– في العمل

– غريب أمر هذا العراقي، ضمير العراقي، يهتف ضد الحرب، بح صوته، يكاد ينفجر بلعومه وصدره من شدة الصراخ، ألا يريد العودة، من سنين هرب من الموت الأكيد، من الظالم.

ثم سكت وانسحب من الساحة.

أبصرته، استاذ الدراسات الشرقية، من بعيد يدخل إلى المقهى. من الطرف الآخر للساحة ارتفع صوت أذان الفجر من الجامع الكائن قبالتي (الله أكبر .. الله أكبر).

أمامي، على الساحة، حل الفجر. انتبهت إلى أني لم أعاود الاتصال ما يقارب الساعة.

ضربت رقم الاستاذة النخلة:

بغداد….. بغداد .. بغداد…..

بغداد يا قلعة الاسود. ……. بغد

انتظرت الرد، متلذذة بنغمة هاتف الاستاذة، غير إنها أجابت بسرعة.

– الو.. شتاين سبابتي على زر الاتصال عندما رن هاتفي المحمول، أنزلي بسرعة إلى باب نادي العلوية، دقائق ونصل.

تلف سيارتي الوجه الأسود للطريق تحت عجلاتها، وحدي عليه، أعني سيارتي، على مقربة من باب الطلسم.

ثم قالت لتختم المحادثة.

– إلى اللقاء

أعدت هاتفي إلى حقيبتي ونزلت بسرعة، ووقفت في المكان، أنتظر مثلما طلبت مني. أشعرني المكان بالوحشة. تحركت خطوات لأكون تحت عمود النور، وأخرجت من حقيبتي خارطة ملونة، مسقط عليها مكان سقوط طائرة ببيانو بدائرة حمراء استلمتها قبل اسبوعين من الشركة الأمريكية المتخصصة لنقل الجرحى والرفات… قالوا:

نأسف لأننا لم نعثر عليه رغم البحث الدقيق والذي استمر أكثر من شهرين، وجدنا حطام الطائرة فقط.

ضعِ الخارطة في الحقيبة وأصعدي. قال ضمير، من مكانه إلى جانب جهاد، قالت الاستاذة النخلة وأنا أجلس إلى جانبها: اعتذر عن عدم الرد، هاتفي المحمول لم يكن معي، تركته، عندما ذهبت في رحلة إلى موقع آثار بابل، بعد ظهر أمس، رحلة نحوي، أتخيلني في الآثار أو هي فيَّ، لا فرق، أنه خيال الحب أو حب المتخيل، في الحالتين، التراب والحجر والرقم تحكي لي أو أنا أحكي فيهما. عندما عبرت السيارة جسر ديالى، إلى العمارة، إلى المنطقة الكائنة إلى الشرق منها، قال ضمير:

– قبل الظهر نكون هناك، الناس متعاونون، لأن ببيانو بالنسبة لهم الآن خارج الفعل المؤذي، أنا من العمارة ومن تلك المنطقة، أعرفهم، رفات الأموات عندهم لها قدسية، جهاد لا يتدخل، منشغل تماماً بقيادة السيارة المتجهة بسرعة إلى العمارة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى