عبد الرزّاق بوتمزّار - العنوان

السيارة تسير أبطأَ ممّا توقع. استكان إلى الزجاجةِ اليسرى للناقلة وشرد ذهنه بعيدا، مواصلا بحثه المحموم. الأجواء في البيت لا تُسعفه في التركيز؛ الوقتُ عطلة والأولاد لا يكفّون عن اللعب والنط في كل مكان. لم تَسْلم من فوضاهم حتى تلك "الزاوية"، التي اجتزأها من مساحة البيت الضئيلة واتخذها مكتبا. أمّا أم الأولاد فلم تجيد شيئاً أكثرَ من التشكي من غلاء الخضر والمواد وقلة المصروف؛ لم يكن أمامه غيرُ مغادرة البيت.
زادت سرعة السيارة بعد أن استوت عجلاتها في الشارع الكبير. صار الطريق شريطاً ممتدا يتوارى إلى الخلف. يوازيه شريط آخر؛ في دماغه تُواصل الأفكار توارُدها بحثاً عن التركيبة المرجوة. صدى كلماتها يطارده حتى في ابتعاده: "ولعلمك، مديرة المدرسة أرسلت أمس ورقة مع عادل.. يريدون واجبات الشّهرين المنصرمَين. يجب أن تتصرف وتتدبر المبلغ! قد لا يعطون الولدين النتيجة إن لم ندفع لهم، في الأقصى، بعد العطلة!".. لتذهبْ إلى الجحيم المديرةُ ومدرَستها والأولاد، أنتِ والمصاريف وكلّ هذا العالَم المجنون! قال في نفسه، ساخراً من سخرية الأقدار منه. من أين لي بكل هذا وقد نخرتني، من كل جانب وجَيْب، تبعاتُ هذه العطالة اللعينة طوال شهور؟ ماذا أسمّي هذه الحكاية الملعونة؟ هذا كل ما يشغلني الآن. جرّبتُ كلّ العناوين، لكنْ لا واحداً منها مناسب.. إلى الجحيم أنتِ والمديرةُ ومدرسةٌ ما أفتأ أُغرق كرامتي في الديون لأدفع لها، وفوق ذلك لا يُفرّق بعض مُدرّسيها بين الليفْ وْعصا الطبّالْ! قفزت إلى شاشة دماغه تلك الكلمة العجيبة في ورقة الامتحان. (أخفاها في مكان آمن بين أوراقه وكتبه، دأباً على عادته في الاحتفاظ بمثل هذه "التّحَف"، كما يسميها). في موضوع إنشائي طلبت منهم المدرّسة أن "يصِفوا ما جرى في رحلة قاموا بها (رفقَتَ) أصدقائهم إلى غابة".. ارتسم طيفُ ابتسامة ماكرة على وجهه الشّاحب المتجهم. وما الفرق؟ "رفقةَ" أو "رفقتَ"، الأمرُ سيان في زمن ردأتْ فيه حتى اللغة! قال في نفسه شامتاً. توقّفَ عند الكلمة الأخيرة، "غابة".. هل ضروري أن يقوموا برحلة ليصفوا لك غابة؟ نحن نعيش فيها، الغابة الحقيقية التي تُخفي أشجارها العديد من الأمور المرعبة، أحدُها هذه التجارة المربحة التي صارت مهنةَ الجميع، بمن فيهم من لم تطأ أقدامهم يوماً أرضَ مَدرسة! من قال إن التعليم الخصوصي أفضلُ من مدارس العموم؟
عاد إلى عجن الكلمات في دماغه بحثاً عن التركيبة المناسبة. "عليّ إيجادُ عنوان أفضل من كل تلك التي شطبتُ، في عقلي أو في شاشة الجهاز اللعين. هي قصّة فريدة ويلزمها عنوان متفرّد؛ لكنْ ما هو؟ اللعنة! على المدرسة ومديرتها وعلى هذه الطلبات التي لا تنتهي وعلى هذا الدماغ اللعين الذي لم يعد يسعفني حتى في تركيب كلمتين أو ثلاث. هذا النص بالذات يحتاج عنوانا استثنائيا. كتبتُه مباشرة بعد استيقاظي في ذلك الصباح الاستثنائي. في العادة، أكتب قبل أن أخلد إلى النوم وليس بعد الاستيقاظ منه. لكنه كان صباحا غيرَ عادي؛ لأول مرة أتذكر تفاصيلَ حُلم!"...
المقاعد الخمسة حجزها أفراد أسرة، بينهم طفلان. بدأ ضجيجهم يعلو. الصّغيران مشاغبان ولا يكادان يثبتان في مكان ولا يكفّان عن الكلام وطرح الأسئلة. والداهما لا يجيبان. وحدَها سيدة مُسنّة يبدو، من خلال صوتها (خجله الفطري المستفحل يمنعه من التلصّص على الناس) أنها جدّتهما، تحاول مجاراتهما. السائق متوتر وحركة السّير مزدحمة، كالعادة، في طرق المدينة السائحة. صفّ طويل من العربات يعبُر ضدّا في القانون، الذي يمنح سائقَ سيارة الأجرة حقَّ العبور أولا، لولا أننا في الـ... في الغابة! أصحاب الدراجات البخارية يظهرون من كل مكان ويمرقون غيرَ آبهين بصاحب حقّ ولا بحق أو قانون. يضرب السائق بكلتا يديه على المقود وهو يتفوه بكلمات مُحتجّة مصحوبة بحركات مُتشنّجة. كيف يعثر على العنوان الذي يبحث عنه منذ أيام في هذه الأجواء! عقله يكاد ينفجر. شريطٌ يشدّه ويزحف به إلى الأمام وشريطٌ يُحكِم طوقه عليه ويندحر به إلى الخلف. أجملُ الطرق ما عشتَ فيه رحلة بين شريطين. الزمن توقّفَ بالنسبة إليه منذ زمن. كلّ وجوده يقوم على النص الذي يكون بصدد الاشتغال عليه. إذا سارت الأمور كما يبغي مع ما يكتب، سار كلّ شيء كما ينبغي، وإلا تعطّلت العجلة وتوقّف كل شيء!
بعدما عجز -بعد أزيدَ من أسبوع من البحث- عن إيجاد عنوان لقصته، قال في نفسه ربّما لم أعُد أصلُح قاصّاً! كيف أعجز عن إيجاد عنوان مناسب لحكاية بعد كل ها العمر اللعين؟ سأعتزل كل هذا الجنون! آن لي أن أستريح من ملاحقة الشخوص المساخيط هؤلاء. هذي الأمكنةُ والوجوه وحكايا الأيام لن تعنيَ لي، بعد اليوم، شيئاً. سأهجُرها، هذه الغاوية اللعينة، القصة. عقله يكاد ينفجر.
شريط الطريق يواصل التقهقر إلى الخلف. يتواصل استعراضُ شريط الذكريات، موازاةً. تتكاثف الأفكار وتشتدّ زحمة الكلمات. لم يستطع للغاوية اللعينة هجرا. يعرف ذلك. لن يقدر على فراقها بتلك الكيفية الصّادمة لكبريائه ومسيره الطويل على هذا الدّرب الشاق. هي فقط فكرةٌ عنّتْ له في قمّة يأسه وسايَرَها للَحظة. الحكايات عالَمه الذي لا يستطيع عنه افتراقا. مُجرّد فكرة مجنونة استكان لها في ذلك الظرف الشاذ؛ والشاذ لا حكمَ له. في قرارة نفسه، يعرف أنْ لا محيد له عن الحكايا، لن يستطيع على هجرها صبرا، فكيف بالفراق! مجرد فكرة لاحتْ في لحظةِ عجز وسايرَها في لحظة ضعف.
عانق صاحبه وسارا نحو أقرب مقهى، وهما يتبادلان أسئلة عن الصحة والأولاد والحال. وضع النادل "النصّ نصْ" أمامه و"النّوارْ" أمام مُرافقه. رشف محمد بالكاد من الفنجان الصغير، قبل أن يستأذنه ليقضيَ حاجة مُلحّة. رفع عينيه ساهماً. سربُ حمامٍ يُحلّق على مسافة قريبة، فوق الحديقة المقابلة. تابعه بعينيه وهو يطوف، بحركات رشيقة، على علو منخفض. يبتعد ويقترب، في تموّجات هندسية بديعة ذهبت بلبّه. شيءٌ ما، غامض، شدّه إلى سرب الحمام. هل سبق لي أن رأيتُ حماماً في الفترة الأخيرة؟ أين؟ ومتى؟ رأسه يكاد ينفجر. بعد عدة دورات، اقتربت الحمامات من رؤوس رواد المقهى القلائل. من خلال حركات أجنحتها، خمّن أنها ستحطّ قريباً منه. لكن السّرب ما لبث أن ابتعد، بعد مرور غيرِ منتظَر لأحد مشردي المكان، ظهر فجأة، مثل شبح يخرج، في فيلم رعب، من عدم متجها نحو عدم. وحدها حمامةٌ راوغت الجسد المتمايل للمشرّد وانفصلت عن الكوكبة المبتعدة. لفّتْ يميناً في دورة صغيرة قبل أن تحطّ في طرف الطاولة. جمد في مكانه من هول المفاجأة. عيناه فقط ظلتا تتحرّكان في محجرَيهما، ملتقطتَين تفاصيلَ جسد الحمامة. ريشٌ أزرقُ أقرب إلى الرمادي. دائرتان بديعتان، كأنهما دملجان من بلّور، بلون يتداخل فيه الأرجواني والأزرق، تحيطان بعنقها الجميل. ربّاه! صرختْ أعماقه. إنها هي! إنها هي! الحمامة نفسُها التي ظهرتْ -في حلمه- من تلك الخطّارة البعيدة، متبوعة بسرب هائل، في ذلك المشهد العجائبي الذي لن ينساه أبداً. لكنْ كيف؟ أيُعقَل ذلك؟ هذا مُحال. تراقصت الأبيات في أعماقه "أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ.. أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟ معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببالي.. أتحمل محزون الفؤاد قوا"...
ضربتْ بجناحيها فجأة وحلّقت بعيدا حينما اقترب صديقه، الذي بقي واقفاً يتابعها وهي تبتعد.
-أرجو ألا أكون قد تأخّرتُ عنك.. ليس في هذا المقهى مرحاض، تصوّر! اضطررتُ إلى الذهاب إلى مقهى آخر. يا لهذه المدينة العجيبة! مقهى بدون مرحاض، وفي مكان كهذا، بمحاذاة المحطة الطرقية؟!.. لكنْ، قُلْ لي الآن، هل انتبهتَ إلى الحمامة التي كانت فوق هذه الطاولة ولم تبتعد إلا حين اقتربت وهممتُ بالـ...
-طبعاً يا صديقي!
قاطعه، وقد بدأ يعود من شروده.
-إنها هي، هي ذاتُها، بكامل أوصافها، إنها عنواني المفقود، عنواني المفقود.. أقول وقد ناحتْ بقربي، هذا ما كنتُ أبحث عنه عنوانا.. إنها هي، عنواني، حمامة ذلك الحلم الذي حكيتُ لك عنه سابقا.. أتذكُر؟...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى