أحمد الملك - المحكمة

في ظلال شجرة الجميزالعتيقة جوار المسيد إنعقدت المحكمة. جاء سعد الشهير بأبو الجاز وكان اكتسب الاسم منذ سنوات بسبب بيعه للجاز المسروق أيام عمله كسائق لجرّار في إحدي المؤسسات الحكومية الزراعية. جاء يرتدي جلبابا فخما وعمامة ضخمة حتي بدا كأنه القاضي وليس المتهم.
افتتح شيخ الطيب المحكمة: نبدأ الجلسة يا اخوان، وين حاجة ست البنات جاءت ست البنات تسحب معها ابنتها . ابنتها كانت لا تزال قاصرا، وكانت جافة الجسم مثل عود من العشر وقد لفت حول رأسها قطعة قماش أزرق وارتدت فستانا طويلا من قماش الشيت الرخيص. فبدت أشبه ب (الحقن برو) او عروس القصب بلهجة الدناقلة.
افتتح شيخ الطيب المحكمة بعبارته التي يستخدمها دون معني سوي انه كما كان يقول شيخ النور يريد تكذيب مزاعم من اعترضوا علي تعيينه كقاض شعبي. حضرت انذاك لجنة يرؤسها قاض للفصل في الطعون المقدمة ضده، كان صاحب الطعن الاول رجل درس في الازهر الشريف ثم عاد ليستقر في القرية وبسبب مطاردته لسبل العيش بدأ ينسي تدريجيا كل ما قرأه في الازهر، ضاعت ألفية ابن مالك في متاهة السنوات والتفاسير وفقه السنة أثناء مطاردة الأرزاق، وكان كل ما جاء شخص يستفتيه في امر ما ويكتشف انه نسي الجزء الشرعي الخاص بتلك القضية يعلق قائلا: المعايش جبارة.
وحين قرر فجأة العودة عن مساره العلماني بعد ان مضت السنوات لم يكن قد تبقي شيئا من علمه السالف سوي بعض الاحاديث الضعيفة والروايات غير المؤكدة.
ضحك شيخ النور حين وقف حاج الأمين ليعظ الناس بعد أداء صلاة التراويح في المسيد وقال :
زولك دة خلي بالك لو كان شغال في الازهر دة بواب في العشرة سنين العداهم فيه كان بقي نبي!
وضحك شيخ الطيب وقال هو اصلا قالو مشي يشتغل بواب في الازهر قام لقي مرتب البواب تلاتة جنيه ومرتب الطالب أربعة جنيه، قام اشتغل طالب!
قال حاج الأمين أمام لجنة الطعون :
الزول دة بتذكر المؤنت وبتأنث المذكرة!
علّق رئيس لجنة الطعون : ما مشكلة، الدناقلة كلهم كدة!.
قال ود التاجر: الزول دة ما بتعرف تكتب!
أمر القاضي باحضار ورقة وقلم، أمسك شيخ الطيب بتلابيب القلم كأنه يمسك منجلا وأعلن مفتتحا الاملاء :
بسم الله نبدأ...
قال القاضي متذكرا مقطعا قديما من ايام المدرسة: الولد ولد البلد.
كتب شيخ الطيب: الود ولد البيت.
البنت بنت البلد.
كتب شيخ الطيب: البت بت البيت!
قال القاضي: كانت حليمة تعمل بائعة للبن.
وكتب شيخ الطيب:
كانت حليمة تعمل وتبيع البن!
طلب شيخ الطيب ورقة اخري لأن الورقة امتلأت وتدفقت الحروف حتي سالت علي المنضدة العتيقة في مبني البلدية الذي بناه الانجليز.
قال القاضي: ودخلت نملة واخذت حبة!
فكتب شيخ الطيب: ودخلت نملة واخدت واحدة.
ضحك القاضي بحزم رسمي حين رأي الخط الكبير والكلمات الضخمة الشبيهة بعربات قطار، وقال لشيخ الطيب: انت كنت شغال شنو زمان؟
حك شيخ الطيب شعره الاشيب وقال : سواق قطر.
قال القاضي: عشان كدة.
صدر القرار : يعين شيخ الطيب قاضيا شعبيا.
افتتح شيخ الطيب المحكمة بخبطة علي المنضدة و بعبارته الشهيرة : لابأس. .. ثم أردف متساءلا : ريحة العرقي دي شنو؟
تلفت الجميع بحثا عن مصدر الرائحة التي كانت منتشرة بكثافة مع رائحة القيظ وكأن الناس كانوا في انتظار قرار من القاضي لينتبهوا للرائحة.
نادي عبد العاطي علي الشاكية. تقدمت مع ابنتها، وحين أشار لها القاضي لتحكي شكواها قالت مشيرة الي سعد أبو الجاز: الراجل دة قابل بتي في السوق وشحتها!
قال القاضي مدعيا عدم الفهم : شحتها شنو؟
قال ست البنات: يعني حيكون شحتها حاجة لله!.
ارتفع صوت سعد ابو الجاز: يا مرة ما تخافي الله البت دي انتي براكي ما جيتي قلتي لي تعال عرّسها!
خبط شيخ الطيب المنضدة بالعصا وكرّر السؤال : الحصل شنو بالضبط.
قالت ست البنات: يوم السبت رسلت البت السوق تشتري خضار ولحمة، خالها رسل لينا قال جايي يقعد معانا يومين، طبعا هو مغترب زي ما انت عارف،
وقال شيخ الطيب حتي لا يعطي سعد ابو الجاز الفرصة ليقاطع المرأة: واها بعدين..
البت مارقة من السوق وقّفها الراجل العايب دة وقال ليها دايرك في كلمتين. وكت وقفت جة براحة قال ليها نتقابل في المريق بالليل الساعة تمانية!
وقال القاضي : واها ما قال ليها دايرها في شنو؟
قالت ست البنات بصبر نافذ: بالليل وجوة المريق حيكون داير يمشط ليها شعرها؟
قال شيخ النور مساعد القاضي: دة شكلو كدة شروع في الزنا والعياذ بالله!
قال سعد ابو الجاز مهتاجا: يا رجل اتقي الله البخليك تقول كدة شنو؟
وقال شيخ النور: امال داير تقابلها في المريق بالليل تلعبوا صفرجت يعني؟!
خبط شيخ الطيب التربيزة بعصاه حتي كادت تتحطم وقال هدوء من فضلكم.
واصل سعد ابو الجاز صراخه: الولية دي دايراني أعرس بتها كان بالحق ولا بالباطل.
أصدر شيخ الطيب أمرا: اي واحد يتكلم بدون اذن المحكمة حأديه اربعة وعشرين ساعة في الحراسة.
صمت الناس وتعالي فقط صوت ضحكات طفل يبدو انه لم يحمل تهديد القاضي محمل الجد أو انه لم يكن يلاحظ وجود فرق بين البقاء في السجن او في خارجه.
همس شيخ الطيب في اذن عبد العاطي فارتفع صوته، المتهم سعد ابو الجاز يتقدم الي الامام. تقدم سعد أبو الجاز، قال له القاضي: رايك شنو في اتهام المرة دي.
كان يضع عدة اقلام فوق جيب الجلابية رغم انه هو نفسه لا يعرف القراءة ولا الكتابة وكان يحكي ان هذه الاقلام سببت له مشاكل مع النسوة العجائز اللائي يخدعن بمظهره الانيق والاقلام في جيبه فيلجأن له ليقرأ لهن الرسائل التي تصل من ابناءهن ويرد عليها. كان يتعامل بذكاء يأخذ الخطابات الي البيت زاعما أنه نسي نظارة القراءة في البيت وهناك تقرأ له ابنته الجوابات فيحفظها عن ظهر قلب ويعيد قراءتها للنسوة فيما بعد.
في تلك اللحظة حين واجه المحكمة بدا جليا انه كان مصدر رائحة العرقي.
كانت رائحة العرقي تكاد تقتلع الأنوف، سأله شيخ الطيب : انت شارب حاجة؟
علّق شيخ النور : شكلو كدة المرة دي استحم بيه!
فقال والله يا مولانا بالليل بطني كركبت شوية، مشينا كرامة رجوع ولد ناس حاج الأمين من العراق، كانوا ضابحين، انت عارف مع الغلاء اللحمة بقت عزيزة، تقلت شوية في اللحمة، بالليل تعبت مشيت جبت لي نص.
وقال شيخ الطيب: اها وانشاء الله يعني بقيت كويس!
قال المتهم رافعا يديه للسماء : الحمدلله تمام التمام. نعمة من الله!.
قال القاضي : طيب موضوع السكر دة نجيه بعدين هسع رايك شنو في كلام الناس ديل.
وضع سعد ابو الجاز يده فوق صدره وقال : الحقيقة يا مولانا الناس ديل كلامهم نصو صاح؟
استفسر القاضي : كيف؟
انا فعلا قلت للبت داير اقابلك علي انفراد. علّي غرضي كان شريف !.
ضحك شيخ النور وقال : شرف شنو جوة المريق!
تنحنح القاضي ونقل جسمه الي الامام قليلا ليستمع جيدا للاعتراف الفضيحة: وقال لسعد ابو الجاز وليه عملت كدة.
قال سعد ابو الجاز : الحقيقة انا كنت عاير اتفاهم معاها في امور داخلية جوهرية !.
ضحك شيخ النور وقال : والله النضم بتاعك بقي سمح بلحيل.
ضرب شيخ الطيب المنضدة. وسأل : تتفاهم معاها في شنو؟ وايه حكاية جوهرية دي؟
قال سعد ابو الجاز: انت ما قاعد تسمع رادي يا مولانا جوهرية معناها مهمة جدا..
وقال القاضي : وايه القضايا المهمة الداير تناقشها بالليل جوة المريق؟
وقال سعد ابو الجاز: والله زي ما تقول يا مولانا كدة الموضوع خاص،كان محتاج لمكان خاص!
وقال شيخ النور: أها..
وقال شيخ الطيب: لا بأس.. ممكن نعرف الامر الخاص دة لأن في اتهام لازم نفصل فيه..
نظر سعد ابو الجاز الي الناس التي تجمعت لسماع الاخبار وقال بعد تردد : يا مولانا البيوت اسرار.
أصر القاضي: يا توضح الموضوع يا أحكم عليك بالشروع في الزنا!
وقال سعد ابو الجاز: ودي تهمة جديدة ولا شنو، انا يا مولانا ما عملت شئ وين شهودك الاربعة العدول؟ البت اهدي قدامكم ودوها الدكتور يكشف عليها.
قال القاضي: الشروع في الزنا معناه انك ما زنيت لكن كنت ناوي تزني .. فهمت!
ضحك سعد ابو الجاز وقال : طيب ما اي زول اذا كدة مجرم يا مولانا، هسع انت ذاتك أيام كدة الناس قالوا انت بت ناس شيخ علي كانت عاجباك وطلبتها للعرس الا ابوا يدوها ليك عشان عندك تلاتة نسوان، يبقي تصرفك دة برضو شروع في الزنا يا مولانا!
قال مولانا وقد بدأ الغضب يغطي علي هدوء صوته: كيف؟
انت كنت داير تعرسها يا مولانا وقالوا مخصوص اتوسطت وعينتها كاتبة في المجلس لغرض في نفس يعقوب.
وقال شيخ النور يعقوب دة كمان منو؟
خبط شيخ الطيب المنضدة: واصل كلامك.
بما انك يا مولانا كنت معجب بيها وداير تعرسها لازم حتكون فكرت فيها ونويت تزني معاها.
قاطعه القاضي: ازني معاها شنو يا رجل انا كنت عايز أعرسها علي سنة الله.
وقال أبو الجاز: ما خلاص.. النتيجة واحدة..
خبط القاضي المنضدة خبطة اخيرة: حكمت المحكمة شهر سجن علي المتهم سعد أبو الجاز لاهانته المحكمة الموقرة وأربعون سوطا حد الخمر! رفعت الجلسة...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى