محمد إسعاف النشاشيبي + في النحو: لا غير أبو العلاء المعري

يقول الشيخ أبو العلاء المعري في كتابه (عبث الوليد) في هذا البيت لأبي عبادة البحتري:

(أنابّ به بسطامه ومحمد= قمام علا يعيي الملوك حلولها

كان في النسخة: (أناب به) وهي كلمة نافرة في هذا الموضع ولو أنها (أثاب) لكانت أشبه. وفي النسخة (القمام) مرفوعة وإنما يجوز ذلك إذا جعلت بدلا من (بسطام ومحمد) والمعنى يصح على ذلك إلا أنه بعيد. والأحسن أن يكون (أبنَّ) في موضع (أناب) أي أقام ولزم. (قمام علا) ينصب بوقوع الابنان عليها وقد أساء في قوله: (قمام) لأن المعرفة قمم إلا إن زيادة الألف هاهنا جائزة تشبه بقلال وقباب. وفي بعض النسخ (أناف) وهو أشبه بمذهبه، وينصب حينئذ قمام لا غير)

فيكتب الأستاذ الأديب محمد عبد الله المدني المعلق على الكتاب هذه التعليقة على (لا غير) في قول الشيخ (ص190): (غير أسم ملازم للإضافة في المعنى ويجوز أن يقطع عنها لفظا إن فهم المعنى وتقديم عليها كلمة ليس وقولها لا غير لحن: المغني لابن هشام. اهـ).

وهذا قول الأمام جمال الدين بن هشام في (غير) أرويه بتمامه - وإن طال - إذ قد يميل قارئ إلى الوقوف عليه:

(غير: اسم ملازم للإضافة في المعنى، ويجوز أن يقطع عنها لفظا أن فهم المعنى وتقدمت عليها كلمة ليس، وقولهم: (لا غير) لحن. ويقال: قبضت عشرة ليس غيرها برفع غير على حذف الخبر أي مقبوضا، وبنصبها على إضمار الاسم أي ليس المقبوض غيرها.

وليس غير، بالفتح من غير تنوين على إضمار الاسم أيضا، وحذف المضاف إليه لفظاً، ونية ثبوته كقراءة بعضهم: (الله الأمر من قبل ومن بعد) بالكسر من غير تنوين أي من قبل الغالب ومن بعده.

وليس غير، بالضم من غير تنوين، فقال المبرد والمتأخرين إنها ضمة بناء لا إعراب وان غير شبهت بالغايات كقبل وبعد، فعلى هذا يحتمل أن يكون اسماً وأن يكون خبرا. وقال الأخفش ضمة إعراب لا بناء لأنه ليس باسم زمان كقبل وبعد ولا مكان كفوق وتحت، وإنما هو بمنزلة كل وبعض، وعلى هذا فهو الاسم، وحذف الخبر، وقال ابن خروف: يحتمل الوجهين.

وليس غيرا بالفتح والتنوين، وليس غير بالضم والتنوين، وعليهما فالحركة إعرابية لأن التنوين إما للتمكين فلا يلحق إلا المعربات وإما للتعويض فكأن المضاف إليه مذكور، ولا تتعرف غير بالإضافة لشدة إبهامها).

فعند الأستاذ المدني - وتلكم تعليقه - أن الشيخ قد لحن، وسنده هو ابن هشام. وقد فتشت طويلا عن اللحن في عبارة المعري فلم أجده، ولن أجدها أبداً. وإن خيل أنه قد جاء من إعمال (لا) عمل (ليس) فالملحن نفسه يسطر في (المغني) هذه الأسطر:

(الثاني - من أوجه لا - أن تكون عاملة عمل ليس كقوله:

من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح

وإنما لم يقدروها مهملة والرفع بالابتداء لأنها حينئذ واجبة التكرار، وفيه نظر لجواز تركه في الشعر، و (لا) هذه تخالف ليس من ثلاث جهات (آدها) أن عملها قليل حتى ادعي أنه ليس بموجود. (الثانية) أن ذكر خبرها قليل حتى أن الزجاج لم يظفر به، فادعى أنها تعمل في الاسم خاصة وأن خبرها مرفوع، ويرده قولة:

تعز فلا شيء على الأرض باقيا ... ولا وزر مما قضى الله واقيا

وأما قوله:

نصرتك إذ لا صاحب غير خاذل ... فبوئت حصنا بالكماة حصينا

فلا دليل فيه كما توهم بعضهم لاحتمال أن يكون الخبر محذوفا وغير استثناء. الثالثة أنها لا تعمل إلا في النكرات خلافا لابن جني وابن الشجري، وعلى ظاهر قولهما جاء قول النابغة:

وحلت سواد القلب لا أنا باغيا ... سواها ولا عن حبها متراخيا

وعليه بني المتنبي قوله:

إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا)

فهذه (لا) تعمل - أذن - عمل (ليس) - ودع قولهم إن عملها قليل فالقلة لا تمنع العمل. وما عدها أحد خطأ أو لحنا - وقد زاد العرب الباء في خبر أختها أو قريبتها فقال قائلهم: فكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة ... بمغني فتيلا عن سواد بن قارب

و (لا وليس) تتناوبان، قال اللسان:

(قد تجيء ليس بمعنى لا ولا بمعنى ليس، ومن ذلك قول لبيد: (إنما يجزي الفتى ليس الجمل) أراد لا الجمل. وسئل سيدنا رسول الله عن العزل عن النساء فقال: لا عليكم أن لا تفعلوا فإنما هو القدر، معناه ليس عليكم الإمساك عنه من جهة التحريم وإنما هو القدر، أن قدر الله أن يكون ولد كان)

وهل (ليس) أصلها - كما قالوا - إلا (لا) ضمت أليها (أيس) ثم كان ما أراده الله تعالى وعمله الانتخاب الطبيعي في اللغة عمله في كل شئ، وهل أنت - يا فتى - من قبل أنت، هل دريت كيف كنت؟ قال التاج:

(أصلها - يعني ليس - (لا أيس) طرحت الهمزة ولزقت اللام بالياء، وهو قول الخليل والفراء، قال الأخير: والدليل على ذلك قولهم أي العرب: ائتني به من حيث أيس وليس، أي من حيث هو ولا هو، وكذلك قولهم جئ به من أيس وليس أو معناه من حيث لا وجد، أو أيس أي موجود ولا أيس أي لا موجود فخففوا. . .)

وقد استعمل الشيخ (لا غير) في كتابه العجيب العبقري (الفصول والغايات) وفي كتابه المدهش (رسالة الملائكة) كما استعملها في (العبث) فقال في شرح جملة في الأول ص 339:

(والعرف الرائحة الطيبة وغيرها، والريا الرائحة الطيبة لا غير).

وقال في الثاني ص 70:

(. . . ومعيشة عند (سعيد بن مسعدة) مفعُلة لا غير، وهي عند الخليل وسيبويه مفعِلة ولا يمتنع أن تكون مفعلة).

واستعمل (لا غير) أئمة قبل المعري وبعده. وهذه جريدة قصيرة في استعمالهم إياها:

الكتاب لسيبويه (ج 2 ص 317):

(ويكون الاسم على أنفعل في الوصف لا غير).

تهذيب إصلاح المنطق (ج 1 ص 181)، والتهذيب لابن السكيت والإصلاح للتبريزي:

(بفية الإثلِب والأثلَب أي الحجارة والتراب، قال أبو يوسف: أشك في الإثلب والأثلب وأحسبه أفعل وأفعل. الحوفي هي أفعل لا غير، لأن الهمزة إذا كانت أولا يقضي عليها بالزيادة إلا أن يقوم دليل بأنها من الأصل).

الفصيح لأبي العباس ثعلب (ص 31):

(جلا القوم عن منازلهم جلاء وأجلوا أيضاً، وأجلوا عن قتيل لا غير إجلاء).

وفيه في (ص 81):

(ولد المولود لِتمام وتَمام، وليل التمام مكسور لا غير). الكامل للمبرد (ج 6 ص 54 رغبة الأمل من كتاب الكامل):

(قال رجل لعمر بن عبد العزيز يرثيه:

قد غيب الدافنون اللحد إذ دفنوا ... بدير سِمعان قسطاس الموازين

من لم يكن همه عينا يفجرها ... ولا النخيل ولا ركض البراذين

أقول لما أتاني ثم مهلكه ... لا يبعدنّ قوام الملك والدين

يقال هذا الأمر وملاكه لا غير، وتقول فلان حسن القوام مفتوح تريد بذلك الشطاط، لا يكون إلا ذاك).

الفائق للزمخشري (ج1 ص 126):

(النبي صلى الله عليه وسلم قال حري: رأيته دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء حرقانية قد أرخى طرفها على كتفيه: هي التي على لون ما أحرقته النار كأنها منسوبة بزيادة آلاف والنون إلى الحرق، يقال: الحرَق بالنار والحرق معا والحرق من الدق محرك لا غير). المخصص لابن سيده (ج 3 ص 50): (وقالوا: جزاك الله خيرا والرحم بالنصب والرفع، وجزاه الله شرا والقطيعة بالنصب لا غير).

شرح المفضليات لأبي محمد ألا نباري (ص 565):

(أنكرته حين توسمته ... والحرب غول ذات أوجاع

قال عامر: أنكرته شككت فيه، يقال: أنكرت الرجل إذا كنت من معرفته في شك ونكرته إذا لم تعرفه، قال الله عز وجل: نكرهم وأوجس منهم خيفة. قال أبو عبيدة يقال أنكرته ونكرته بمعنى واحد وكذلك استنكرته، وأنشد بيت الأعشى:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... مني الحوادث إلا الشيب والصلعا أي إنما أنكرت شيبي وصلعي لا غير، فأما كرمي وطبيعتي فلم أتغير عنهما). لسان العرب لابن منظور (ج 4 ص 346):

(قال الجوهري: وأما قولهم: قدك بمعنى حسبك فهو اسم تقول: قدي وقدني أيضا بالنون على غير قياس لأن هذه النون إنما تزاد في الأفعال وقاية لها مثل ضربني وشتمني. قال ابن بري: وهم الجوهري في قوله: إن النون في قدني زيدت على غير قياس وجعل نون الوقاية مخصوصة بالفعل لا غير. وليس كذلك، وإنما تزاد وقاية لحركة أو سكون في فعل أو حرف كقولك في من وعن إذا أضفتهما إلى نفسك مني وعني فزدت نون الوقاية لتبقى نون من وعن على سكونها، وكذلك في قد وقط تقول قدني وقطني فتزيد نون الوقاية لتبقى الدال والطاء على سكونهما. وكذلك زادوها في ليت فقالوا: ليتني لتبقى حركة التاء على حالها، وكذلك قالوا في ضرب ضربني لتبقى حركة الباء على فتحها. وكذلك قالوا في اضرب اضربني أيضا أدخلوا نون الوقاية عليه لتبقى الباء على سكونها).

وفيه في ج 6 ص 279:

(العَمر والعُمْر والعُمُر: الحياة، يقال: قد طال عمره وعمره، لغتان فصيحتان، فإذا أقسموا فقالوا: لعمرك فتحوا لا غير، والجمع أعمار، وسمي الرجل عمرا تفاؤلا أن يبقى). فهل يرى السيد عبد الله المدني أن شيخنا أبا العلاء وهؤلاء الأئمة المتقدمين كلهم أجمعين كانوا من اللاحنين؟. . .

محمد إسعاف النشاشيبي



مجلة الرسالة - العدد 676
بتاريخ: 17 - 06 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى