كلّ شيء مسألة شرف.. ترجمة بروفيسور حسيب شحادة

في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها خليل بن شاكر بن خليل مفرج المفرجي (أبراهام بن يششكر بن أبراهام مرحيب همرحيبي، ١٩٢٢ - ١٩٨٩، شاعر ومفسّر للتوراة، نشر شرحًا كاملًا للتوراة بالعبرية السامرية) بالعربية على بنياميم صدقة (١٩٤٤-)، الذي نقلها بدوره إلى العبرية، أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، في العددين ١٢٤٠-١٢٤١، ٥ حزيران ٢٠١٧، ص. ٨٧-٨٩.

هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى أقطار العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتصون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).

”مسألة عدم احترام

أتفهم، إنّ كلّ شيء بمثابة مسألة احترام؟ نعم، هكذا وببساطة. أهناك اليوم احترام؟ أين نحن اليوم بالنسبة للاحترام، مقارنة بما كان في الماضي؟ هذا هو الوضع، لا يمكن القيام بأيّ عمل؛ هكذا نشأ هذا الجيل، لا يعرف معاملة الكبار بما يستحقّونه من تقدير واحترام. يا له من جيل! نعم، ذات يوم عرفوا معنى لفظة ”احترام/شرف“، ومن لم يعرف حرَص الآخرون على تنبيهه على الملأ إلى أن انكمش خجلًا جمًّا وولّى الأدبار. هذه الأيّام، من الممكن أن يقف شخص ما أمامَ الجمهور مرنمًا وهو لا يفرّق من حيث النغم بين يمينه وشماله، يُخطىء في كلّ كلمة ثانية، وعندما يشيرون إلى ذلك أو يصحّحونه، يردّ بالحال بصراخ عالٍ وفي أحسن الأحوال يهمس ويتمتم. إنّه في كلتا الحالتين ينقل للمستمعين رسالة مفادها: هو والنغم وُلدا معًا من بطن واحد .

قُل لي أنتَ، أيطرأ في خيالك أنّ أمرًا كهذا كان من الممكن أن يحصل في الماضي؟ آنذاك عرفوا ما معنى الاحترام. من كان ليجرؤ ويقف مرنّمًا أمام الجمهور قبل أن يكون قد كرّر وحفظ غيبًا نشيده مائة ومائتي مرّة وأنشد بين يدي كهنة ومسنّين مختصّين بالنشيد فصادقوا على إنشاده. وإذا كان مع كلّ هذا يُخطىء خطأ ما من جرّاء الانفعال وصُحِّح، كان يفقد صوته حياءً أو كان يخفضه إلى أن يعود ثانية. وفي حالة قيام أحد الكهنة بتوجيه ملاحظة للمرنّم أو حتّى يصحّح قليلًا، كان المرنّم يومىء برأسه شاكرًا ويبتسم ابتسامة طفيفة اعتذارا. اليوم، أين ذلك؟ هل تعي؟ كلّ شيء أصبح قضية شرف.

أتفهم؟ كلّ شيء ما هو إلا مسألة شرف. إذا أردت مثلًا جيّدًا يظهر كيف ينبغي التعامل بالاحترام المستحقّ، فليس هناك شخصية مناسبة لذلك أكثر من الكاهن الأكبر، توفيق بن خضر الحفتاوي اللاوي (متسليح بن فنحاس هعبتئي هليڤي) الذي خدم بين السنتين ١٩٣٣-١٩٤٣، رحمه الله. آه، يا لها من شخصية كانت تنضح هيبةً واحترامًا وجلالا. تعلم، بدون أيّة مقارنة، عندما كنت أحاول في خيالي تصوّر مظهر سيّدنا موسى، عليه السلام، كنت أُشبّهه بشخص الكاهن الأكبر توفيق. عندما رحل هذا الكاهن عن هذا العالَم، كنت ابنَ واحد وعشرين ربيعًا، إلّا أنّ ما تمكّنت من التزوّد منه يكفيني لقرن من الذكريات الحلوة. حينما كان يسير في الشارع، عرفت أن الاحترام يخطو هناك.

الهارب من الشرف

هل تظنّ أنّه كان يبحث عن الشرف؟ يطارده؟ لا وألف لا، كان يفرّ منه والشرف يلاحقه. تصوّر، شخصية ممشوقة القامة، جسم كبير يعادل كلا نجليه سوية، ذَقْن أشقرُ متدلٍ بانتظام ونظرة ناظريه تخترقك وتجعلك تغضّ الطرف نحو الأسفل خجلا. مَن كان يجرؤ على قول شيء لا محلّ له قدّامه؟ كان عليك أن تراه جالسًا على ”مذبح“ الصلاة في الكنيس. كان الاحترام يشعّ من وجهه ومن كلّ ركن في قدس الأقداس. إشارة بسيطة منه، كانت كافية لتلبيتها في الحال.

حتمًا سمعتَ عن أخيه الكاهن إبراهيم بن خضر (أبراهام بن فنحاس) ومدى خبرته بالأحكام والتقاليد والإنشاد. لم يطرأ بباله أن يقوم بإنشاد أي نشيد بدون موافقة أخيه توفيق. اعترف الجميع بسَعة معرفة الكاهن إبراهيم في نظم الشعر وإلقائه، إنّه علّم معظمَنا. ذات يوم أتى الكاهن توفيق إلى بيت أخيه لقراءة نوبة الأسبوع، بعد صلاة صباح السبت. استهلّ هو بالطبع بالقراءة، وخيّل للكاهن إبراهيم بأنّ أخاه أخطأ شيئًا ما في تنغيم لفظة معيّنة. همس في أذن أخيه مصحّحًا وانخرس للتوّ، قبل أن يؤنّبه أخوه بصوت مسموع على وقاحته، ممّا أدّى إلى خروج إبراهيم من بيته هو استحياءً، وانتظر في الخارج حتّى نهاية القراءة.

إذا سألتني قلت لك إنّ الكاهن إبراهيم كان على حقّ وليس شقيقه توفيق الكاهن الأكبر. ولكن لم يخطُر ببال الكاهن إبراهيم، بأيّ شكل من الأشكال، أن ”يتواقح“ نحو أخيه الأكبر منه سنًّا. حينما خرج الكاهن الأكبر توفيق من بيت أخيه، رأى صاحب البيت يتململ بجانب بوابة داره، صاح به مجددًا ولكن هذه الكرّة بمَسحة من الدُعابة وقال له ”أُركض بسرعة إلى بيتك، زوجتك تنتظرك بسلطات الصباح“. هل تظنّ أنّ إبراهيم جاوبه؟ لا! إنّه توجّه صوب بيته مطأطىء الرأس معترفًا بذنبه. هل تفهم؟ كلّ شيء مسألة شرف!

الشرف يسير أمامه

مَن لا يعرف الكاهن صدقة بن إسحاق، رحمه الله، الذي كان زعيم السامريين في نابلس بُعيد وفاة الكاهن الأكبر توفيق. الكاهن صدقة الذي هابه الجميع، حرص أكثر من باقي أفراد طائفته على ألّا يخدِش شرف الكاهن الأكبر توفيق. في كل سبت وعيد، درج صدقة على العدو نحو الكاهن الأكبر لتقبيل كفّ يده اليمنى بوجل ومحبة. كلّ شيء مسألة شرف!

أفاهم أنت؟ كلّ شيء ما هو إلّا مسألة شرف! عندما كان الكاهن الأكبر توفيق يخطو في ”نزلة“ الشارع المؤدّي إلى مركز المدينة، كان الشرف يتقدّمه. ذات مرّة، قبل وصوله لمجموعة من العرب كانت قاعدة في آخر ”النزلة“، واتفقت أنّه إذا ما حيّاهم رئيس طائفة الخننيص (الخنانيص، الخنازير الصغيرة) كما دعوه، فلن يردّوا التحية. عندما وصلها الكاهن الأكبر توفيق، في كلّ روعته ألقى عليها نظرة ثاقبة وقال باحترام ملكيّ ”السلام عليكم!“، وفجأة وجدت كلّ الشلّة نفسها منتصبة ومردّدة ”وعليك السلام!“. كلّ شيء مسألة شرف“.


بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى