نظمي خليل - الشعر كصورة للجمال

أظن أن كثيرا من الناس يقرءون الشعر يتساءلون ألا يوجد في الشعر شئ آخر غير الموسيقى والصور. ما هذا الجمال الذي نسعى وراءه؟ ما رسالة الشعراء للعالم؟ ما معنى القصيدة؟ وربما زاد بعضهم فقال: ماذا يعلمنا الشعر؟.

فإذا اصطلح الناس على أن الصور الشعرية يجب أن تدرس من أجل لذة الاستيعاب نكون قد وصلنا إلى غايتنا ونترك هذه الأسئلة تجيب عن نفسها.

ولكن هذا القانون السقيم، قانون الاختبار الذي ظهر في القرن التاسع عشر وهو المنفعة قد انحرف بالمثل العليا في الشعر وألزمه أن يؤدي لنا نتائج خاصة وآثار ملموسة يمكن للمستوعب إدراكها وتفهمها.

في الشعر الجيد كثير من الجمال الذي نجده في سائر الفنون السامية، ولكنه جمال خفي غامض لا يمكن أن يعرض أو يشرح، فلا تكاد الألفاظ تأخذنا إلى ذلك الجو السحري البعيد حتى نشعر أن وراء النظم نوعا من ضوء الأحلام ليس موجوداً ولكنه سائر أبداً. يولد فينا احساسات بأشياء غامضة لا يمكن أن يصبر عنها بالكلمات نفسها بل قد لا يحسها الشاعر نفسه.

ولكننا وإن كنا لا نستطيع الإفصاح عنها لا نرتاب في وجودها. فهي حقيقة موجودة كالحياة عينها.

أما أولئك الذي يعجزون عن الإحساس بهذه الكآبة الغامضة أو السرور الخفي الذي ينبعث من الموسيقى اللطيفة فقد تكون مشاغل الحياة قد صرفتهم عن ذلك فلبد إحساسهم وبرد قلبهم، وصاروا يدلجون في الحياة وهم أبعد الناس عن الإحساس بها. فاليهودي أو رجل المال مثلا لا يشعر بها لأنها ليست شيئا يباع في الأسواق.

هذه الأشعار التي نحس ببهجتها الغامضة نعرفها بأنها شعر إلا أن النقد لا يستطيع أن يحللها أو يصورها في تعبيرات موسيقية أو صور. ولكن القلب يعرف أنها شعر لأنه شعر بها.

هذا هو الاختبار الأخير للشعر؛ وهذه هي وظيفة الفنان لا يعنيه أمر العقل في قليل أو كثي لأنه لا يقدر موضوعات ولكن صورا تبعث فينا احساسات خاصة ولكنها لا تحمل معنى يمكن أن يعبر عنه أو يشرح حسب القوانين العقلية.

فإذا فكر القارئ في الموسيقى بدلا من الشعر لا يصعب عليه فهم هذا. ولكن من سوء الحظ أننا فصلنا الشعر من سائر الفنون وكدنا ننسى أن الموسيقى هي ابنة (أبولو) وليست ابنة (منيرفا).

فالسؤال الآن: ماذا يعلمنا الشعر لا يلقى إلا في مجتمع قد جعل الاختبار والعقل فوق كل شئ وغاية كل شئ.

الشعر لا يعلم ولكنه يلهم. فأولئك الذين يريدون أن يعلموا يجب أن يكون منطقهم واضحا وسليما؛ ولكن جوهر الشعر الأصيل هو ما لا يمكن أن يفهم أو يعبر عنه بحجج العقل والمنطق.

فالشاعر ليس مدرساً ولكنه رسول وكلامه غامض.

قال شيلي: (الشاعر كالبلبل الذي يجلس في الظلام ويصدح ليبدد وحشة وحدته بأنغامه الشجية، والمستمعون إليه كأولئك الذين سحروا بنغم موسيقار متوافق، فيحسون أنهم قد اهتزوا وطربوا ولكنهم لا يدركون متى ولماذا؟).

أما الخطأ الشائع وهو أن تعاليم القصيدة يمكن أن تأخذ شكل القوانين والأصول فراجع إلى تلك التجربة الأسيفة المحزنة وهي شرح الشعر بالنثر أي نثره، ولكن الشعر لا يمكن أن ينثر كما لا يمكن أن يترجم دون أن يفقد حياته.

أجل قد يأتي لنا المترجم بقصيدة جديدة لا تقل عن الأولى جمالا وروعة كما حدث في ترجمة بوب للإلياذة وفتز جرا لد لرباعيات الخيام، ولكن يجب أن نعترف أن هذه ليست شرحاً ولا ترجمة بل هي خلق جديد.

كل ما أخذ عن النقد الرديء هو أنه يعني بالموضوع بدلا من الشكل.

وقد عاب (ميتو أرنو لد) (دكتور جونسون) لحكمه الخاطئ على (ليسيداس) (مرثية ملتن لصديقه كنج) (إن أكبر غلطاته هو ظنه أنه ما من أحد يجد سروراً أو لذة في قراءة ليسيداس لأن معنى هذه القصيدة ليس حقيقياً وفكرتها قديمة) وقد وقع ميتو أرنو لد في نفس الخطأ عندما أعلن حربه على شيلي في قوله: (يعوزه شئ هام في الشعر لا يمكن أن يشفى منه وهو المادة).

نريد أن نتحرر من هذا النوع من النقد ما دام الشعر كغيره من الفنون الرفيعة غرضه المتعة والسرور العام.

فالشعراء يريدون أن يخلقوا ليشعروا لا ليفكروا. والنقد وهو المساعد الوحيد للخلق يجب أن يقوم بحثه لا ليجعلهم يفهمون التعاليم والقواعد ولكن ليريهم الفن ويتركهم يتمتعون به ويقفون على ما فيه من فائدة لأرواحهم لا لعقولهم.

ولقد شرح الألمان شكسبير فحللوا آراءه الدينية ونزعاته الفلسفية وتعاليمه الدينية والأخلاقية ومبادئه السياسية، وجعلوا منه وحشاً مخيفاً فقالوا إن حلم (ليلة في منتصف الصيف حفلة حقيقية).

ومن المحتمل أيضاً أن أغانيه صدرت عن تجربة علمية فقد قال دكتور جونسون وهو قول خاطئ من أساسه (إن شكسبير كان يعنى بأن يسر أكثر من أن يعلم، وأنه كان يكتب بعيداً عن أي غرض أخلاقي) كذلك قال أمرسن (لقد أراد أن يعطينا صوراً وكان جديراً به أن يقدم لنا تعاليم).

لم يكن أحد من الإنجليز يفطن إلى هذا الاختبار حتى جاء به أرنو لد من الدنيا فقال (إن رسائل شيلي ستبقى بعد أشعاره الغنائية).

ونجد كثيرين يكرهون كيتس ولا سيما جمهور الطلبة لعجزهم عن فهم أو شرح معانيه. فالجمال أو الخير الذي ننشده في الشعر هو الخير الذي فهمه كيتس وعبر عنه بقوله (أوه. لا تتعب وراء المعرفة فليس لدي شئ؛ ومع ذلك فإن أغنيتي تأتي وطنية بحرارتها. لا تبحث وراء المعرفة فليس لدي شئ، ولكن المساء يصغي).

دعنا نحاول أن ننقذ الشعر من أيدي الممتحنين الذين يعرضون على تلاميذهم شرحه وتفهم معانيه حتى تكون لنا دراسة واحدة للسرور والجمال الخالص.

إن رسالة الفن سر شخصي ليست محدودة المعنى.

فالقصيدة أو الصورة لها معنى خاص لكل فرد. وكل الشروح ليست إلا ظلالا لحقيقة واحدة، فمعنى الخلق الفني جميل موجود في روحه مستقر في روح صناعه.

فإخبارك الطفل بما يريد شئ جميل، ولكن عدم إخبارك إياه قد يكون أجمل وأفضل؛ فقد حدث أن كان طفل جالسا مع أمه يستمع فقال: (أمي. إني أظن أني أفهم إذا سكت هذا عن الشرح).

قد يكون هذا قانونا بلا استثناء. أي أن تبطل الشروح ما دامت لا تزيد في المتعة والسرور بالكشف عن الجمال الفني. فالطفل يستطيع أن يتبين الجمال في أغاني شوقي مثلا دون أن يعرف شيئاً عن شوقي؛ فإن أساس المتعة هو الموسيقى، فمن السخرية أن نحاول أن نلقي على الأطفال شروحاً عن حياة الشاعر قبل أن يتعلموا كيف يحبون الشاعر ويحبون شعره.

كيف يلذ للطفل أن يعرف أن حافظ إبراهيم ولد في القاهرة ثم تعلم الجندية ثم ذهب إلى السودان. . . قبل أن يقرأ أو يسمع أشعاره. أقول يسمع إذا ليس من الضروري أن يقرأ الطفل الشعر ليقف على جماله. فقد يسمع القصيدة وهو يجهل معانيها بل يجهل ألفاظها جهلا تاما. ومع ذلك تراه يطرب ويحزن تبعا لموسيقاه: ولقد قرأت مرة أن أحد الأساتذة الإنجليز جمع حوله بضعة أطفال ثم أخذ ينشد لهم شيئا من شعر هوميروس الحماسي باللغة الإغريقية فما لبث أن رأى الأطفال يهتزون ويطربون وينسجمون فسألهم عن معنى القصيدة فقالوا إنها وصف لمعركة؛ ثم قرأ عليهم قصيدة أخرى فظهر عليهم الوجوم والحزن فلما سألهم عما فهموا قالوا إنها رثاء لقتيل.

فإذا كان هذا مبلغ تأثير الموسيقى في الطفل الذي يجهل اللغة تماماً فأحرى بمدرسينا أن يتركوا أطفالهم يتمتعون بجمال الموسيقى وأن يفهموهم الشعر كصورة للمتعة والجمال.

نظمي خليل


مجلة الرسالة - العدد 685
بتاريخ: 19 - 08 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى