نزار حسين راشد - سنوات خدّاعات

"سنوات خدّاعات"
نزار حسين راشد

لا توجد متعة في العالم،تعادل متعة الفراغ والاستجمام،أنا أخطو خارجها مضطّراً،لأجل كسب العيش،وتوفير احتياجات الحياة,وكي أحصل على ما يُمكّنني من شراء المتعة مجدّداً,وملء فسحة الفراغ،بما توفّره النّقود من إمكانيّات!

نمط حياتي هذا،يحسدني عليه الآخرون،ولكنّهم لا يتجاسرون على تقليده،وها أنذا أنفث أنفاس نارجيلتي على شاطيء البحر،طارداً كلّ ظلالٍ للشك،حول أسلوب حياتي،الّذي يعدّه طفوليّاً،أولئك المتعلّقون بأهداب الحرص والخوف ممّا يُخبّؤه المستقبل.

أمارس حياتي بتراخٍ،وأستيقظ بعد الشروق،ورغم ذلك فأنا رجلٌ متديّن،أصلّي الفجر قضاءً رُبّما،ولكنّ ذلك لا ينقص من تديّني شيئاً!

لا زلتُ عازباً،وأفكّر في الزّواج على استحياء،رُبّما هو رهاب فقد الحرّية،الّذي يترتّب على الزواج!

رفعت بصري فجأة، منتشلاً عقلي من خواطري تلك،ليصطدم بصري بردفي امرأة بلباس البحر،لم تستطع طزاجة البحر العالقة بساقيها،أن تخفي معالم ترهُّل،في تلك المناطق الليّنة،التي يعدو عليها الزّمنُ بسرعة،راقبتها حتّى استدارت نحوي،ملامح وجهها توحي أنّها ربّما تجاوزت الثلاثين ببضع سنوات!حالها كحالي إذن،نحاول اصطياد الشّباب من البحر،الرّمز الأزلي للتجدّد!

حين ارتفعت حرارة الظهر،انسللتُ عائداً إلى غرفة الفندق،أدرت المكيّف وأنا مستلقٍ على ظهري بالشورت،نظرت إلى سيقاني المشعّرة،ولم أحسّ أنّها جزءٌ منّي،بدتا كجذعي شجرة قديمتين،استطالت حولهما الأعشاب،ضحكت للخاطر،ثُمّ انفجرت بالضّحك....علا طرقٌ ملحٌّ على الباب،لا بدّ أنّه خادم الغرف!لا،لا يمكن أن يكون خادم الغرف! لا يمكن أن يكون بهذه الوقاحة،إلّا إذا حدثَ خطبٌ ما!

قفزت من السرير،وخطوت إلى الباب بخفّة قط،طالعني وجه امرأة مخطوفة اللون،يكاد يقفز الفزع من عينيها،لم تمهلني حتّى جأر صوتها:

-أسرع ياأخي..أسرع..الطّفل.. يكاد أن يموت..لقد ابتلع شيئاً..سيموت.. سيختنق..قالت ذلك وهي تجري أمامي،وأسرعت خلفها

دون تفكير،واندفعت وراءها إلى داخل الغرفة..كان الطّفل جاحظ العينين،يجاهد ليخرج شيئاً التصق بحنجرته،دون جدوى..رفعته بسرعة،أوقفته أمامي،وضغطت براحة كفّي على أعلى معدته،وبدأت أضرب براحتي بقوّة ما بين كتفيه،مميلاً إيّاه إلى الأمام والأسفل،مستذكراً كل خطوات الإسعاف الأوّلية،بحرص بالغ على التسلسل،كما تعلّمته في الدّورة،ودون أن أبطيء من سرعة إجرائها،في تزامنٍ خاطف بين الذّهن والحركة...وفجأةً انقذف شيءٌ خارج فم الطّفل،مندفعاً بقوّة سهم!شهق الطّفل متنفّساً،أضجعته على جانبه،خفّ شحوبه وبدأ يستعيد وعيه شيئاً فشيئاً،لينطق أخيراً:ماما!

كانت الأمّ شاخصةً خلفي،وأنفاسها تلفح رقبتي،ورائحة أنوثتها في خياشيمي!

التقَطَت غطاء رأسها من على الكرسي،ووضعته فوق رأسها كيفما اتّفق،وهي تهمهم بما لا أفهم،ثُمّ نطقت فجأة:

-أتعبناك معنا يا أخي!أنا وإيّاه وحدنا!ليس معنا أحد غير الله!جزاك الله كلّ خير!

أجلْتُ نظري في الحُجرة،كانت عباءتها السوداء مسفوحة على الأريكة:-

قدّر الله ولطف،لا بدّ أنّ أباه ذهب في شأنٍ ما!

-لو كان له أب لما أصبحنا وهذه حالنا!

عباراتٌ ننطق بها تحت ضغط اللحظة،الّذي يدفعنا إلى البوح،بما لا نبوح به عادة.لم تلبث حتّى أردفت:

-الرجال يفرّون،ويتركون المسؤوليّة على أكتافنا،وكأنّ الرجل يتزوّج ليبدأ البحث عن امرأةٍ أخرى!

أدرت بصري بعفويّة نحو الطفل،كان في عينيه نظرة عتاب،أن تبوح أمّه بكُلّ هذا لرجلٍ غريب!

قلت وأنا أتهيّأ للانصراف:

-هوّني عليك،إنّها الأقدار تُصرّفُ حياتنا!إن احتجت إلى شيء فلا تتردّدي!

كافأتني بابتسامة،وكافأني الطّفل بابتسامةٍ أيضاً،لوّحتُ بيدي مودّعاً وهرْولتُ عائداً إلى غرفتي!

في اليوم التالي،كنت أجلس القرفصاء قِبالة البحر،متهيّاً للدخول في صراعٍ مع أفكاري كالعادة،حين شعرت بجسمٍ يلتصق بجسدي!كان الطّفل قد أجلس نفسه ملصقاً جسده بجسدي،ولم يتريّث ليعلن لي:

-أمّي قالت لي أن ألعب معك!

ألقى ببصره في اتّجاه أمّه الّتي جلست غير بعيد،ألقيت ببصري نحوها،كانت قد عطفت عنقها نحونا،فالتقت نظراتنا وهي تبتسم في حياء،وقالت مداعبة:

-إلعبوا مع بعض!لا أحد يبوق!

التفتُّ للطّفل مستفسراً:-ماذا تريد أن تلعب؟!

-أي شيّ!

-هل معك كرة؟!

-عندي كرة في الغرفة..هل أذهب لإحضارها؟!

-لا تتعب نفسك..سنشتري واحدة جديدة من الكشك!

-على حسابك أم حسابي؟!

- لا يهم!على فكرة من أي بلدٍ أنتم؟!

-من السعوديّة!

-آه لقد خمّنتُ ذلك!

انهمكنا في تقاذف الكرة داخل الماء،وواصَلتْ المرأة جلستها القرفصائيّة،شاملةً ساقيها بالعباءة،حتّى لا ينكشف شيءٌ من جسدها!

ما تحرص المرأة على إخفائه،هو ذاته الّذي تتلهّف على إظهاره،على نحوٍ ما!

تخيّلتها عارية،هل سيبدو جسدها جميلاً؟!السّمرة العربيّة النّحيلة،الجمال والشّباب،ستبدو جميلةً ولا شك،تجربة الطّلاق تجربة قاسية،في سنٍّ صغيرة وفي مستهل الحياة!

سحبني الطّفل من يدي إلى خارج الماء،وهو يحضن كرته ملصقاً إيّها بصدره باليد الأخرى،موجّها إيّاي إلى حيث تجلس أمّه!

لم تبد المرأة أيّ نوعٍ من الحرج،لا بدّ أنّها متحرّرة على نحوٍ ما!استقبلتنا بغبطةٍ بادية،واستفسرت بلهجة تنمُّ عن الرّضا التام:

-كيف عمل حمّودة؟ انبسط؟

-تمام الإنبساط،إنّه طفل رزين!

-لا يُحبّ الشقاوة!جدّي بأكبر من سنّه!بركات غياب الأب!

لا بُدّ لامرأةٍ في مثل ظروفها،أن تبدي بعض الحسرة!

قلت مستأذناً:لقد تعبت!سأعود إلى الفندق لأستريح،أراكم غداً رُبّما!

-إن شا الله!

-إن شاء الله!

تمدّدت على السرير،ولم ألبث حتّى نهضتُ،لأراقب البحر،البحر،وحيدٌ وفريد،رُبّما يتسلّى بالحياة الّتي تموج في داخله،دون أن يتدخّل فيها،إنّه المهد السحري للحياة،الأب الكبير،أمّا أنا فمشاهدٌ فقط،رُبّما أُمضي حياتي هكذا،متفرّجاً فقط!لا أجرؤ أن أنغمس في علاقةٍ بامرأة،أو أتّخذ صديقاً حميماً!عملي يضمن لي دخلاً،أستأجر به نافذة،أطلّ منها على الحياة،رُبّما أمضي عمري في تأمّل الحياة،من خلال نوافذ مستأجرة،كحال نافذة هذا الفندق!

صرنا نجتمع بتلقائيّة،في بكور الصّباح،وكأنّنا على موعد،حين يكون الشاطيء شبه خالٍ،إلّا من أشباحٍ متناثرة،من أولئك الّذين يفضّلون مثلنا طراوة الصّباح،وأنسامه العليلة!

حين ابتعد الطفل بخطواته قليلاً،لم أتمالك أن أهمس لها:

-أنت جميلة! جميلة فعلاً!

أطرقت بخجل،وقالت مغيّرةً مجرى الحديث:

-والدي سيحضر اليوم!دَزْنا قدّامه!مشاغل الرّجال كثيرة!

رّبّما كان حديثها إجابة عن تساؤلٍ قدّرَتْ أنّه مرّ بخاطري،لماذا هي وحيدة هكذا،أم أنّه للإيحاء بشيءٍما!قلت لها دون تردّد:

-لو حضر سأطلب يدك منه،كنت سأحدّثك في الموضوع،ولكن أنظري كيف تُرتّب الأقدار حياتنا! كنت قلت لك ذلك من قبل!هل ستوافقين؟!

أجابت مداعبة:-إنتظر حتّى يسألني!وحينئذٍ سأصمت ولن أجيب بشيء!

كان ذلك إجابة كافية،ولم أجد بأساً في أن نقضي معاً بقيّة ساعات النّهار،متعللين بالنيّة،في أنّنا سنصبح زوجين عمّا قريب!


.......

عدتُ إلى البيت،عودة الطائر إلى عشّه،ولكنْ بنكهة مختلفة هذه المرّة،"هدباء" متعلّقة بذراعي اليمنى،بعد أن أتممنا مراسم الزواج،وكفّي اليسرى تحضن كفّ ولدها حمّودة،وكأنّنا أضلاعُ مُثلّثٍ للسعادة..رفعت هدباء طرف عباءتها بحركة غريزيّة ودخلت،ثُمّ جالت ببصرها بغريزة المرأة العفويّة،وهزّت رأسها تعبيراً عن الرضا:

-لا بأس بهذا بالنّسبة لعازب...سأضيف إليه بعض اللمسات!

-امحي كلّ آثار العزوبيّة بلا رحمة،بعد أن عرفتُكِ،لا أطيقُ كل ما يذكّرني بها!

-نشوف لميتى!

-العمر كُلّه..ان شاء الله!

تشتعل وجنتاها غبطة،وترمقني بنظرة مُحمّلة بكُلّ معاني الود وإشعاعاته!

...

خرجتُ مُبكّراً في اليوم التالي،كنتُ متلهّفاً لاستئناف عملي،ولقاء إبراهيم،إبراهيم البسيط،شريكي الأزلي،الّذي لا أقرّر شيئاً،قبل الإشتباك معه،في نقاشاتٍ طويلة وحادّة،يتناوبها الصُّراخ والخصومة،وتنتهي إلى المصالحة والإتّفاق على قرارٍ موحّد!

لم يكتف بالترحيب بي وعناقي،بل رقص حولي رقصة الزوربا،قبل أن يتكوّر وراء مكتبه،ثُمّ يهز الجريدة ويشير لي بسبّابته:

-جرائم لا تنتهي،مجتمعنا يسير إلى الهاويه!

إبراهيم لم يستطع التخلّص من عاداته القديمة،ومطالعة الصُّحف الورقية،لا يطيق النّظرإلى شاشات الكمبيوتر،إلّا مكرهاً،حياته كُلّها أوراق،يراجع النصوص والسيناريوهات الّتي تصله عبر البريد الإلكتروني،بعد أن يستخرج منها نُسخاً ورقيّة!

بدافع حُب الإستطلاع التقطتُ الصحيفة من أمامه:رجل يطلق النار على محامٍ معروف بتحريض من فتاة!وعلى غير العادة كان هناك صورة إلى جانب الخبر!بقيّة الخبر:الظّنين يختفى والأمن يعلن عن مكافأة لمن يدلي بمعلومات تساعد في القبض عليه،ونرفق هنا صورته بناءً على توجيهات إدارة الأمن العام!

لم أستطع تحويل نظري عن الصورة وكأنّ مغناطيساً يشُدُّ بصري إليها،هذا الوجه يذكّرني بشيءٍ ما، بشخصٍ ما،الأذنين المنفرجتين المبتعدتين عن جانبي الرأس،تلك النظرة في العينين،النظرة الحادة المحتجّة،التي تضيقُ عند زاويتي العينين..وفجأة ينكشفُ عن بصيرتي،هذا هو مُحمّد الشيخ،لا يمكن أن تتفق الملامح هذا الإتّفاق العجيب لتوحي إليك بشخصيّة تعرفها،إلّا إذا كان هو هو فعلاً!

مُحمّد الشّيخ! لقد انقطعت صلتي به منذ تلك الطفولة الّتي عشنا مرحلةً منها معاً،ومع ذلك فهو راسبٌ في أعماقي،قابعٌ هناك وقابلٌ للاستحضار في أي لحظة،مُجرّد أن تلوح بارقة!حتّى أنّي رسمت صورته في مذكّراتي،صورة ملتحمة بصورتي،بتجربة حياتي،بحيثُ يستحيل انتزاعها من ركنها هناك،دون أن تتشوّه اللوحة!

وصلت إلى البيت ساهماً ومستغرقاً في الأفكار،استقبلتني هدباء بحفاوة دون أن تلحظ شرودي،بزاوية عيني تبيّنتُ شيئاً ما في يدها،شيئاً مألوفاً بدوره،ومرتبطاً بطريقة ما ،بحالتي الرّاهنة،بما كنت أفكّرُفيه،وفجأة وقع بصري على كلمة"حياتي"مرسومة بخطٍّ رقعيٍّ جميل،ومُحبّرة بالأزرق الساطع،الّذي لم تُفقده الأيّام بريقه،هذا دفتر مذكّراتي عثَرَتْ عليه هدباء،ورُبّما أرادت أن تفاجئني به،أو تمازحني بالتندّر حول بعض تفاصيل حياتي..قَطعْتُ أفكاري فجأة واختطفتُه من يدها،استهْجَنَت تصرُّفي هذا،وبادرت بالإعتذار:

-آسفة!ما كان قصدي!كان يجب أن أستأذنك!

أشرتُ إليها بيدي مطمئناً:

-لا..لا..مش هون المشكلة،سأشرح لكِ فيما بعد!

حَملْتُ الدفتر وأسرعْتُ إلى غرفة الجلوس،أسندتُ ظهري إلى الكنبة،ومدَدتُ ساقيّ على الطربيزة أمامي،وبدأْتُ رحلة البحث عن محمّد الشيخ،قلّبتُ الصّفحات،مُجرياً عينيّ فوق السُّطور...وها هو أخيراً،يطلُّ عليّ من بينها،حيثُ تركته تماماً،وكما تركته أيضاً.

"في تلك البلدة،الّتي أتقاسمها فقط مع صديقي مُحمّد،حيث لا صديق لي غيره،والّتي لا يميّزها شيءٍ،سوى ذلك الموقع الأثري،الّذي تتعاقب عليه أفواج السيّاح،بين الفينة والفينة،والّذين كنّا نتسلّى أنا ومحمّد بالتفرُّج عليهم،والتعليق على تصرُّفاتهم،أو الضّحك عليها أحياناً،قاطعين بذلك ساعات الملل الممتدّة بين المدرسة والألعاب المكرّرة الّتي يلعبها الأولاد،برتابةٍ أبديّة دون تغييرٍ يُذكر!

في ذلك اليوم جاء فوجٌ سياحي،وكنت قد سبَقْت محمّداً إلى الموقع،كان بصحبتهم هذه المرّة طفلة شقراء جميلة،ذات عيون زرقاء،وكنت واقفاً أتأمّلها وهي تبتسم مرسلةً نظراتها باتّجاهي،حين اقتحم محمّد المشهد،وقف إلى جانبي،وهمس في أذني متحدّياً،فيما إذا كنت سأجرؤ على تقبيلها وأهرب،وأجبته بأنّ ذلك عيبٌ وحرام!ولكنّه غافلني واندفع فجأة إلى حيثُ تقف الطّفلة واختطف من وجنتها قُبلة وأطلق ساقيه للريح،لا يلوي على شيء!

لم تحدث كارثة،كما توقّعت،ولم يطارده أحد!ابتسم الدليل السياحي وابتسم الجميع،ثُمّ انتظموا في طابور،وصعدوا إلى الباص بنظام وهدوءٍ كالعادة!كنت أرنو نحو الباص،فلمحْتُ الطفلة وقد ألصَقَتْ وجهها بالزجاج ،ثُمّ رفعت راحة يدها ولوّحت لي بالوداع،فبادلتها التحيّة،وتابعت الباص وهو ينحدر بطيئاً من تحت عيني،ثُمّ يتسارعُ مبتعداً ،ليختفي في البعيد،مُخلّفاً وراءه أثراً لذكرى،سوف تعلقُ بذاكرتي كبصمةٍ لا تنمحي،ورُبّما أحملها معي إلى آخر العمر!

..

بعد الغروب بقليل،جاء محمّد الشيخ،ورجاني ألّا أذكر شيئاً مما حدث،لأيّ شخص كان،مخافة أن يصل الخبر إلى أذن والده،وعندئذٍ سيسلخُ جلده أو يُعجّب عليه،كما قال!

وفي الحقيقة،فقد نكثتُ بوعدي مع محمّد،ورويتُ ما حدث لوالدي،الّذي لم تُصبه صدمة كما توقّعت،واكتفى بالإبتسام،وعلّق بطريقة عابرة:

-الشيوخ يُخلّفون دائماً أنجاساً!

حكيت ذلك لمحمد فيما بعد،فقهقه ضاحكاً،وسرّه أن والدي لم ينقُل شيئاً مما حدث لأبيه،وترك الأمر يمُرُّ بسلام!

..

لقد كبُرتُ إلى الدّرجة،الّتي أصبحتُ فيها أخفي بعض تحرُّكاتي عن أمّي،ولم يكُفّ محمّد الشيخ عن وسوساته،اصطحبني إلى مخيّم"النَوَر" على أطراف البلدة،بحُجّة أنّ لديهم أشياء نفيسة يبيعونها بأثمان رخيصة،وحين أصبحنا على مشارف المخيّم،جرّني من يدي،ولُذنا وراء صخرة،ثُمّ همس لي أن أنتظر قليلاً،حتّى تأتي بنات النَوَر،ثُمّ أشار بيده وقال:

-هنا تأتي بنات النور للتبوّل،وهُنّ لا يلبسن سراويل داخليّة،إنتظر حتّى يرفعن ثيابهنّ ويقرفصن،وحينئذٍ سترى...ثُمّ غمز بعينيه وأومأ إليّ بنظرة ذات مغزى...فكّرتُ فوراً أن أوّبخه،ولكن ما إن أدرت رأسي،حتّى كانت الفتيات قد جئن فعلاً،فحبستُ صوتي بكُلّ ما أوتيت،حتّى لا يُفتضح أمرنا،وينقلب الأمر إلى مصيبة،تقع على رؤوسنا!

وفي الحقيقة لم أستطع تحويل بصري،ولم تفلح في ردعي النوايا الطيّبة،فبقيت محملقاً بدافع الفُضول الشديد،حتّى أنهت الفتيات مهمّتهن،وشرعن بالانصراف،وبقينا نحن في مكمننا،حتّى اختفت الفتيات،وحينئذٍ نهضنا مهرولين باتّجاه البلدة،وكان محمّد طوال الطريق يلكزني،متمنِّناً علي بذلك الفضل الكبير،وهو يتقافز متمايلاً،وقد اعترته بهجة غامرة!

......

جاء خبر نقل والدي فجأة،وانتقلنا معه إلى القرية الجديدة،وشعرت بالوحشة لغياب محمد الشيخ عن حياتي،فراغٌ لم يفلح في ملئه الأصدقاء الجدد،الّذين بدوا أكثر سذاجة،وبدت لي أحاديثهم مملّة،ففضّلت التجوّل وحيداً متنقّلاً بين الشارع الإسفلتي الوحيد الّذي يشُقّ بطن القرية،قاسماً إيّاها إلى نصفين،وبين البيادرالصّخريّة والحقول الخضراء،وملأني شعورٌ بالفقدان!

إلى أن جاء عصر ذلك اليوم، وكانت أمّي لا زالت مُصرّة على معاملتي كطفل،لا بدّ أن يصحبه أحدٌ من الكبارإذا كانت المهمّة الّتي ستكلّفني بها تقتضي الغياب عن ناظريها،ولو لقليلٍ من الوقت،من أمام البيت!

لم يكن في الجيرة أولادٌ كبار،لتكلّفهم باصطحابي،راشيةً إيّاهم بالقِطع النّقديّة،فلجَأَتْ أخيراً إلى جواهر ابنة الجيران،الّتي لا تكبرني إلّا بِصفّين حسب تصنيفي الخاص للأعمار،ورفعَتْ صوتها مناديةً إيّاها،وكنت على وشك أن أصرُخ معترضاً أن ترسلني بصحبة فتاة،في اللحظة الّتي خطت فيها جواهر،مجيبةً النّداء:

-نعم يا خالتي!

التفتُّ باتّجاه الصوت،طالعني وجهها الأنثوي العذب،وكان جسدها مُمتلِئاً للدّرجة الّتي توحي،أنّه على وشك مغادرة عالم الطّفولة!

حلّت السّكينة في قلبي،وخبت فجأة سَوْرة الإعتراض، وغمرتني مشاعر من المودّة والدّفء،فانصعتُ بلا مقاومة،وقفزتُ إلى جانبها كقطٍّ أليف!

وضَعتُ يدي في يدها طوال الطريق،حسب وصيّة أمّي،وكانت تجيب على الأسئلة الّتي أمطرها بها ببراءة وعفويّة،حتّى بلغنا الدُكّان!

تولّت جواهر أمر تسمية المشتريات وتسلّمها بشكلٍ كامل،ولم يزعجني ذلك في شيء،وحين جاء وقت المحاسبة،فطِنتْ إلى أنّها لا تحمل نقوداً،فتضرّجت وجنتاها حياءً،ولكزتني بمرفقها،فأخرَجْتُ النقّود من جيبي،ودسستها في راحتها،متعمّداً أن ألتصق بجسدها قدر الإمكان،خشيْتُ أن ينتبه صاحب الدّكان،إلى حركتي،ولكنّ تركيزه كان منصبّاً على النّقود،وعلّق ضاحكاً:

-البنات للحكي بس!هات وجيب وأعطيني،وفي النّهاية الرّجال هي الّتي تدفع!

اغتاظت جواهر من تعليقه،إلّا أنّها لم تُعلّق بشيء،ولم تفطن حتّى إلى ملامستي الحميمة لجسدها!

ملأت جواهر فراغاً كبيراً في حياتي،ليس ذلك فقط،ولكنّها أدخلتني إلى عالمٍ جديد،عالم المرأة السّاحر،ولم أجد غضاضة في مشاركتها ألعاب البنات،كالحجلة،وشَبَرَة أَمَرَة شمس"القفز فوق الحبل"،إلّا أنّنا كُنّا نقضي معظم أوقاتنا في تبادل الحديث!

كانت جواهر بنتاً وحيدة،ورُبّما كان ذلك ،السبب وراء استئناسها بصُحبتي،وفي غياب الإخوة لا رقابة لصيقة ومزيدٌ من الحُرّيّة! كانت نقلة نوعيّة بالنّسبة لي،خطوة نحو النّضوج،وإلى خارج عالم محمد الشيخ الطّفولي،أوّل تواصل حقيقي لي مع المرأة،وفي اللحظة الّتي ولد فيها داخلي ذلك المغناطيس الّذي يستجيب لنداء الأنوثة،وكأنّي دلفت فجأة إلى عالم منظّم،تدور أقماره في أفلاكٍ محدّدة،عوضاً عن عالم الصّبيان المشعّث،عالم الأولاد الصّغار،لا زلتُ حتّى اللحظة،أستحضر صورة جواهر الرّزينة العاقلة،الّتي لمّت شعثي في لحظة ما،واستوعبت شَتات ذكوريّتي الفاقدة للبوصلة،حتّى اللحظة الّتي قابلتها فيها!"

صَفَقْتُ دفّتي الدفتر،ونهضْتُ من موضعي،خَطَوْتُ إلى المطبخ،التفتَتْ إليّ هدباء من فوق كتفها،وهي منهمكة في إعداد طبقٍ ما:

-وجدتْ شَيْ جديد؟!

تجاهلْتُ سؤالها السّاخر،وأعلنت بصوتٍ عالٍ،وكأنّتي أنطق حُكماً!

إنّها المَرْأة ،عقدتُه المزمنة،محمد لم يتجاوز طفولته!احتفظ بدوافعه البدائيّة كما هي،في مهدها الأوّل!

إنّه يستجيب لدوافعه الغريزيّة الّتي بقيت في مكمنها الأوّل،دون محاكمة!وهذا هو سبب ارتكابه للجريمة!لقد غرّرتْ به امرأة بسهولة،فاندفع نحو الهاوية دون تفكير،ودون أن يفطن إلى الشّرك الّذي نَصبَتْه له!

استدارت هدباء نحوي استدارة كاملة،ورفعت حاجبيها في دهشة،وهي تتفحّصني من قمّة رأسي حتّى أخمص قدمي!

ولكي أضع للأمور مخرجاً عقلانيّاً،قلت لها بلهجة مسرحيّة:

-هدباء ! أنت تستحقّين مكافأة،لقد عثرتِ لي على كنزي المخبّأ،سوف نصنع دراما من هذه المذكّرات،أنا وصديقي إبراهيم البسيط،وهذا سيكون مشروعنا التالي وسترين كيف أنّه سينجح!

.....




كلّ صباح ألتقط الصّحيفة من أمام إبراهيم متعجّلاً لمتابعة ما استجدّ في قضيّة "محمّد الشيخ"،هذا الرجل لن يسلّم نفسه،إلّا إذا حوصر تماماً،حبّاً في توفير حياته ،إنّه عاشق للحياة،هذا الرجل حيوان برّي، سيقاتل في سبيل حرّيته،سيجد منافذَ للهرب،لا بدّ أنّه غادر البلد بطريقةٍ ما،آخر ما نشرته الصحف:"المحامي الّذي أُطلِقت عليه النّار ونجا بأعجوبة، يُسقط حقّه الشخصي عن الفتاة"!وفكّرتُ أنّ هذا ليس صحيحاً ،ربّما كان مصيدة لمحمّد ليسلّم نفسه،بإغراء الحصول على حكمٍ مخفّف،هذا لن يجدي،محمد أكثر حذراً من أن يفعل هذا،ثمّ إنّه هو الذي أطلق النّار وليس الفتاة!ربّما يكون هذا تمهيداً للإفراج عن الفتاة،ونصْب مصيدة لمحمد لمحاولة التواصل معها،فالمجرم يعود دائماً إلى مكان الجريمة،هذه هي النظريّة السائدة في العلم الجنائي!ما الّذي يجعلني متيقّناً أنّه محمد؟ربّما يكون تشابهاً فقط!آه لو كنت أعرف اسمه الكامل!لتيقّنتُ فعلاً!من الغريب أن تقضي ردحاً من حياتك مع شخص لا تعرف إسمه الكامل،فقط الإسم الشائع الّذي تناديه به!الإسم الذي نشروه"محمد عبد الفتاح سلمان"،هل اسم أبيه الشيخ"عبد الفتّاح سلمان"؟حاولت أن أعتصر ذاكرتي،لعلّ أبي قد ذكره على مسمعيّ مرّة،واحتفظْتُ به في زوايا الذّاكرة،ولكن عبثاً!

إبراهيم المتلهف على مناقشة مشروعه الجديد،ينبّهني من استغراقي:ما الّذي جدّ عليك؟!تختطف الصحيفة من أمامي،كأنّك تبحث عن خبرٍ ما،ثُمّ تغيب في أفكارك ولا تعود؟!

-إبراهيم!هل يمكن أن تحدّد لحظةُ طيش مصير إنسان؟!

-هذا ما نفعله"في الدراما الّتي نكتبها ونخرجها للناس،وهذا بالذات ما يجذبهم إليها،هل تريد تغيير التكتيك وإدخالنا في مغامرة جديدة،لا يعلم إمكانيّة نجاحها إلّا الله!دعنا نتمسّك بالثوابت يا عزيزي،ونكسب عيشنا،إذا كان هذا ما تفكّر فيه!

-إبراهيم!الدراما هي آخر ما أفكّر فيه في هذه اللحظة بالذات!أنا أسأل عن الحياة الحقيقية إذا كانت لديك إجابة؟!

يقلب إبراهيم راحتيه دهشة:

-الحياة الحقيقية؟! تقصد المعاناة الحقيقيّة التي عشناها معاً في أمريكا!ربّما معك حق أن تنسى،فأنت لم تتزوّج ولم تنجب فتاة،ولم تُطلّق،ولم تصب بالرّعب حين حصلت الأم الأمريكيّة على الحضانة،وعلى نصف ما جمعته بشق الانفس،ولم تُضطر لرشوتها بالنصف الباقي،لتتنازل لك عن الحضانة!ألست أنت الذي نصحتني بذلك يومها!وقلت لي:إضرب على الوتر الضعيف لتنقذ ابنتك من براثن هذا المجتمع المتوحّش،قبل أن تضيع!غريزة الطمع المتأصّلة في قلب كل أمريكي !ورغبتها الكامنة في الهروب من المسؤولية!ولم تخجل حتّى أن تقول لي انّها عثرت على عشيق جديد،وهذا يجعلها هدفاً سهلاً!وأنّ علي ان أنتهز اللحظة،وألقي العظمة للكلبة في الوقت المناسب؟فهي الآن بحاجة أن تخلو بعشيقها،والتخلّي عن حضانة الطفلة،يهيّء لها الجو المناسب،فالْحَقْ حالك قبل أن يهجرها العشيق،وحينئذٍ ستصبح بحاجة إلى من يؤنس وحدتها ويعزّيها عن هذا الفقدان وستتمسّك بالطفلة أكثر!

لقد أصغيتُ إليك،ونفّذتُ ما قُلتَه لي حرفاً بحرف،حملت ابنتي وغادرت،قبل أن تُغيرّ العاهرة رأيها،وتستأنف القضيّة!

ثُمّ انعكست الادوار،وأقنعْتُك أنا باللحاق بي لنبدأ مشروعاً جديدا! وأصغيتَ أنت بدورك لي!وحضرت وها قد نجحنا والحمد لله !أنا كسبت ابنتي وأنت كسبت ثروة لا بأس بها!أتاحت لك أن تقدم على الزواج،بعد تخوّفّك الطويل!

-مشكلتنا يا إبراهيم،أنّنا حين نهاجر لمجتمع جديد،نتركه يغلبنا،نكتفي بالعوم على سطحه،ليسحبنا تيّاره إلى حيث يريد،وكأنّ قدرنا الإستسلام!نأكل معه قي طبق واحد،دون أن نختار وجبتنا!أنت مثلاً لم تفصح لكارول عن أفكارك ومشاعرك الخاصة،وماهوحلال وما هو حرام بالنسبة لك،قبلتها بشروطها،ولم تُمل شروطك!لم تدْعُها لاعتناق دينك حتّى،ولم تحدّثها عنه بكلمة!ولا حتّى عن التقاليد والعادات،ولم تُعرّفها إلى أحد من وسطك،باستثنائي أنا!ولم تُعرّفها إلى امرأة عربيّة واحدة!

-ما علينا ماض وانتهى!

ينفرج باب المكتب فجأة،ويطلّ رأس مريم ابنة ابراهيم،تدخل وهي تمثّل دور المتسلّلة،ناقلةً خطاها كالقطّة،تغمز لي بعينها!وهذ ا يعني أنّ هناك طلبٌ من والدها،عليّ أنا أن أقنعه بتحقيقه،ولا بدّ أنّه طلبٌ ثقيل،لأنّ ابراهيم سخيٌّ جدّاً مع ابنته!تجُرُّ كرسيّاً تلصقه بمقعدي،تلصق كفّها بجانب أذني وتبدأ بالهمس:

-ماما!

-مالها؟

-هي هنا،لقد حضرت!

-وماذا تريدينني أن أفعل؟أستطيع أن أستقبلها عندي في البيت إذا أردتِ!فأنا الآن رجل متزوج!

-أريدك أن تقنع والدي أن يسمح لها بالإقامة عندي!إنها متلهّفة كي تراني وأنا كذلك!

-سأحاول ولكن:أنت تعرفين موقف والدك!

-لا أحد غيرك يستطيع أن يقنع والدي بشيء لا يريده! أنت لك يدٌ عليه!لو رفض طلبك،ضميره سيؤنّبه،أنت لا تعرف كيف يتحدّث عنك في غيابك!كأنّه يتحدّث عن قدّيس!

لا أدري كيف التقطت أذنا إبراهيم أطراف الحديث،حتّى جأر غاضباً!

-كارول!الشيطانة؟!هنا؟!

غمزْتُ إلى مريم أن تخرج!وما إن أغلقت الباب وراءها بهدوء!حتّى وجّهتُ نظري إلى إبراهيم الّذي كان يُتمتم بالشتائم،ويتخبّط في حركاتٍ عشوائيّة،لا يستطيع التحكّم بها!

-إبراهيم! إهدأ واسمعني للآخر!

-ماذا تريدني أن أفعل؟أستقبل هذه الشيطانة في بيتي،وأجعلها تسرق عقل ابنتي؟!ربّما ستقنعها أن تصحبها إلى أمريكا!ما جاءت إلّا لِتُدمّر حياتي!

-دعك من المبالغة!أوّلاً مريم الآن شابّة واعية،ومتعلّقة بك كثيراً!إنّ مداركها أوسع مما تتصوّر!

وكارول الآن في الجانب الأضعف،مريم كذلك أيضاً!أملِ عليهما شروطك،وفي نفس الوقت كن سخيّا معهما!دون تفريط هذه المرّة!ضع قواعد اللعبة!أخرج دراما الحياة بالطريقة نفسها الّتي تخرج بها دراما السينما!كن مخرجاً واثقاً وحازماً !وعبقريّاً موهوباً!

ابراهم يطرب للمديح،تركته يستسلم لأفكاره!سَهَم طويلاً قبل أن يستدير نحوي مستفسراً:

-وأين سأقيم أنا؟!لن أتشارك مع هذه المرأة هواء غابة واحدة!دع عنك شقّة واحدة!

-أقم في شقّة العزوبيّة ،واترك البنت وأمها وحدهما،ربّما يبنيان ما تهدّم،أو يرمِّمان ما تصدّع! الحياة هكذا،نستأنفها أحياناً من عند آخر نقطة انقطع خيطها بنا!أتدري يا إبراهيم؟أنا وأنت نعيش دراما حقيقيّة،تتتابع مشاهدها متسارعة،وها هي هي خيوطها تلتقي وتتشابك عند العقدة،العقدة التي ستحلّها أنت بعبقريّة المخرج،إبراهيم لا تفشل في الحياة!لأنّك إن فشلت فهذا يعني أنّنا لم ننجز شيئاً،واننا نكسب عيشنا بخداع الناس وبيعهم الاوهام!ألست أنت الّذي تزعم أنّنا نُقدم للنّاس الحلول؟!أثبِتْ ذلك!أوْ دَعْنا نعتزل!

بالفعل إنّها دراما الحياة الغريبة ،لقد حشَرَتْ الاحداثُ نفسها فجأة في حيّزٍ ضيّق،وجذبتنا جميعاً إلى داخله،وتركتنا نتصادم ونتعثّر في بعضنا،محاولين إعادة ترتيب حياتنا ،على ضوء ما فاجأتنا به على غير توقّع،لنخرج إمّا منتصرين،أو أن نفشل،النهايتان المتوقّعتان دائماً لنهايةِ أي دراما،لأنّ الزمن لا يمهل،الزمن حدّ الدراما الّذي لا يمهل ولا يرحم!



by nana817 on

...



"في تلك القرية،لم يكن هناك أي مركز طبّي،ولا حتّى مستوصف،ولا واسطة نقل،واضطررنا أن نضع الطفل المصاب بالحمّى على ظهر حمار،ساقه ابن خالتي بالعصا،حتّى بلغنا دير الراهبات،لم يكن ابن خالتي على يقين،من وجود أي إمكانيّات،في دير الراهبات،ولكنّه قدّر أنّ الراهبات،لا بُدّ أن يحتفظن ببعض العلاجات،للحالات الطارئة ولاستعمالهنّ الخاص،كنت أضطرّ لإسناد الطفل المُترنّح بيدي،حتّى لا يسقط عن ظهر الحمار،ولعبتُ دور المرافق بنجاح،تحسّست جبينه براحة يدي،كان يشتعل ناراً،وقدّرت أنّه ربّما لن يعيش حتّى الصّباح،ولكنّني احتفظت بأفكاري لنفسي،حتّى لا تصاب أمّه بالرّعب،وحين بلغنا باب الدّيْر،استقبلتنا إحدى الراهبات بجفاء،وقد ساءني ذلك،ولكنّي كظمت غيظي أيضاً،حتّى لا يمتنعن عن مساعدتنا،تحدّث إليها ابن خالتي برفق،وكان هادئاً بطبعه،اختفت الرّاهبة لبضع دقائق داخل الدير،وعادت وفي كفها بضع حبّات،قالت بعربيّة مكسّرة:

-أعطوه حبّتين هذه الليلة،وحبّتين في الصّباح.

عادت الراهبة من حيث أتت،وتركتنا كما كُنّا،إلّا من الحبيبات البيضاء،الّتي تكرّمت بها علينا..ظننتُ انّنا سنقفل عائدين،ولكنّ ابن خالتي طلب مساعدته في إنزال الطفل،فحملناه وأسندنا ظهره إلى جذع شجرة،على جانب الطريق،بناءً على توجيهات ابن خالتي..أخرج ابن خالتي قربة ماء من "الخرج "وهو حقيبة بكيسين توضع على ظهر الحمار،وتناول حبّة دسّها في فم الطفل حريصاً على أن يوصلها إلى حلقه،ثمّ فتح فم القربة،ووضع فمها بين شفتي الطفل طالباً إليه أن يفتح فمه،ثمّ سكب الماء برفقٍ ورويّة،وسأله هل ابتلعها؟فهزّ الطفل رأسه أن:نعم،وهكذا فعل بالحبّة الأخرى!ثمّ أخرج قطعة قماش وطواها عدّة طيّات،ثُمّ أغرقها بالماء،وألصقها على جبين الطفل،وشدّها بخيط،ثًمّ أعدنا إركاب الطفل،على ظهر الحمار،وقفلنا راجعين إلى القرية!

وحين وصلنا البيت،وضعنا الطفل في فراشه،وتحسّس ابن خالتي جبينه هذه المرّة وأعلن:

-حرارته خفّت..الحمدلله!

وردّت أمّه بصوتٍ كسير:

-والله قطّع قلبي،خفت عليه كثيراً!

استحوذ عليّ شعورٌ بالغبطة،كوني شريكاً كاملاً،لابن خالتي ،في هذه المهمّة الجليلة!وقبل أن نغادر، طلب ابن خالتي لأمّه أن تستبدل قطعة القماش المبللة على جبينه كل نصف ساعة،ولم يرق هذا لجدّته،الّتي وجّهت الأم بصرامة:

-لا تسمعي كلامهم،اكمريه بلحافين حتّى يعرق!ورفع ابن خالتي حاجبيه للأم محذراً أن تسمع كلام الجدّة!

في الصّباح قال خالي:

-سنذهب به إلى القدس ،لا بُدّ أن يراه الطبيب،ونقلناه ببك أب أبي محمود،الّذي ينقل سلع القرويين من خضار وفواكه إلى القدس لبيعها،مقابل أجرة محدّدة!

عادوا ومعهم أكياس من الدواء،وقالت أمّه إن الطبيب أعطاه حقنة،وشفي الطفل بعد عدّة أيّام،إلّا أنّ أحداً لم يذكر نوع مرضه،ونسي الجميع الحادثة بعد ذلك!

"في القدس كان الوضع مختلفاً،فلم تكن النّساء يرتدين الثياب المطرّزة،ولا يضعن غطاءَ أبيض للرأس،ويتحدّثن إلى الرجال بلا تحفّظ،هذا في مجتمع النساء الشّابّات،أمّا الجيل الأقدم فكن يسدلن غطاءً أسود خفيفاً على الوجه،ويرتدين ثياباً بأزرار تصل إلى ما تحت الرُّكبة،وتحتها جوارب سميكة بُنّية اللون،أو افتح قليلاً بلون الكاكاو،ويُشحْنَ بوجوههن،حين يتحدّثن إلى الرجال!

وفي باب العمود،وبصحبة خالي ،التقينا بضع شابات يرتدين القميص والتنّورة القصيرة،سافرات الرأس ويرفعن شعورهن بتسريحات،رأيت مثلها في أفلام السينما القليلة،الّتي شاهدتها بصحبة عمّي الأصغر!

توجّهنا بعد ذلك إلى شقة تحمل لافتة كتب عليها"غوشة للمحاماة"!

كطفل كنت قد كوّنتُ فكرة،عن الناصريين والقوميين،الّذين يدينون بالولاء لمصر وجمال عبد الناصر،ويعارضون الحكم الأردني والملك،ويصفونه بأوصاف قاسية كالرّجعيّة والخيانة!وقد أدركت متأخّراً،بعد أن نما وعيي في تلك البيئة السياسيّة المشحونة بالخطر والتحسُّب،أدركت أنهم يختارون أمكنة عامّة،لعقد الإجتماعات،حتّى لا يُقبض عليهم،ولكي يتوفّر غطاء قانوني ،في حالة تمّ دهمهم،أنّهم في عيادة طبيب للمراجعة المرضيّة،أو في مكتب محامي للمراجعة في قضيّة ما!وليس في لقاءٍ حزبي!

[SIZE=3]وأذكر أنّ والدي كان يسمح لهم بالاجتماع في بيتنا،رغم انّه عسكري،ولم أفهم لماذا يخاطر بذلك،إلّا حين جاء العسكر إلى منزلنا،فاحتجّ والدي بأنّهم أقربائه "يتعللون" عنده،أي يسهرون ويتسامرون ،فهمتُ حينها أنّه غطاءٌ أيضاً،ولم يكن أمام العسكرإلّا التراجع،أمام هذه الحجّة،إلّا أن والدي أصرّ على إكرامهم،وأقسم أن يتناولوا العَشاَء،ويبدو أنّ ذلك كان ثمناً يقبضه العسكر،مقابل غضّ الطرف وطي الموضوع،وبدا كسيناريو متّفق عليه مسبقاً! [/SIZE]



كانت المظاهرات تشتعل في مدن الضفّة الغربيّة،نابلس والقدس،وكانت تشارك فيها ما يعرف بالأحزاب الوطنيّة،من ناصريين وقوميين وشيوعيين،باستثناء الإخوان المسلمين،وكانت المظاهرات تقمع بقسوة بالهراوات على يد قُوّات البادية وسلاح الفرسان وبعض كتائب الجيش،إلّا أنّ النار لم تطلق على المتظاهرين،ولم يحدث أن سقط متظاهرٌ قتيلا بالرّصاص.

كانت الأجواء أجواء حرب،وقد أكّد والدي ذلك،وبعقليّته العسكريّة قال إنّ اليهود حين يصعّدون الإشتباكات على أكثر من جبهة،عبر خط الهدنة،فإنّهم يختبرون استعدادنا،وهذا يعني أنّهم يهيؤون لحربٍ شاملة!

أمّا خالي فقد قال إنّ ناصر سيتكفّل بكل شيء،ولن يحتمل اليهود غلوة واحدة أمام الجيش المصري!

أغلق عبد الناصر مضائق تيران،الأمر الّذي أبهج خالي ورفاقه،وقال إنّ ناصر يستدرج اليهود للحرب،وبالفعل انفجرت الحرب في 5 حزيران 1967،واستبشر الجميع خيراً،وصفّقوا للنصر القادم،ودسّت جدّتي المفتاح القديم في عبّها،استعداداً للعودة إلى بيتها في الرّملة!

كان الجميع مسمّرين حول الراديو بصمت،وكان أحمد سعيد يزمجر معلناً سقوط أسراب الطائرات الإسرائيليّة كالذُّباب،ثّم تصدح الأغاني الحماسيّة،وفجأة انقطع البث،وأعلن صوتٌ عبر المذياع:

-هنا صوت إسرائيل من القدس،وبعد أن تلا بياناً أعلن فيه هزيمة الجيشين المصري والأردني واحتلال سيناء،ودخول القدس،طلب إلى الجميع الهدوء والتعاون مع القوّات الإسرائيليّة المتقدّمة،وصرخ خالي الّذي أصيب فجأة بالذعر:

-هذه مؤامرة لتحطيم المعنويّات،هكذا هي الحروب،الحرب الإعلاميّة والنفسيّة كالجندي في الميدان!

لم يكن علينا أن ننتظر طويلاً،فقد جاء رجال على رأسهم المختار،وقالوا إنّ الدبّابات الإسرائيليّة تتقدّم نحو البلدة عبر وادي"لِفْتا"،ولفتا هي القرية المجاورة لبلدنا،على الجهة الأخرى من خط الهدنة،الّذي يفصل قريتنا عن القدس الغربيّة!

وطلب المختار بصوتٍ آمر من كُلّ مَنْ عنده بندقيّة أوسلاح،أن يخبّئه،حتّى لا تحدث مذبحة في القرية،واحتجّ خالي بأنّ اليهود لا يؤمن جانبهم،وأنّ على الشباب أن ينصبوا كمائن حتّى نتبيّن نيّة اليهود،وإذا قرّروا إطلاق النّار على الشباب أو الإعتداء على النّساء،فسنقاوم على الاقل!

لم يطل النقاش طويلاً،كان اليهود بالفعل قد وصلوا،وتقدّم ضابط يهودي على رأس مفرزة من الجنود،وابتسم مخاطباً الرجال المتجمهرين بعربيّة ركيكة:

-مين المختار؟!كالولي إنّه هون!

وتقدّم المختار رافعاً يده ومعلناً:

-أنا المختار!

وحينئذٍ أعلن الضابط:

-مش راح "نئزي" حدا وإنت يا مختار طمئن الناس وخللي كل واحد في بيته،وما بدنا أي مشاكل مع حد!

وقطع الحوار،توقُّفُ جيب عسكري إلى جانب الضابط،ترجّل منه رقيب وهمس شيئاً في أذن الضابط،وصرخ الضابط آمراً بالعبريّة!

وأدّى الرقيب التحيّة،وقفز إلى سيّارة الجيب،وأدارها منطلقاً بسرعة،أطلقت صرير العجلات!

وسأل المختاربصوتٍ مرتبك:

-شو اللي صار؟صار إشي!

وأجاب الضابط:

-هاللا بيعرف!

خيّم الصمت دقائق،ثمّ عادت الجيب العسكريّة،وتوقّفت أمام الضّابط الّذي تقدّم وكشف الشادرالّذي يغطي صندوقها الخلفي،ومدّ الجميع أبصارهم بفضول إلى داخل الصندوق،وانعقدت ألسنتهم دهشة،وشخصت أبصارهم،وهم يرون أربعة جنود مقيّدين وملقين على أرضيّتها،وأعلن الضابط بتفاخر:

-هدا حاول يتحرّش ببنت!هدا مصيره!انا راح بيروح من هون!ما في عسكري واحد بيضل!مختار:إنت المسؤول!

ثمّ صعد إلى الجيب،واصدر أمراً للسائق،ورأيناه يتقدّم رتل الدبّابات إلى خارج القرية،وباتجاه قرية "بِدّو"!

وتنفّس المختار الصُّعداء،وهنّأ الجميع بالسلامة،وذكّرهم أنّه كان على حق في تخمينه!

انتفخت أوداج المختار،وأخذه الزّهو،قال هو يشير بسبّابته إلى صدره:

-شفتو؟!مش قلتلكم!

خالي الّذي استبدّ به الغيظ،ردّ على المختار،من بين أسنانه:

-هذه سياسة لطمأنة النّاسّ حتّى يأكلوها لقمة سائغة!

...

عرفنا فيما بعد،انّ الطائرات المصريّة،دُمّرت في مرابضها،وأنّ الطيّارين كانوا يحيون حفلاً ساهراً،بصحبة وردة الجزائريّة،وقُدِّم ضبّاط سلاح الجو للمحاكمة!

وخرج الإخوان المسلمون عن صمتهم،ونعتوا جمال عبد النّاصر بالخائن،وقالوا:سقط هُبَلْ!أمّا خالي فقد أصيب بصدمة لم يستفق منها،ولم ينبرِ للردّ على الإخوان كعادته،وهمس لنفسه أنّهم رُبّما كانوا على حق طيلة الوقت،و كُنّا نحن المغفّلين ".

.......

قال إبراهيم أنّنا سنُتمُّ عملنا في القاهرة،وسنستأجر ستوديو ونصوّر هناك!فاجأني قراره وقلت:إنّ الاحداث هناك على سطح صفيحٍ ساخن...قال إبراهيم:

-دعنا نشهد ولادة التاريخ.إنّها لحظة نادرة،دعنا نقتنصها،ألسنا كتّاباً وفنّانين؟!هذه مهمة الكاتب ،اقتناص التحوّلات التاريخيّة وتخليدها!قلت:

-لا أستطيع ترك هدباء وحدها!بالكاد تعرف البلد!أجاب ببساطة:

-أحضرها معك!

-وأنت ماذا ستفعل؟هل ستحضر مريم وأمّها؟!

-هذا ما كنت أود أن أحدّثك عنه،سنذهب لنرى كيف تسير الأمور هناك!

-ولماذا أذهب انا؟!

-لتمنعني من الإطباق على خناقها،في اللحظة الّتي تقع عليها عيناي!

....

أسرَعَت مريم تحتضن أباها،ورمقتنا "كارول" بنظرة خاطفة،قبل أن تنهض مرحّبة:

-هاللو ابراهيم..هاللو اسماعيل! ?How are you

لم يُجبْ إبراهيم بشيء،أمّا أنا فصافحتها مهمهماً بالترحيب والإستفسار عن أحوالها!

قالت وكأنّها تريد إبراهيم أن يسمع:

-أحوالي على ما يرام..لقد جرت مياهٌ كثيرة تحت الجسر،بعد أن غادرتم،افتقدْتُ مريم،وحاولت أن أعرف شيئاً عن هؤلاء الناس،الذين تنتمي إليهم ابنتي وتعتنق دينهم!

همهم إبراهيم:

-وكأنّك تكترثين كثيراً!

تجاهلت تعليقه،وعقّبتُ أنا:

-وكيف وجدتِنا؟

-بشرٌ مثلنا..هل هناك فروقٌ بين الناس؟!

واحتدّ إبراهيم:

-بالطبع هناك فروق..فروقٌ كبيرة في كل الأحوال..

وردّت كارول مبتسمة:

-إذا كنت جئت هنا لتتشاجر،فلست في مزاج للشجار،وعلى أية حال:رُبّما أكون قد أخطأت في حقّك،وربّما عليّ أن أعتذر عن ذلك،حتّى ولو جاء هذا الإعتذار متأخّراً!

وجّهت أنا كلامي إلى مريم،مغيّراً مجرى الحديث:

-ابوك يريد أن يصطحبك إلى القاهرة..ما رأيك؟!

-صحيح؟!وهل ستأتي أمّي معنا؟!

علّق إبراهيم مغمغماً:

-هذا اللي ناقص!واحتجّت مريم:

-بابا!

أشار إبراهيم لابنته أن تقترب،وأجلسها في حضنه،وقال وصوته يتهدّج بالحنان:

-إصطحبي من تشائين،لن أرفض لك طلباً،أنت طفلتي المدللة!

-لست طفلة يا أبي!هل نسيت أنني مخطوبة!

-كيف لي أن أنسى؟!وهذا عبءٌ آخر،ساضطرُّ إلى حمله أيضاً!

وقالت مريم بدلال:

-أبي!لا تتحدّث عن خطيبي هكذا!إنّه شابٌ رائع!

وعقّب إبراهيم:

-القرد في عين أمّه!

-هكذا أنت يا أبي! تسخر من الجميع دائماً!

-لا بأس إذا شئت أن تصطحبيه فاصطحبيه هو الآخر،ولنذهب كلّنا العيلة بالليلة!أحضري جوازات السفر إلى المكتب!وسأتم إجراءات الحجز!

-أنت رجل عظيم يا أبي! قالت مريم وهي تحشر نفسها بين ساقيه وتطبع على جبينه قبلة!

...

أوعزتُ إلى هدباء أن تحزم ما تريد أن تحزمه،وأوضحت أنّ إقامتنا رُبّما ستطول إلى شهرٍ أو نحوه!

-على تساهيل الله!

عقّبت هدباء بفطرتها النقيّة،الّتي يحضر فيها الدِّين دائماً!

وقلت محذّراً:

-لا تنسي المذكرات!كتاب"حياتي"!ضعيه في حقيبة يدك!

-ويش حاجته؟سألت ببراءة طفوليّة!

-سأستوحي منه سيناريو أقدّمه لإبراهيم!"أكل عيش"!

-تتحكّى مصري من الحين!عيني عليك تزوغ عينك هنْا وللا هناْ؟!

-لا تقلقي!أنت ملء العين والقلب!ما في مكان لغيرك!

...

في الطائرة أجلسْتُ هدباء إلى جانب النافذة،وأجلست حمّودة بيننا،وجلست أنا في الطّرف الآخر!ورفعتُ يدَ هدباء وقبّلت راحة يدها معتذراً عن انشغالي عنها،وعلّقَتْ متشكّية:

-ما لنا حيلة عليكم الرجاجيل!

تجاهلت تعليقها،ودفنت رأسي في مذكّراتي:

[SIZE=3]"في 10 حزيران 1967،لَحِقْنا بوالدي إلى الضفّة الشرقيّة من نهر الأردن،وعلّق والدي على مجريات الحرب كالتالي، قال: لم نتلقّ أوامر بإطلاق النار، حتّى بعد أن قام اليهود بقصفنا،وإطلاق النّار على مواقعنا،والاشتباك مع اليهود كان إمّا دفاعاً عن النفس،أو بقرارٍ ميداني من قيادات الوحدات العسكريّة،لم يكن لدينا غطاء جوّي ،وكانت هذه نقطة تفوّق العدو الحاسمة،بالإضافة إلى سلاح الدبّابات،أمّا نقطة تفوّقنا فكانت المدفعيّة،نظراً لضيق العمق الإسرئيلي بين البحر وخط الهدنة،والمعروف عسكريّاً بالشريط السّاحلي ،وكانت مدفعيّتنا تطال عمق المدن،الأمر الّذي يزعج الإسرائيليين كثيراً.. وبعد ذلك تلقّينا أمراً بالإنسحاب..وكان العذر: أن ّ مصر خذلتنا، ولم يرسل عبد النّاصر طائراته،وتركنا هدفاً مكشوفاً لسلاح الجو الإسرائيلي!ثُمّ لم يلبث والدي أن استقال من الجيش،وانتهت روايته عند هذا الحد،حيث لم يعلّق بعدها بشيء![/SIZE]
تحت أعيننا تجسّد الحلم من جديد،ويبدو أنّ هذه الأمّة لا تتنازل عن أحلامها،حتّى عقب أقسى الهزائم،تشكّلت المنظّمات المقاتلة الفلسطينيّة،وبدأنا نرى مقاتليها في الشوارع،بلباسهم المبرقع وبندقيّة الكلاشينكوف المعلّقة في أكتافهم،واندفع الشباب للإنضمام إلى صفوفها،اندفاعاً محموماً،وبمباشرة العمليّات العسكريّة،ضدّإسرائيل،شعرنا جميعاً بأنّ الحرب لم تتوقّف،وأنّ الفرصة أمامنا لم تزل مفتوحة لتحقيق النصر،او تعويض الهزيمة،كان ذلك استرداداً للذات الّتي فُقدت أو بَتَرَتْها الهزيمة بتراً موجعاً،كان سباقاً جماعيّاً لاستعادة الكرامة،بلغ ذروته حين اندلعت معركة الكرامة بالفعل قرب بلدة الكرامة عبر ضفّتي النهر،بين المقاومة الفلسطينيّة مدعومة بمدفعيّة الجيش الأردني،وبين الجيش الإسرائيلي،انتصر فيها الجيش والمقاومة نصراً مبينا،وخسرت القوّات الإسرائيليّة خسائر فادحة، وانسحبت مثخنة،تجرّ معها جثث قتلاها،حصيد الإنزال الجوّي الفاشل،الّذي تلقّته كمائن المقاومة بالنيران،وفتحت هذه المعركة أفقاً جديداً للتحالف بين الجيش النظامي الأردني والمقاومة الفلسطينيّة،ودبّت الروح الوطنيّة في الجيش الّذي كان متلهّفاً لغسل مرارة الهزيمة،ومحو طعمها من تحت لسانه!

كان ذلك أكبر من أن يحتمله الملك والنّظام،وكان يعني مباشرةً،أنّ أيّام النظام أصبحت معدودة،بفعل تنامي التأييد للمقاومة في الشارع،وانتقال العدوى إلى صفوف الجيش،وكان الصّدام وشيكاً لا محالة،وهذا ما حصل فعلاً،واضطرّ ياسر عرفات إلى الخروج بمقاتليه،تحت ضغط عربي،تربطه به وشائج،كان فصْمُ عراها انتحاراً سياسيّاً،بأيّة حال!

ولكنّ الحُلُم لم ينته،بل انتقل إلى الساحة الأكثر حيويّة،لبنان،والتي برغم تناقضاتها،كانت المهد الأوّل لحلم النهصة والتحرّر العربيين،حتّى باستلهام الليبراليّة الغربيّة،ومباديء الثورتين الأمريكيّة والفرنسيّة،هذا الإستلهام الّذي لا زالت النخبة العربيّة المثقّفة تجرّ ذيوله وراءها وهي تدير ظهورها إلى الوطن ،لاجئةَ إلى منابتها الأصليّة :أمريكا وباريس!

تكرّر السيناريو نفسه في لبنان،وسطّر ياسرعرفات سِفْرَ خروجه الأخير من لبنان،بعد أن ضاقت به السّبل،وأعلن حلفاؤه في الحركة الوطنيّة عجزهم عن الاحتمال،وناء بهم حملهم!كان الثّمن باهظاً،وعجز الجميع عن تسديده،وبدا لبنان بكلّ ما أتاه الله عاجزاً عن الوقوف في وجه عالم متواطيء مع إسرائيل،ونظام سوري قيَّم َتغيّرالمعادلة السياسيّة في لبنان كبشارة بنهايته ،فنظام ديكتاتوري منغلق لا يحتمل هبوب هواء الحرّيّة من نوافذ بيوت المخيّمات وأكواخ الحارات الشعبيّة،خاصّة وأنّه يمثّل الوجه الآخر للنظام الطائفي في لبنان،وانكشاف هذا النظام أو زعزعته،يعني انكشاف وجهه الطائفي بالمثل،كيف والفلسطينيّون في لبنان يمثّلون مدّاً سنيّاً يلتقي مع روافده في طرابلس الممثّلة سياسيّاً بزعامات سنيّة بمباديء ناصريّة،الأمر الذي ينكأ بدوره جراحاً قديمة نائمةً بخاصرته ،فحافظ الأسد هو الّذي شارك في حركة الإنفصال عن مصر الناصريّة في 1963بالتحالف مع صلاح جديد وضُبّاط علويين ومن أقليّات أخرى!ولذا فقد كان المدّ الوطني في لبنان يوقظ كل أوجاعه المزمنة،ويهدّد وجوده تهديداً مباشراً!

بعد انحسار المد الثوري،وتهافت الأنظمة العربيّة للصلح مع إسرائيل،والّذي افتتحه أنور السادات الوريث الشرعي لثورة 23 يوليو الناصريّة،ولحق به ياسر عرفات بعقد اتفاقيّة أوسلو عام 1993،ثمّ تبعته الأردن بعقد اتفاقيّة وادي عربة عام 1994،فتح هذا الإنحسار الباب على مصراعيه للمد الديني،كبديل يعيد الصراع مع إسرائيل إلى سيرته الأولى،وخاصّةً بعد انتصار الثورة الخمينيّة في إيران،والتي اصطدمت مع الولايات المتّحدة رأساً برأس،ورفعت شعار”الموت لإسرائيل”،ومدّت يديها بالدعم المفتوح لحركة إسلاميّة ممثّلة بحزب الله في لبنان،وحركة حماس الإسلاميّة في فلسطين،وجاءت الحرب في أفغانستان لتفتح الباب بدورها أمام مدٍّ جهادي سنّي،دقّ المسمار الأخير في نعش الإتحاد السوفياتي،ونَعْش حليفه اليسار العربي،الّذي سقط من فوق حصانه،ولم يبق له من حصن،ولا حضن يلجأ إليه إلّا النّظام السوري،المعادي للحركات الدينيّة والّذي نكّل بالإخوان المسلمين،وارتكب المذابح في حملة مسعورة لتصفيتهم،ومع ذلك تحالف مع الثورة الخمينيّة بحكم الوشائج الطائفيّة الّتي تجمع بينهما،والّتي تعمّقت بسبب نشوب الحرب بين إيران والعراق تحت حكم صدّام حسين العدو التقليدي للنظام السوري،منذ انقلاب عام 1966في سوريّا،ومغادرة ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث إلى العراق!

وهكذا انشقّ المد الإسلامي إلى تيّارين،شيعي متحالف مع اليسار العربي المتهالك،وسنّي يضمّ تحت جناحه الإخوان المسلمين والسلفيين…

وجاءت حرب الخليج الأولى الّتي شنّها الأمريكان على العراق عام1990 بذريعة تحرير الكويت من الإحتلال العراقي، وبتأييد إيراني سعودي ،لتزيد الإستقطاب حدّة،ولتوفّر الأرضيّة الخصبة للحركات السنّيّة الجهادية،لإعلان الحرب على كلٍّ من السعوديّة وإيران ،ثُمّ جاءالإحتلال الأمريكي للعراق عام2003 بمساعدة إيرانيّة وفتوى سعوديّة وغطاءٍ سياسي من الطائفة الشيعيّة في العراق، ليعمّق الشرخ ويوفّر للمد الإسلامي الذريعة لخطابِ أيديولوجي يكفّر الأنظمة المتحالفة مع أمريكا وإسرائيل وعلى رأسها بالطبع السعودّية وإيران!

نظام حافظ الأسد الّذي اختبأ طيلة الوقت خلف معاداة الإمبرياليّة الامريكيّة،أسقط ورقة التوت بإرساله قوّات تقاتل إلى جانب التحالف الأمريكي في العراق عام 1990″حرب الخليج الأولى!

وبعد الإحتلال الأمريكي للعراق في 2003،سلّمت قوّات الإحتلال الأمريكي زمام السياسة العراقيّة لإيران،لتضمن قمع أي حركة مقاومة مسلّحة،بحكم التبعيّة الدينيّة لشيعة العراق للمرجعيّة الإيرانيّة وإئتمارهم بأمرها،وهكذا التقت المصالح الإيرانيّة الأمريكيّة وأصبح العداء المعلن بينهما خبراً من الماضي!

وهكذا تبدّلت المواقع واعتلى التيّار الإسلامي السّنّي سرج العداء مع أمريكا،ولعبت الحركات الجهاديّة رأس الحربة في هذه الحرب تاركةً الحركات الإسلاميّة السلميّة كالإخوان المسلمين وما يسمّى بالسلفيّة العلميّة الّتي ترعاها السعوديّة،خلفها بمسافات!

وهكذا طفا مصطلح الإرهاب الإسلامي على سطح السياسة الدوليّة والخطاب الإعلامي،وروّجت له الولايات المتّحدة خاصّةً بعد تفجير برجي مركز التجارة في نيويورك في 11 سبتمبر 2001،وإعلان تنظيم القاعدة مسؤوليته عن التفجير!

وأصبح شعار مكافحة الإرهاب شعاراً ترفعه الولايات المتّحدة وألأنظمة المنضوية تحت لوائها،بمن فيهم الإخوة الأعداء أي السعوديّة وإيران!والّذين تلقّفا مصطلح الإرهاب والجماعات التكفيريّة والخوارج تلقّف الملهوف،على الرغم من أنّهما بدورهما يكفّران بعضهما بعضاً!"

….

صحوت على صوت هدباء منبّهاً إيّاي،إلى أنّنا نستعدُّ للهبوط في مطارالقاهرة الدولي،وأنّ عليّ أن أربط الحزام..

أقفلْتُ دفّتي الكتاب وناولته إلى هدباء،دون أن أستفيق من سهومي بعد!

بدا مطار القاهرة محنّطاً،عليه مسحة قِدم،برغم الحركة الدائبة في أرجائه،وتولّى إبراهيم أمر ختم الجوازات،وخرج مبتهجاً وهو يعلن بصوته الجهوري:لولا معارفي لما خرجتم قبل آذان العِشاء!

استأجرنا سيّارة”ليموزين”،مخافة أن نقع في براثن السائقين الشعبيين،كما قال إبراهيم أيضاً،ووجّه إبراهيم السائق:الهيلتون التحرير يا اسطة!وقال السائق:حاضر يا بيه!ولم اجد بُدّاً من التعليق:

-لِمَ هذا الإسراف، يا أخي الأرستقراطي..خديوي إبراهيم؟!

وردّ إبراهيم ضاحكاً:

-أتدري أنّه كان للخديوي قصر في نفس الموقع؟!ومع ذلك يبدو أنّك لا تذكر ما قلته لك:هناك سيولد التاريخ!

قضينا وقتنا في السّياحة بين الأهرامات وخان الخليلي والمُقطّم،ثمّ سيّدنا الحسين والسيّدة زينب،وحديقة حيوانات القاهرة والمتحف المصري،وكنّا نشاهد شراذم مبعثرة من المتظاهرين،هنا وهناك،وحين تلتقي نظراتنا،كان إبراهيم يكتفي بالتعليق:ساعة الولادة لم تحن بعد!وكأنّه يفهم من نظراتي أنّي أكذّب نبوءته!

كانت النّساء في غاية السعادة وخاصّة هدباء وكارول،أمّا مريم فلم يعجبها مستوى النّظافة،وكانت ترفض تناول الطّعام،إلّا في مطعم الفندق!

مساء يوم الرابع والعشرين من يناير 2011،أصدر إبراهيم تعليماته للنساء كالتالي،قال:

-ستنتقلن معاً إلى السويت”الجناح” الأيمن،وسنبقى أنا وإسماعيل في السويت”الجناح” الأيسر،أمّ صهري العزيز فله حريّة التنقُّل بين الجناحين،إفعلن ما يحلو لكُنّ،تسوّقن،سرّحن شعوركن،لأنّنا لن نخرج لمدّة يومين أو ثلاثة!

وسألت مريم بدلال: لِمَ هذا القرار العسكري؟!

وأجاب إبراهيم بجدّيّة مصطنعة:

-احتياطات أمنيّة!لا ندري ماذا سيحدث!المظاهرات تتصاعد بوتيرة سريعة،ألم تلحظي ذلك أثناء خروجنا وعودتنا؟!

مساء ذلك اليوم في ليلة الخامس والعشرين من يناير 2011،التقطت أذنا إبراهيم،صوت الهمهمة الخفيّة،صاح بجذل:

-إنّه الطّوفان قادِمٌ يا عزيزي،لقد فار التنّور!

التقط كاميرته،الّتي جهّزها مسبقاً وطار إلى الشُّرفة،الّتي تُطلُّ على الميدان!كان المدُّ الجماهيري يتدفّق،أو الطّوفان كما قال إبراهيم،ورُفِعَتْ لافتات وعلت هتافات،وصاح الجميع بصوتٍ هادر:

-الشّعب يريد إسقاط النّظام!

كان صوتاً مزلزلاً،يشفي غليل الإحتباس الطويل،ويهزّ أركان قصر الحاكم،أيّاً كان وحيثُما كان!

كان إبراهيم يُسجّل المشهد بكاميرته بتلذُّذ وقد اعترته نشوةٌ بالغة!

ثُمّ علا صوتُ الطلقات،مزمجراً هنا وهناك،وعلت الهتافات من جديد:

-هو مبارك عايز إيه؟عايز الشّعب يبوس رجليه؟

لا يا مبارك مش حنبوس بكرة عليك بالجزمة ندوس!

لا أدري كيف بدا المشهد لإبراهيم من خلال عدسته،أمّا بالنسبة لي فقد بدا المشهد بسيطاً:إراداتٍ صغيرة اجتمعت معاً كَلَبِناتٍ صغيرة،لتصنع سدّاً شامخاً،أمّا من هو الصّانع،فإنّها يدُ الله،الّتي تقطف عنق الطُّغيان والطُّغاة،حين يحين وقت القطاف!هذه الرّوافد النحيلة،التقت في مصبٍّ واحد لتصنع نهراً عارماً!هكذا يصنع التاريخ،من مجموع هذه الإرادات!

اندفع النّاس أفراداً وجماعات،وكأنّهم على موعدٍ مسبق،وماجت هذه السّاحة العارية بالحياة فجأة،ليولد التاريخ فيها من جديد!

كلّ يوم كان إبراهيم يطوف بكاميرته مسجّلاً التفاصيل،أمّا النّساء فقد تعلّقت أبصارهنّ بشاشة محطّة الجزيرة،

وحين تنشدّ عضلات وجه إبراهيم وتختلج،ويُسقط الكاميرا لهنيهة،أدرك أنّ مصاباً قد سقط برصاص الجيش أو الشّرطة،ولا ندري إن كان قتيلاً أو مصاباً فقط!ويقطع المشهد ليقول:

-كيف أستطيع أن أشاهد القتل دون أن أمنعه؟!وكأنني أشاهد فيلماً سينمائيّاً!

-فلننتقل إلى قلب المعمعة!إذا كان هذا ما تريده؟!

-حتّى ذلك لن يجدي!فأنت الا تدري متى وأين يصيب القدر!الأحداثُ ستجري في مجراها!

النّعوش تطوف فوق رؤوس الجماهير! وتعلو صيحات التكبير:الله أكبر..الله أكبر!

خيّل إلينا جميعاً أنّنا مكثنا دهراً،أو دهوراً،حتّى جاء فَرَجُ الله أخيراً،في يوم 11 فبراير2011،وأعلن عمر سليمان مدير المخابرات المصريّة تنحّي حسني مبارك عن السُّلطة،وتسليمها إلى المجلس العسكري،وأصيبت الجماهير بجنون الفرحة،وزغردت،وبكت،وأعلنت انتهاء عهد،وبداية عهدٍ جديد!

.........

جلستُ إلى مكتبي،من موقعي ،كان بإمكاني مشاهدة إبراهيم ينفث سيجارة"النفرتيتي" ويلقي بأسئلته العشوائيّة ،إلى عواطف المصريّة،فتاة المونتاج،كان يستحضر الأجواء المصريّة،على طريقة السّحَرَة في استحضار الشياطين،بِحَرْق البخّور،قال إن مرارة "النفرتيتي"،لا بل الصّورة الّتي على العلبة،تعيد إليه الصّور والروائح،حتّى ضجيج المترو،الّذي كان يستقلّه بين ميدان "روكسي"في مصر الجديدة وميدان التحرير!لا بل إنّه يرسم في رأسه خارطة الشوارع بين ميدان طلعت حرب،شارع محمّد محمود،شارع الجامعة العربيّة،كوبري قصر النيل،وكُلّ تلك المسارات الّتي تنعقد وتنفضّ في صحن الميدان،ميدان الميلاد والموت،كما سمّاه إبراهيم!

عواطف بنتٌ ريفيّة،لم تنشأ في القاهرة أصلاً ،وحين يسألها إبراهيم،عن الأحياء الّتي تشملها القاهرة القديمة،تجيب بسذاجة معدّدةً الأحياء الشعبيّة:بولاق الدكرور،امبابة،المحلّة،وتشفعها دائماً بعبارة:ياسعادة البيه!وتنسى سيدنا الحسين والسيّدة زينب،والموسكي والعتبة والحلميّة،وغيرها من أحياء الوسط،التاريخيّة البارزة!

دخلْتُ مقاطعاً خصوصيّتهما،ووقعت عينيّ على رأس الملكة نفرتيتي،على غلاف العلبة،إلى جانب لوحة المفاتيح،وقلت لإبراهيم ضاحكاً:

-طربوش نفرتيتي لا يكفي،أنت بحاجة إلى بعض المُحفّزات،ماريجونا مثلاً؟!

-عقلك في أمريكا،بنجو يا فالح بنجو،تربة!حشيش!قرش!درهم!لا تُفسد جوّي بمصطلحاتك الدخيلة!

قلت مستدركاً:

-آه والله صحيح!بنجو!آيوى!عشان هيك ،أطلق شباب الفيس بوك،لقب محمود "بنجو"،على الشاب النّحيل الاسمر،بتاع حركة تمرُّد!

كنت على ثقة،بأنّ جلسات إبراهيم الصّوفيّة لن تفضي إلى شيء،إلّا مزيداً من الإستلطاف،والحميميّة،بينه وبين عواطف،الّتي لم يُخفِ إعجابه بها أصلاً!

وفي النّهاية،سيُلقى علي وعلى مخيّلتي الجامحة،عبء كتابة سيناريو الفيلم الّذي ينوي إبراهيم إخراجه بعنوان:مشاهد مصريّة"!

وصرّحتُ لإبراهيم:

-ما يحدث في مصر مهزلة،لأنّ التاريخ لا يتكرّر،عبد الناصر كان في فلسطين وسوريا والعراق،وإندونيسيا وكوبا والهند،أكثر منه في مصر،كان هناك بانوراما عالميّة يديرها المعسكر الإشتراكي!هذا المشهد لن يتكرّر، أحمد سُكارنو لن يتكرّر،ولا كاسترو ولا موغابي!هل ستقول هذا في فيلمك؟!

"هل ترى؟هي أشياء لا تشترى!"

رفع إبراهيم عينيه إليّ منبهراً،كانت تعابير وجهه مشدوهة،وكأنّه تلقّى لتوّه وحياً،قال ببطء،مؤكّداً مخارج الحروف،وكأنّه مجذوبٌ دخل في حلمه:

-أعِدْ ما قلتَ حرفاً بحرف،هل تستطيع؟!نقر تلفونه النّقّال إلى وضع التسجيل،وأردف:

-هذا هو السيناريو الّذي أريده،ما تحدّثنا عنه للتو،عبقريّة العفويّة،ضرب بيده وقال بنبرة آمرة:

-إبدأ!وبدأتُ بقريحة منفتحه،فتح الإطراءُ محابسها فتدفّقت من غير عناء:

-لقد ترك التاريخ بصمته،وبصماته لا تمّحي أبداً،حين رأيت تلك الفتاة،على رأس المتظاهرين،تُدبّج الهتافات،وتصيح الحناجر من ورائها،رأيتُ جسدها الأنثوي المُنفعل،يرتجُّ بعُذوبة ثوريّة صارخة،أدركتُ أنّ للثورات رومانسيّتها،رومانسيّة لا تُسجّلها إلّا الصورة،قميصها الأزرق،بنطالها الداكن،وحجابُ رأسها،كلُّ تلك التفاصيل الّتي شعّ منها الجمال فجأة،لقد ذكّرتني بتلك الفتاة الكوبيّة،الّتي كان كل فلسطيني بالنّسبة إليها بطلاً،كان ذلك أيّام المدّ الثوري،أذكر كيف نهَضَتْ لمصافحتي،كانت مصافحة حارّة دافئة،كأنّ بيننا شيئٌ مشترك كبير،تعرفه هي،وأعرفه أنا،كنّا هدفين مكشوفين،لما سمّاه "الخميني بعد ذلك"قوى الإستكبار،كنّا نريد أن نحصّن أنفسنا بالتضامن،وأن نصنع البطولات أيضاً!كان ذلك اختباراً قاسياَ لذواتنا وللعالم!لم نفشل في الاختبار ولكنّ المؤامرة كانت أكبر منّا!أكبر من بضعة أفراد يخوضون حرب وجود!كان السياسيّون يصنعون الصّفقات،على حساب حماسنا واندفاعنا!

صفّق إبراهيم بيديه إعجاباً،واقتحمت ابنته مريم المشهد،وأطلّ من خلفها شبح أمّها كارول،أبدى إبراهيم بعض التبّرُم،ولكنّ مريم لم تمهله،قالت:

-نحن ذاهبتان للتسوّق وأُريد بعض النقود،ناولها إبراهيم بطاقة الفيزا،وعلّق:

-لا تُشطّبي الحساب!

-بابا !أنا أعرفك،هذه بطاقة الحساب الصّغير!

ضحك إبراهيم على فطنة ابنته،وحين أصبحتا خارجاً ،قلت له معاتباً:

-إبراهيم!أعتقد أنّه حان الوقت لتخرج عن تشنّجك!دعها تصعد معنا القطار! مُدّ لها يداً!إنّها في النّهاية أم ابنتك!دعها تجرّب الشعور بنا كما نحن عليه"let her have a feel" يا أخي،ليس بالضّرورة أن تردّها إلى عصمتك،ولكن عاملها كإنسان،لا كخاطئة!إصفح الصّفح الجميل!كفّ عن رجمها يوميّاً،بالنّظرة والكلمة،وكل ما تحت يدك!

عواطف اعتصمت بالصّمت ولم تقل شيئاً،لا أدري بم كانت تفكّر،ولكنْ لا بُدّ أنّ لديها آمالاً تتعلّق بإبراهيم وهونفسه شجّعها على ذلك!

يبدو أنّ إبراهيم كان سارحاً مع أفكاره الخاصّة المتعلّقة بالفيلم،فاستردّ دفّة الحديث من حيثُ قاطعها دخول مريم وكارول!قال وقد طافت عيناه حيرة:

-إسماعيل!جد لي مَخْرجاً!لا أريد نهايات مفتوحة!على أيّ صخورٍ تتحطّم الثورات؟!

-على صخور الشّهوات!

-هل تسخر منّي ؟!لا اريد صيغة الوعظ أيضاً!

-سأصيغها بطريقةٍ أخرى:الأطماع والأطماح،والمخاوف والهواجس!لن تستطيع أن تحشر المجتمع بتناقضاته كُلّها في صيغةٍ موحّدة ونبيلة!

-نعم ولكن كبف سنقول هذا من خلال الحدث؟!البطل لا يخون!

-مشكلتنا هنا انّه لا يوجد بطل!الثورة المصريّة لم يقُدها بطل!ومن عجائبها فعلاً انّ الأبطال لحقوا بها لحوقاً!لقد صنعها النّاس العاديون!

-ومن دمّرها ؟!

-الأبطال!الجنرالات! الأحزاب!النُّخب! الكُتّاب! الإعلاميّون!

-أيوى!ولكن:لماذا وكيف؟!

-كما قلت لك،لكلّ إنسان شهواته الصّغيرة،عمله، أحلامه وطموحاته!إذا شعر أنّها مهدّدة،وأنّ عشّه الصّغير سينكش!فلن يتوقّف عند المباديء،سيصطفُّ خَلْف من يُلقون له العظْمَة!هذه هي انتهازيّة الإنسان،أو انتهازيّة الحياة!الثورة لحظة!أمّا إدارة المجتمع فشيء آخر! كي تنجح الثورة البلشفيّة تطلّب ذلك"ستالين"،ولتنجح الإشتراكيّة النّازيّة تطلّب ذلك "هتلر"،وبعد مُحمّد صلّى الله عليه وسلّم،تطلّب الأمر أبا بكر وعمر،ليطوّعوا الأنصار والمهاجرين!ولم يغفر لهم الشّيعة حتّى يومنا هذا!غياب البطل هنا هو المعضلة!والشّعوب ليست أبطالاً!هذه كذبة كبرى!البطولات تصنع على ظهورها الكبيرة العريضة،هذا كلّ شيء!

-وإذن؟

-وإذن فسيكون لدينا مشاهد! مشاهد للجماهير الثائرة!مشاهد في الغُرف المغلقة لمن يتآمرون عليها!مشاهد لأشخاص يحدّثون أنفسهم ويكشفون دوافعهم!سنتعامل مع أنبل وأحط الدوافع الإنسانيّة على طرفي المشهد!أظنّني سهّلت مهمتك كمخرج!إبحث عن أبطالك!وأنا سأنطقهم!سأجعلهم يتفوّهون بالعبارات الكاشفة!هذا دوري ككاتب!والباقي على المخرج العبقريّ!الّذي هو أنت!

.....


رافقتُ مضطراً صديقي مصطفى الحوّام،إلى جلسة هادئة،في نادي الفراشات السّبع،قال إنّه يفتقدني كثيراً،وأنّ هناك أموراً لا يحبّ أن يتحدّث فيها إلّا معي،أنا بالذّات،وعلى عكس ما توقّعت،كان المكان صاخباً ومزدحماً،ورغم أنّنا انتقينا ركناً نائياً،في حديقة النّخيل،بعيداً عن ضوضاء البِرْكة،كما اقترح مصطفى في البداية،إلّا أنّ مصطفى،لم يكُفّ عن تلقّي التحيّات،من فتيات جميلات وممشوقات،واقتحم ثنائي منهُنّ أخيراً عزلتنا،بالجلوس إلى الطاولة المجاورة،بعد أن حيّينَ مصطفى بحرارة،ولم يخفين فضولّهن ،للتعرّف إلي وإلى إسمي،كوني صديق مصطفى،الّذي بدا في عينيّ نجماً لامعاً...ما كدن يجلسن،حتّى بدأن بالثرثرة والغيبة،وتكرّر إسم نادية خلال أحاديثهنّ كثيراً،أصواتهنّ الأنثويّة تقرع أسماعي،كأمواج رغباتٍ صغيرة منفلتة،عصيّة على الكبت ،حتّى سألت مصطفى أخيراً،عمّن تكون نادية هذه؟!

-ألم تسمع عن جريمة الحُب،الّتي أُطلِقت فيها النّار على المحامي المعروف أبو دوسة؟!نادية هي بطلتها،بالإشتراك مع ذلك الشاب محمّد!

-لقد قرأتُ عنها في الصّحف!سألتُه ُوأنا بالكاد أخفي وقع المفاجأة علي:

-ومن يكون محمّد هذا؟!هل تعرفه شخصيّاً؟

-عرّفتني ناديا إليه،جاء مختالاً كالطاووس برفقة نادية،متأنّقاً وقليل الكلام،ولم يختلط بأحد تقريباً،باستثناء جلساته المُتيّمة مع نادية!

-وهل اسمه ببساطة محمّد؟محمّد فقط؟!أليس له عائلة؟!أو لقب أو إسم دلع مثلاً؟

-لقد نشرت الصّحف اسمه وصورته،ألم تقل إنك قرأت عن الجريمة في الصّحف؟!

-صحيح ولكنّي نسيت،والصّورة في الصّحف لم تكن واضحة،هل بدا وسيماً،حتّى تفتن به فتاة يبدو أنّها تنتمي إلى الطّبقة الرّاقية في المجتمع؟

-بدا لي مغفّلاً كبيراً،لقد استغفلته الفتاة،في الحقيقة لم يعرف أحد أنّ نادية المرِحة البسيطة، تخبّيء في صدرها ثأراً كبيراً!يبدو أنّ المحامي خدعها،ربّما ذهب معها إلى أبعد ممّا ينبغي،ثُمّ تخلّى عنها،حتّى تحقد عليه كلّ هذا الحقد!

قلت مستدرجاً مصطفى،ومتعمّداً أن أقحم كلمة "الشّيخ" في سياق الحديث،لعلّها تُنبّه ذاكرته،فيما لو وردت في ثنايا الحكاية:

-لعلّه ابن شيخ من الشيّوخ،أو عين من الأعيان،حتّى يتجرّأ على إطلاق النّار هكذا دون حسابٍ للعواقب!

-لا أحد يعرف عنه أيّة تفاصيل،لقد حام كالفراشة حول زهرته،ارتكب فعلته،ثُمّ طار بلا أثر،أتعرف أنّ الشُّرطة لم تقبض عليه لحدّ الآن!

قلتُ متظاهراً بالإستغراب:

-يمكن أن يكون محترفاً؟!

-لا محترف ولا حاجة!أهبل وعبيط!

أقفلنا سيرة محمّد عند هذا الحد،واقترح مصطفى أن ننضمّ إلى الفتيات،وأجبت مستنكراً:

-لا يا صديقي!بلاش ألْحَق بِمُحمّد!أنا ضعيف أمام النّساء!خلّينا على البر الله يرضى عليك!

علّق مصطفى ضاحكاً:

-والله ما بتعرف،النّفس الإنسانيّة بئرُ أسرار!

-تصوّر يا مصطفى،حتّى في الضّنك الّذي نعيشه،على كل المستويات،يرتكب النّاس جرائمهم باسم الحُب،أو باسم الدّين!

-ولماذا الغرابة؟الضّنك يا صديقي هو السّبب،لو كنّا نمارس حياتنا باسترخاء،لتلاشت أصلاً الدوافع للجريمة!كل ما نعيشه،يعزّز التوتر،ويدفعنا للتنفيس بكل الطّرق،المعقولة وغير المعقولة!





"في تلك المدينة القاحلة،الّتي تجتاحها سوافي الرّمل،أغلب أيّام السّنة بلا إنذار،أمضيت جزءاً من طفولتي وشبابي.

اجترحتُ كلّ طقوس الحياة،الثقافة والسّياسة،الحُبّ والكره،الطّاعة والمعصيّة،التقوى والجحود،ثُمّ غادرتها على عجل،عند أوّل فرصة متاحة،وكأنّني على موعدٍ مع جناحي طائر،لا يُخلف وعده أبداً،وكأنّ ما انقضى من عمري،لم يكن إلّا انتظاراً للحظة الفرج هذه،بدا الأمر وكأنني سجينٌ أنهى مُدّة حكمه،ثُمّ اندفع بلا رادع إلى فضاء الحرّيّة!

الحرّية المقدّسة المأزومة ،أصبحت كلمة السّر في حياتي،ومفتاح المغاليق،أفَسّر على ضوءها كُلّ شيء،وأرتكب باسمها كلّ شيء،وأضحّي من أجلها بأيّ شيء!لقد تحوّلَتْ من أزمةٍ فرديّة إلى أزمة أمّة،فحين أنظر حولي،وأرى هذه الجماهير التي تسابق الموت إلى بوّابة الحرّية،أوقن أنني كنت على حق،وأنّ التوق الحبيس في كلّ تلك الصّدور‘إلى نيل الحرّية،انفجر فجأة على غير موعد،وأحدث كلّ ذلك الخلل الّذي نشهده حولنا،والّذي لا بدّ ستتماسك أمواجه شيئاً فشيئاً،لتستعيد تيّار الحياة،ولكن مع الحرّية هذه المرّة ،ليجري في الإتّجاه الّذي يختاره،بلا قسرٍ ولا ليّ أعناق!

الشعوب العربيّة تريد أن تستقي الحريّة ،فتدلي بدلائها في جوف البئر الجافّة،الّتي أفنت أجيالها واقفةً على حافتها،تريد تغيير ما لا يتغيّر،بمعجزة!تداركتُ أفكاري،موجّهاً حديثي لإبراهيم:

-أتدري يا إبراهيم ما هي أشدّ العبارات ثوريّة؟ّ!:

قول الله تعالى:إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم"،لا بدّ من خلع كل الأسمال القديمة،الإخوان المسلمين،الشيوعيين،القوميين، اليساريين،كلّ الّذين نشأوا في الحضرة،وقدّموا لها القرابين،لا بد من الخلع،الطلاق البائن بينونة كبرى!

-هذه مثاليّة لا تحتملها حتّى الثّورات،في فيتنام كانت الثورة مقدّسة،بعد الثورة الجندي الأمريكي الذي خلّفته الحرب ورائها،أصبح مواطناً،اكتسب حقّاً!في الصّين تبدّل كلُّ شيء،لماذا؟ لأنّ ماوتسي تونغ،خلخل القيم،استبدل القيم الإجتماعيّة القديمة بأخرى جديدة،استحدث مقدّساتٍ جديدة وولاءاتٍ جديدة!ببساطة نحن أجبن من أن نخلع قديمنا،أو أجبن من أن نعلن ذلك!لو قام الرئيس محمد مرسي بتمزيق معاهدة كامب ديفيد الّتي عقدها السادات مع إسرائيل،فور جلوسه على الكرسي،لألغى العهد السّابق بضربة واحدة،وجمع الأمّة على صعيدٍ واحد!ولكنّه جبان!جبان يا صديقي! والجبان يؤكل!يلتهمه خصومه بأسرع من البرق!أنا أوافق على ما تقول،ولكن لا بدّ من توظيف الشّعار !الرّمزيّة السياسيّة،لأنّ القيم لا تتبدّل بين يومٍ وليلة،طبق الفول لا يتبدّل،ولكنْ تصبح له نكهة مختلفة،لو تناولته في الهواء الطّلق، مع أحبّ النّاس إليك!ولكنّ تحويله إلى طبق كباب يستغرق زمناً وجهداً!

-في صِغَري،جاءت عائلة إيطاليّة،وسكنوا إلى جانبنا،في الفيللا الوحيدة،المقامة في الحي الجديد،الحي الجديد يعني أبنية الإسمنت،بدل الطّين والحجر وسقوف القصب المجوّف!

المهم أنّ الإبنة الصّغرى"جوانا"، أصبحت الفتنة الجديدة لكل شباب الحي اليافعين،وتسابق الجميع لمبادلتها الكلام،عبر سور الفيلا القصير،أو التغزُّل بجمالها من بعيد!أنا شخصيّاً كنت أكثرهم خجلاً وجبناً،وكنت أعبر الطّريق المار أمام بيتهم دون أن أجرؤ على الإلتفات ناحيتها!وحدث ذات مرّة أن نادتني من فوق حافّة السّور،وبعفويّة تامّة:

-ممكن لو سمحت؟!

وتوقّفتُ غير مصدّقٍ أذني،لأتأكّد تماماً أنّ الحديث موجّهٌ إلي،قبل أن أتهوّر وأجيب ندائها،ولكنّها نظرت في عينيّ مباشرة،وأشارت بأصابع يدها داعيةً إيّاي إلى الإقتراب،لم يكن أمامي خيارٌإلا الطّاعة،فللخجل حدّان،الخجل من الإقدام والخجل من الرّفض أيضاً!

كانت تريد تبادل الحديث،ولا أدري ما الّذي دفع بي فجأة أن أدفع طرف قبّعتها للأعلى بأطراف أصابعي فضحِكتْ! وهكذا أصبحنا أصدقاء!

بيت القصيد،أنني أصبحت عدوّاً للجميع،وقاطعني كلّ شباب الحارّة،وامتنعوا عن التحدّث معي،وكانوا يشيحون بوجوههم،أو يمررّون العبارات القاسيّة ،من فوق أذني:الخاين،الغشّاش،الغدّار!وكأنّي سرقتُ إرث أبيهم!كانت لحظة إنارة،انكشفت لي في ضوئها الطبيعة البشريّة،بكلّ لا عقلانيتها،وكل ما يمكن أن توقظه هذه اللاعقلانيّة من ضغائن وأحقاد!لا صلة لها بالمنطق ولا السببيّة!

إنّها "السُّلطة" تلك الحوريّة الّتي لاتفقد غوايتها،ويتقاتل حولها الجميع،ويذبحون أعناق بعضهم!أمّا الوصفة السّحريّة،المُسمّاة"الديمقراطيّة"،فليست إلّا خدعة كبرى!حلٌّ ملفّق،وإلّا لما أنشب الغرب الديمقراطي أنيابه ومخالبه في أجسادنا!فامتصّ دماءنا وسَكِر ونام منتشياً!

-آه إنّه حديثٌ طويل يا إسماعيل دعنا نذهب لننام!

....Print
اختار مصطفى قاعة"المركز الثقافي العالمي"ليعرض فيلمه مشاهد مصريّة ،عرضاً أوّليّاً،لم ينس إبراهيم بحنكته وحسّه التّجاري،أن يوّجه دعوات شخصيّة،للملحقين الثقافيين،بشكل شخصي،وللسفارات والهيئات الديبلوماسيّة!

افتُتح "المشهد المصري" بجمهورٍ من الناس ،يملأون الشّاشة الكبيرة، تُميّز العين بينهم،مثقّفون يحملون المحابر والأقلام الكبيرة،وتتقدّمهم لافتة تحمل عنوان "الكتبة"،كما تميّز بينهم رجال دين يلبسون ثياب الكهنوت وتتقدّمهم لافتة تحمل عنوان"الكهنة"،أمّا الفرعون فقد جلس على عرشه بقبّعته المهلهلة متهدّلة على جانبي رأسه،وبِجرمِهِ القصير الصّغير الّذي تكاد تخفيه القُبّعة في وضعيّة الجلوس!

المشهد ينقسم إلى قسمين،بينهما فاصل على شكل خندقٍ محفور،السّاحة الّتي يجلس فيها الفرعون،وترتفع على مدخلها لافتة تحمل عنواناً"المؤمنون بفرعون"،وعلى الجانب الآخر للخندق ساحةُ تتبعثر فيها الجثث ويخيّم عليها صمتٌ مهيب،وترتفع على مدخلها لا فتة،تحمل عبارة"الكافرون بفرعون"!يقف الفرعون بقامته القصيرة فيسجد الجميع بين يديه ويتنقّل المشهد بين السّاحتين،ويشير بيده فتُعزف الموسيقى بأغنية علي الحجّار"ليكُو رب ولينا رب" كسلامٍ فرعوني،وتستمرّ الكاميرا في التنقّل بين السّاحتين،ثمّ تعرج على ميادين التحرير،والنّهضة ورابعة،وكوبري قصر النّيل،وأحياء القاهرة القديمة،التتي أبداها المشهدُ مهجورةً،خالية من الحياة!

الشيخ القطري لم يتمالك أعصابه،فلم يكد ينتهي المشهد،حتّى طار نحو إبراهيم،وأعلن بكّل ما استطاع أن يُحمِّلَ صوته من تقديرٍ وتبجيل:أبدعت يا أستاذ!أحسنت!ويشير إليّ إبراهيم بسبّابته:

-هذا هو الكاتب! أنا فقط المخرج!

-كلاكما يستحقُّ التقدير!

على أيّ حال! قطر مفتوحة أبوابها لكم!أنا سأرتب الأمر وسنعرض فيلمك"مشاهد مصريّة" هناك! هذه بطاقتي! يناول إبراهيم بطاقته!ويناوله إبرايم بطاقته بدوره وينتهي المشهد بمصافحة حارّة مشفوعة بالابتسامات الودودة!








ما إن خلونا إلى أنفسنا،حتّى أعلن إبراهيم وهو لا يكاد يخفي سروره:

-هذا تدبيرٌ ربّاني!هذه توافيق الله سبحانه وتعالى!أنت تعرف سياسة حكومتنا! والفيلم سيُمنع عرضه إن عاجلاً أو آجلاً!لقد فتح الله لنا باباً بلطفه!

...

عادت ناديا أو "سالومي"،كما أطلقتُ عليها،تتبخترُ في أنحاء النادي،بعد أن أسقط المحامي حقّه الشخصي وأفرج عنها بكفالة،لحين صدور الحكم النّهائي ،وصرنا أنا ومصطفى نتصيّد حضورها وننصب لها الشراك،حدّدنا مواعيد حضورها،وخطوط سيرها،وكنت قد أوضحت لمصطفى،شكوكي حول شخصية محمد،شريك ناديا في الجريمة المفترضة،وقدّم إليّ مصطفى اقتراحاً بارعاً:

-أعتقد أنّها تمرُّ بضائقة ماليّة!لقد فُصِلت من عملها على خلفيّة التُّهمة،وحتّى إدارة النادي،تدرس قرار فصلها!ذرِّ قشّك والشّمسُ ساطعة!

واصلنا محاولاتنا،حتّى جلست أخيراً إلى طاولة قريبة،ولم يُضيّع مصطفى وقتاً،دعاها للإنضمام إلينا:

-تفضّلي أُعرّفك على صديقنا إسماعيل!إنّه شخصٌ مهم!

لم تتردّد ناديا كثيراً،نهضَتْ وتقدّمت نحو طاولتنا بخُطى محسوبة،جلست دون أن تمُدّ يداً للمصافحة،استلّت سيجارة من عُلبتها الذهبيّة،وأشعلتها بتمهّل،نفثت الدّخان مُشيحةً بفمها قليلاً ،حتّى لا تنفخه في وجوهنا!وبادر مصطفى بتقديمي:-صديقي إسماعيل،سيناريست محترف!

رُبّما فوجِئتْ ناديا قليلا،ولم تحاول إخفاء ما دار بخَلَدها،قذفت بالفكر في وجوهنا،مُغلّفةً بحسّ الدُّعابة:

-وهكذا فقد بعتَ قصتي له!

قاطعتُ قائلاً:

-هناك أسباب كثيرة دعتني أن أطلب من مصطفى،تعريفي إليك،في الحقيقة نحن نحبّ استقاء الحقائق من منابعها،أنا وصديقي المخرج إبراهيم البسيط!وعند هذه النقطة،رأيت أن ألقي بالطّعم:

-في الحقيقة،نحن ندفع مقابل ذلك،حتّى يكون وضعنا قانونيّاً،لا نحبّ استثمار قصص النّاس من وراء ظهورهم!هكذا بدون مقابل،هذه إنتهازيّة لا نقبلها!على أيّة حال هذه بطاقتي،يمكن أن نستكمل حديثنا في المكتب إذا كنتِ مهتمّة؟أمّا الآن فسنكمل قهوتنا،وتكملين سيجارتك!

تأمّلتني ناديا بعمق،وأفصحت عمّا يحيك في سريرتها بعفويّة،لا تنتظر إذناً من أحد:

-تبدو لي رجلاً محترماً!

......

على امتداد الشريط المستلقي في أحضان غور الاردن،أخذْتُ هدباء في رحلة سياحيّة ،بدءاً من الشّونة الشماليّة،حيث توقّفنا عند ضريح الصّحابي الجليل معاذ بن جبل ذي الخمسة قباب المهيبة ،بطابعها العثماني،الدّال على الفخامة،وأوضحْتُ لهدباء،أنّ هذا الشريط يفصلنا عن فلسطين المحتلّة،وأنّ هضبة الجولان على مرمى حجرٍ من هنا،استمتعَت هدباء بالدّفء والخُضرة،خاصّة وأنّ الشتاء قد حطّ برحاله في عمّان العاصمة،من حيثُ جئنا!انحدرنا بعدها جنوباً إلى بلدة وقّاص،وتوقّفنا أيضاً عند ضريح الصّحابي:عامر بن أبي وقّاص،افترشنا الأرض،وتناولنا وجبة خفيفة وبعض المرطّبات،تابعنا مسيرتنا للجنوب إلى بلدة المشارع،حيث يرقد شرحبيل بن حسنة،قرأنا الفاتحة وصلّينا ركعتين،واصلنا خطّ سيرنا جنوباً إلى دير علا ،وتوقّفنا عند مقام أمين الأمّة،أبي عبيدة عامر بن الجرّح،البياض يصبغ المكان،ويلقي في الرّوع شعوراً بالقداسة،ولكنّ هدباء عبّرت عمّا يحيكُ في نفسها:

-أليس حراماً أن نصلّي عند القبور؟!

-هدباء! هذه ليست قبوراً!هؤلاء هم الّذين ما زالوا أحياءً بيننا!لولا هذه الشواهد الّتي تحمل أسماءهم،لأصبحنا أُمّةً ميتةً منذ زمنٍ بعيد!

-صدج والله!

هكذا تُسلّم هدباء لي بسرعة،بعد جَدَلٍ قصير!

وإلى الجنوب تابعتُ بلا توقّف حتّى الشونة الجنوبيّة،وجلسنا تحت أشجار على جانب الطريق،كان الزوّار وباعة الخضاروالفاكهة،يملأون المساحات الخضراء وجوانب الطّرقات،وشَعَرَتْ هدباء بالحَرَج،كانت تريد خصوصيّة أكبر،كما هي عادتها دائماَ،وطمأنْتُها إلى أنّها ستحظى بما تريد،في مدينة العقبة،الواقعة في أقصى نهاية الخط،حيث سنستعيد ذكرياتنا الجميلة ونستأنف شهر عسلنا!

أطرقت بخجل واحمرّت وجنتاها ولم تعلّق بشيء،اكتفت بقرص ذراعي،قرصة ذات مغزى،وواصلنا سيرنا نحو بلدة سويمة،وأبدت هدباء دهشتها من تحوّل وجه الطبيعة،وقلت معلّقاً على استغرابها،من هذا التبدُّل المفاجيء: من هنا تبدأ مدن الملح!

-عبد الرحمن منيف؟!

-هل قرأتِه؟!

-بالطّبع!

-أنت مُثقّفة فعلاً،تستحقين قبلة!

-ركّز على سواقتك! يكفيني الرّعب اللي انا فيه!

كانت الطريق الملتوية الضيّقة،الّتي انحدرنا إليها فجأة،والوادي الفاغرفاه على يمين الطريق،قد أفزع هدباء،وعلّقت:

-الحمد لله أنّنا تركنا"حمّودة" عند والدتك!وإلا كان وقع قلبه من الخوف!بركة أنّه أحبّها!العمّة حنونة حق!

ما إن انبسط الطريق الصحرواي،ووقعت عيناها على جانبيه المستويين المكشوفين،حتّى شعرت بالطُّمأنينة فاسترْخَتْ،وعكست ابتسامتُها النّاصعة،طمأنينة قلبها الصّغير!

وتابعنا طريقنا عبر وادي عربة،ولم أتوقّف إلّا عند مدخل مدينة العقبة،عند الحاجز الأمني!

-ولماذا التفتيش؟!سألتْ هدباء باستغراب!

-إحتياطات أمنيّة!أجبتها باقتضاب!

وما إن تجاوزنا الحاجز،حتّى ألقيت عليها السؤال الّذي لا بُدّ منه:

-أين تريديننا أن نقيم؟ في نفس الفندق!أم نستأجر شقّة مفروشة؟!

-الأمرُ أمرُك!

-الخيار لكِ!

-إذا كانت الشُّقق نظيفة،لا بأس!ونستطيع الذّهاب إلى الشاطيء،في أي وقت!

-زين ما اخترتِ!أنا مثلُكِ أُحبّ الخصوصيّة!

كتبتُ في مفكّرتي على هذه الأرض فقط، تحاصرك الجهات الأربع،خطّ الشّمال،الجنوب ،يرسم الحدّ بين الشّرق والغرب!إنّها البوصلة:فلسطين،رسمت وسترسم خطى العابرين!

.....

حضرت ناديا إلى المكتب حسب الموعد،كالعادة أشعلت سيجارتها،بالعرض البطيء،ثُمّ سحبت دفتر مذكّرات من جيب حقيبتها وناولتني إياه:

-إقرأ! قالت.

فتحْتُ الدّفتر على الصفحة الأولى:

"عمّتي القرعاء نُهيلة،كانت تزورنا على فتراتٍ متباعدة تتجاوز الشّهور،وأحياناً تصلُ إلى سنة كاملة،كانت تحضر ومعها بعض الأوراق تسلّمها لوالدي ليستكملها لها من الدوائر الرسميّة،ولم تكن تمكث أكثر من ليلة واحدة،إلّا إذا اقتضى استكمال الأوراق ذلك!وكان رحيلها السّريع مبعث سرورٍ لوالدتي الّتي لم تكن تطيقها أبداً!لم يحدث أن حضرت وبيدها هديّة،ولكنّها كانت تنفحنا بعض النقود،لنشتري بها شيئاً من الدُّكان!

لم يكن صَلَعها بسبب مرض،ولكنّها كانت تحاول التخفّف من كل شيء ما أمكن،حتّى الشَّعر،وكانت تضع دائماً غطاءً للرأس وما إن تحُطّ في غرفتها الّتي خصّصناها لها،حتّى تتخفّف من ثيابها كلّها،وتبقى بالقميص الداخلي الخفيف،كانت نحيفة عجفاء،ذراعاها مجعّدتان،وما إن تتخفّف من ثيابها حتّى تشرع بمسح جسدها بالكحول بقطعة مبسّطة من القطن تتناولها من حقيبتها،لعلّها عادة اكتسبتها من عملها كممرّضة،لقد عملت كممرّضة مع منظّمة فرنسيّة،مما وفّر لها راتباً تقاعديّاً عالياً،ومع ذلك فهي لم تضيّع وقتها،كانت تدّخر وتشتري العقارات وتؤجّرها،واشترت الفيللا الّتي تقيم فيها حاليّاً ببستانها الفسيح الذي كنّا نستمتع بمباهجه كلّما زرناها،أكثر من مشاعر الحنان الّتي لم تكن متوفّرة لدى عمّتي ولا حتّى بالحدّ الأدنى...

رفعتُ بصري إلى ناديا في استغراب:

-ما هذا بالله عليكِ؟!

كافئت استغرابي بابتسامة ماكرة،أدارت سبّبابتها في الهواء موجّهة:

-ليس هذا ما أردتك ان تقرأه!إبدأ من الآخر،ومن أول الفصل!

قلبتُ الصّفحات جملة واحدة،وصولاً إلى الفصل الأخير،عُدتُ صفحةً واحدة إلى الوراء،وبدأْتُ من رأس الصفحة،وهزّت ناديا رأسها في رضاً وموافقة:

"اليوم وَعدَتْني السفيرة الأمريكيّة بأنّي سأعيّن قريباً مستشاراً لهيئة دوليّة،وأكّدَتْ على ضرورة حضوري الحفل الّذي ستيقيمه في بيتها بالسّفارة ،بمناسبة عيد الشكر،كما أكّدت عليّ أن لا أحضر لوحدي،وأن أحضر برفقة امرأة،صديقتي مثلاً، فهي تعلم أنّني أعزب....اتّجه تفكيري إلى ناديا،لا اعتقد انّها سترفض،وإذا حدث ورفضت فسأعرض عليها الزواج،سنذهب إلى هناك كزوجين،وناديا تستر الوجه،فهي مثقّفة وتجيد الإنجليزيّة.."

نزعت نظّارتي،ألقيتها جانباً وفَرّدْتُ كفّي في تعجُّب:

-إذا كانت لدى الرجل كل هذه النوايا الطيّبة،وكل هذا المستقبل الموعود،لماذا تتآمرين على قتله مع رجلٍ آخر؟!

شردت ناديا بعيداً،بدا وأنّها تجمع خيوط الحكاية،من حيثُ شتّتتها الأحداث وعصفت بها،ونطقت أخيراً وكأنّها تقص حكاية خرافيّة،أو أسطورة من أساطير أمّنا الغولة:

-بعد أن سرقْتُ دفتر مذكّرات أبو دوسة،بدافع الفضول فقط،أو حتّى بدافع الدّعابة،أنا بريئة إلى هذا الحد،هل تصدّق؟1

-واضح !واضح!تابعي أرجوكِ!

-في تلك الليلة اتّصلْتُ بمحمّد،كنت قد تعرّفت إليه في النادي،ولم آخذه بجديّة،بدا لي كرجلٍ شهم يتطوّع للمهام الصّعبة،وإغاثة الملهوف،ورفقته أيضاً مؤنسة!

-وهل هذا يكفي لتصطحبيه إلى شقّة رجل آخر تربطك به علاقة خاصّة؟!

-لم تصل الأمور بيني وبين سليم،أبو دوسة طبعاً،إلى الحد الّذي كان الجميع يتخيّلونه ،أبقيته على مسافة،وهو لم يكن لحوحاً،وحين يُعرف السّبب يبطل العجب!أمّا بالنّسبة لمحمّد فلم يكن من المفترض أن يراه،أردته أن ينتظرني ريثما أسلّمه الدفتر وأنصرف عائدة!صمتٌ لهنيهة،ثُم تستأنف:

-كنت خائفة من شيءٍما،لم أكن مطمئنّة إلى ذهابي وحيدة،في الليل خاصّة!هكذا هي المرأة،تتصرّف بغريزتها!

-ثم ماذا حدث بعد ذلك؟!

ما حدث تشيب له الولدان!تذكّرت أنّ سليم قد أعطاني مفتاح شقّته،قال إنّ بإمكاني أن أستخدمها عندما لا يكون موجوداً!ففكّرت ُأن أتّصل به لأتأكّد أنّه لم يكن موجوداً، وأكّد لي ذلك بالفعل،فذهبت بصحبة محمّد،وأنا مطمئنّة إلى أنّه لن يكون هناك أيّة مفاجآت!وحين وصلنا،أشرت إلى محمّد أن يتنحّى جانباً،وأدرت المفتاح في القفل،ودخلت،وهنا كانت المفاجأة الصّاعقة،كان سليم في الفراش مع صبي ، ربّما لم يتعدّ الخامسة عشرة،كانا عاريين تماماً وآخذين بأحضان بعضهما،دفنت وجهي في كفّي واندفعت خارجة،واندفع ورائي سليم ملتفّاً بملاءة السرير،وهنا اندفع محمد غريزيّاً ليوقفه،وقد ظنّ أنّه ينوي مهاجمتي،فتراجع سليم وسحب مسدّساً من مكانٍ ما،فقفز عليه محمّد وتعاركا للحظات،فانطلقت رصاصة اخترقت فخذ سليم...قمنا بإسعافه طبعاً أنا ومحمّد،وحين أخذت الشرطة أقواله،أنكر أن يكون المسدّس يخصّه،وزعم أنّنا اقتحمنا شقّته وهاجمناه بالسلاح!والبقيّة تعرفها!

-وكيف اختفى محمّد؟!

-محمّد تركنا على باب المستشفى واختفى!اتّصل بي بعد دقائق ليقول أنّ الأخلاق والقيم انهارت،وأنّه في طريقه للإنضمام إلى أشرف وأنبل الناس!وأكدّ أنّه لن يتخلّى عنّي،ولكنّه لا يثق لا بالشرطة ولا بالقضاء ولا بالعدالة!

-ولماذا أخذت الشّرطة بأقوال أبو دوسة،ولم تأخذ بشيء من أقوالكم؟!

-لأنّنا نحن الّذين سعينا بأقدامنا إلى محلّته،إلى ملكيّته الخاصة،وهذا كافٍ لإدانتنا حسب القانون،أمّا السلاح فهو غير مرخّص ولا يمكن تتبعه!بالإضافة إلى أنّه هو المصاب!

-ولماذا أسقط عنك حقّه الشّخصي!

-لأنّي لم أذكر حكاية الصبي!سترت عليه!

-فكافئكِ بنوبة شهامة؟!

-بغضّ النظر!ولكن هكذا جرت الأحداث!هل اكتفيت من الأسئلة؟!

-شيءٌ واحد!هل ذكر لك محمد شيئاً عن لقبه"الشيخ" أو شيء من هذا القبيل؟!

تَسْهمُ ناديا قليلاً،قبل أن تستجمع أفكارها من جديد:- ومن قال لك؟!آى ى!مَنْ غيرُ مصطفى؟!ذلك المتلوّن له أذنان مرهفتان!أظنّ أنّ محمّداً قال ذلك مرّةعلى سبيل الدُّعابة!قال أن من يحمل لقب الشيخ محمّد أو محمّد الشيخ لا يليق أن يُرى بصحبة فتاة!

وضربْتُ الطاولة بيدي:-إنّه هو إذن!لم يعد هناك مجالٌ للشك!إنّها لحظة التنوير!

قلبت ناديا شفتيها في تعجّب،قالت وهي تلملم أشيائها استعداداً للإنصراف:

-بالمناسبة لا أريد منكم شيئاً!إذا أردت القصّة فخذها!أمّا أنا فيكفيني أنّني أفضيت لمن يسمعني!وحكيت لمن يصدّقني!

رفعْت ُيديّ في احتجاج:

-إجلسي! إجلسي!لم يحن الوقت بعد!أمامنا غداء عمل،سيحضر إبراهيم بعد قليل،سنوقّع معك اتّفاقاً ونتّفق على المبلغ!

جلست ناديا مستسلمة!استلّت سيجارة أخرى!أشعلتها وبدأت تنفث وقد بدا عليها الإرتياح،أو هذا ما وَشَتْ به ملامحها المسترخية!وفكّرت أنّه بالنسبة لها فقد كانت جلسة استشفاءٍ نفسي أكثر منها جلسة عمل!

قطعت ناديا صمتها لتقول:

-إربط الأشياء ببعضها،حضور السفيرة الأمريكيّة لمؤتمر الشواذ الّذين تسمّيهم مثليين،ومطالبتها بحقوقهم،المجاهرة بمطالبهم وإعلانهم شعارهم"قوس قزح"،وإشهار مكان تجمّعهم:شارع الرينبو!لا بدّ أنّ سليم أبو دوسة والصّبي عضوان،في هذا التجمُّع،إنّهم يفضّلون هذه النوعيّة من الناس!أتدري لماذا؟!وتجيب ناديا:-لأنّها سقطت لديهم الموانع!فبسقوط الحاجز الأخلاقي،تسقط الحواجز كلّها!رجلٌ كهذا في موقع،لن يقول لا أبداً!رُبّما يُعدّونه لاستلامِ منصبٍ كبير في المستقبل !هذا بالضّبط ما يريدون الوصول إليه!أظنّ محمّداً كان على حق!وأرجو أن يعثر على جماعته الأطهار!وإن كنت أشُكّ في ذلك حقّاً!

تعود ناديا للاعتصام بصمتها،وتتركني غارقاً في أفكاري!

.....

جاءت نادينْ على غير موعد،أو هكذا ظننْتُ،قبل أن تُصرّح لي،أنّ إبراهيم حدّد لها موعداً،ويريد أن يسند لها دوراً في فيلمه الجديد!

نادين ممثّلة شابة مرِحة،عملت معنا في السّابق في أكثر من دور،وبانتظار حضور إبراهيم،كانت نادين تلاعبني على حبالها كالعادة:

-سمعتُ أنّك تزوّجت!صحيح؟

-صحيح!من أين تتبّعين أخباري!

-الأخبار تنتقل!مجتمعنا مُغرمٌ بالنّميمة!

-ولكنّي بالكاد أخالط أحداً في هذه البلدة،وليس لي دائرة أصدقاء مقرّبين،باستثناء إبراهيم وعائلته!

-آه ه ه ه!من مأمنه يؤتى الحذر!

-إذن إبراهيم هو الذّي حكى لكِ!

-لا! ليس إبراهيم؟!

-من إذن!بالله عليكِ؟!

-ابنته مريم بالطبع!نحن صديقتان! ألا تعرف؟!وتظنّ أنّك نجوت من براثني بهذه الفعلة؟!

-أنت أرَقُّ من ان يكون لك براثن!

تمّد اظافرها الطويلة الحادة لتريني براثنها!وتُردف ضاحكة:

-سأُطاردك إلى آخر العالم!يوماً ما ستكون لي!حقّاً إسماعيل لماذا لم تحبّني كما أحببتُك؟!

-لأنّي لا أصدّق أنّك أحببتني في يومٍ من الأيّام!أو حتّى لحظة من اللحظات!

-يعني أنا كذّابة!

-حلوة وكذّابة!

يدخل إبراهيم مقاطعاً حديثنا،وتنهض نادين لمصافحته،تجلس وعلى شفتيها يتراقص شبح ابتسامة،تستردُّ جدّيتها فجأة،تستلُّ سيجارة وتشعلها،لا أدري ما سرُّ فتنة النّساء بالتدخين،عدّة التحرُّر،استكمال الدّور،أو مجرّد تعلّق بأوهام التسرية والتنفيس عن النّفس؟!لا تنتظر نادين حتّى يبدأ إبراهيم الحديث تبادره، بالسؤال:

-وهكذا !ما هو الدور الّذي اخترتني له أخيراً؟!

ويجيب إبراهيم مباشرة:

-هالة شعيشع!

-مين؟!

-ألا تقرأين سياسة يا بنتي؟من الضروري للمُمثّل أن يتابع الأحداث!هالة شعيشع،بنت القيادي الإخواني الكبير،الّتي أطلقت الشُّرطة عليها النار في المنصورة!

-بس هيك!طُخ!بَموتْ!تُشهر يدها على شكل مًسدّس!

-بعدين معك يا نادين!بعدك ما فهمت الضرورة الدرامية؟نحن لا نطلق النار على أشباح!على ناس من لحم ودم!لهم علاقاتهم ومحبّيهم!يترك غيابهم فراغاً وحسرةً في قلوب أحبابهم!هكذا نؤثّر في المُشاهد!

-فهمت يا سيّدي فهمتّ!أرجو ان لا توبّخني أكثر!

يجيب إبراهيم في أبوّة:

-المشكلة إنّي بحبّك يا نادين!ثمّ يهمهِمُ لنفسه بصوتٍ مسموع:

-من يجرؤ على كلّ ذلك؟من يملك أن يجعل قلبه محطّاً لكلّ هذه القسوة؟الوجه الشمعي البريء!وجه الطّفلة الحسناء!لماذا تشوّهت المشاعر الإنسانيّة لهذه الدرجة القبيحة؟!

تجيب نادين بعفويّة وكأنّ الحديث موجّهٌ إليها:

-اليهود يفعلون ذلك كل يوم!

-هذه هي المشكلة يا بنتي!كنّا نظنّ أنهم اليهود فقط!من تتسع قلوبهم لمثل هذا اللؤم!حتّى أثبتنا نحن لأنفسنا بأنفسنا العكس!

-في الحقيقة كنت سأسالك سيّد إبراهيم:

-لماذا لا ننتج شيئاً عن فلسطين؟!

-آه كم سؤالكِ وجيه!لأن فلسطين أكبر من أن نٌنتج عنها عملاً فنيّاً!أن نختصرها في عمل؟هذه خطيئة!فلسطين أكبر من ذلك!بالإضافة إلى أنّها حاضرة دائماً!تحاصرنا بطريقة لا تمكّننا أن نراها من بعيد! لا تجعل بيننا وبينها مسافة!ومع ذلك سأحاول!سأَكِلُ هذه المَهمّة لإسماعيل!إذا استطاع أن يكتب أستطيع أنا أن أُخرِج!


by nana817 on



عندما أجدني في المكتب وحدي،ألتقط بشغف مذكرّات صديقي إبراهيم،لا أعدّ ذلك نوعاً من التجسس أو قلّة الذّوق،وأعذر نفسي أنّه محاولة للتعرُّف أكثر إلى صديقي الحميم:

"عندما عدت إلى الأردن قادماً من بيروت سنة 1985،كان عليّ أن أتصالح مع عدّة جبهات:أوّلُها جبهة الجهات الأمنيّة أو تحديداً جهاز المخابرات،وكانت هذه مهمّة سهلة،كمقاتلٍ فلسطيني ألقى السّلاح،وعاد أعزلاً ما الّذي يريدونه منه بعد؟!أمّا المهمّة الصعبة حقّاً،فكانت التصالح مع جبهة الذات!فحين تتوقّف فجأة في منتصف الطريق،تفقد وجهتك،وتضيعُ بوصلتُك...

كنت أقضي معظم وقتي إمّا في البيت،ساعاتٍ أتأمّل فيها الماضي،أو ضارباً في الشوارع،على غير هدى،لساعاتٍ قد تطولُ أو تقصر،في محاولةٍ عبثيّة،لتبيُّن وجهتي الجديدة!

كنت أتسكّع في شوارع"صويلح" قريباً من منطقة سكني،حين لفت نظري تجمّع لشبابٍ ملتحين،يرتدي بعضٌ منهم الزّي الباكستاني: القميص والسّروال،ويضعّ على رأسه طاقيّة،أتذكرّ أن جدّي كان يضعُ مثلها على رأسه،تحت الشّماغ أو الكوفيّة.

كانوا متزاحمين أمام مكتب،فوق واجهته لافتة كتب عليها"مكتب الخدمات"...ولت في نفسي:هل يُعقل أن يكون كُلّ هؤلاء الشّباب عاطلين عن العمل؟!تقدّمت وسألتل أحدهم مستفسراً عمّا يجري!أجابني الشّاب وقد علت وجهه الدّهشة:

-هؤلاء متطوّعون،متطوّعون للجهاد!

-للجهاد أين؟في فلسطين؟

ارتسمت على جبينه تقطيبة مفاجِئة،وأجابني بحدّة ممزوجة بالاستنكار:

-لا يا أخي! في أفغانستان!

-أفغانستان؟!

-نعم!نحن ذاهبون لمحاربة الشيّوعيين،وتخليص بلاد الإسلام من شرورهم!

كان لعباراته وقعٌ غريبٌ علي،ما الّذي يحدث في أفغانستان،استعرضت في ذهني شريط الأحداث،محاولاً جمعها وسلسلتها،الإنقلاب على الملك،استيلاء كراميل على الحكم إن لم أكن مخطئاً،ثُمّ نور الدّين تراقي ،وهنا انقطع في ذهني خيط الأحداث،ولم يستطع ذهني المضيّ أبعد في استعادتها،من خلف حجب الغيب،كنت منشغلاً طيلة الوقت بقضيّتي،بفلسطين،وإسرائيل،العدوّ الّذي أواجهه في الميدان،وعلى الجبهة مباشرةً!ثُمّ إن الشيّوعيين،أو الإتحاد السوفياتي ليسوا أعدا لنا،كانوا حلفاء يصطفّون إلى جانبنا،قدر ما تسعفهم السّياسة الدوليّة،بصفتنا حركة تحرُّر وطني!

وتساءلت في نفسي:هل غيّرت البوصلة وجهتها؟هل تغيّر العالم وخارطته السياسيّة،دون أن أعي ذلك،وفي غمرة انشغالي بالقضيّة الأم ،أو غرقي فيها للدرجة الّتي أذهلتني عمّا يحدث حولي فعلاً؟!وها أنذا أصحو على مشهدِ غريب،يصيبني فجأة بالإحباط والدّهشة!

أدركتُ فجأة وكأنّما كشف عن بصيرتي،أنّنا على أبواب عالمٍ جديد،لا صلة له بالتّجربة الّتي عايشناها!

شبابٌ استيقظ في أنفسهم الدّافع الديني،أو لنقل انفجرفجأة،وأوجدت المخابرات الدوليّةنالّتي تقفُ دائماً بالمرصاد،له متنفّساً!

لم يتوقّف الشّباب كثيراً للتفكير،في خطأ أو صواب ما يفعلونه،وتولّتد أنظمة عربيّة،مهمّة الترويح على النّار،وعلت نوبة الحماس،وتجاوبت أصداؤها في أنحاء المشرق والمغرب!

تبلورت الأصولية الدينيّة، ومن رحمها ولد عدوٌّ جديد،إيران الشيعيّة ،الّتي كنت أفترض أنّها ستكون الحليف الأوّل،ولكنّ الحرب العراقيّة الإيرانية،كان لها دورٌ في ترسيب هذا العداء،حتّى في ظلّ حكم العراق من حزب البعث اللاديني ،وهكذا تضافرت عوامل عديدة امتزج فيها القومي بالديني ،في أغوار الوعي العميق،أو تحت سطح الوعي،الأمر الّذي رسّخه الغزو الامريكي للعراق فيما بعد"عام1990،والّذي لم يكن أحد ليتنبّأ به في ذلك الحين،ولكنّي حين أنظر من فوق كتفي،وانا أكتب هذه المذكّرات،أستطيع ان أقرأ الأمور بوضوح!

للتاريخ مفارقاته أيضاً،فلم يكن نظام صدّام حسين القومي،ملقياً بكلّ ثقله إلى جانبنا،كمقاتلين فلسطينيين،كان يريد فقط إيجاد امتداد له داخل صفوف الثورة الفلسطينية،اكتشفنا ذلك بعد انتهاء الدورة التدريبيّة العسكريّة الّتي عاملونا أثناءها بمنتهى السّخاء والدّلال،وصرفوا لنا مبالغ ماليّة بالدولار وليس بالدينار العراقي حتّى ننفق منها في لبنان فيما بعد،حيث وجهتنا النّهائيّة!

بعد انتهاء الدورة وفي حفل التخريج،حضر مسؤول بعثي بكل أبّهته،كانوا بعكسنا مفتونين بالمظاهر،وقلنا في أنفسنا أنّ هذه دولة،وليست افراداً مثلنا ومن حقّها الإستعراض والتباهي،ومن باب إيقاع الهيبة في النّفوس،ولكنّا غيّرنا رأينا حين دعونا بلا مواربة للانضمام إلى حزب البعث،لم يكن احدٌ منّا راغباً في ذلك،وحين رأوا أّنا أشحنا بوجوهنا عن عرضهم،استردّوا مبالغهم الماليّة المصروفة بفظاظة،وقذفوا بنا إلى الحدود السوريّة،دون أيّة حفاوة ولا حتّى تحيّة وداع أو تمنّي بالتوفيق،حيث أنّنا ذاهبون لقتال عدوّ مشترك!

غريبٌ إذن أن يصطفّ المتديّنون إلى جانبهم،بينما ينقطع بيننا وبينهم حبل الثوريّة الجامع!!

هكذا تطوّرت الأمور إذن وأعادت الجماهير اصطفافها،على يدالجيل الجديد،وهذا طريقٌ لا بُدّ ان يبلغ نهايته،وعجلة التاريخ لا تزال دائرة،أُفرِغت خنادق وملئت أخرى،وارتسمت خارطة عسكريّة وسياسيّة بتحالفات واصطفافات جديدة!

ومن وجهةنظري الشخصيّة وخلافاً لما يظنّه معظم النّاس،فإنّ الّنزعة الدينية كانت أحد مظاهر أزمة الهويّة،الّتي تعمّقت بفعل قضيّتنا أولاً :القضيّة الفلسطينيّة،ثم فشل الدول القطرية في خلق هويّة وطنيّة،ومن بابٍ أولى كرامة وطنيّة،ثمّ التدحرج من قبل هذه الدول ومن ضمنها قيادتنا الفلسطينية،إلى أحضان العدو الإسرائيلي،الأمر الّذي أيقظ شعوراً جامحاً بالامتهان،وإلّا فلماذا يكون الشيخ عبد الله عزام الفلسطيني،هو صاحب المبادرة الأولى،فلم يكن هروعه إلى أفغانستان إلا التفافة طويلة للوصول إلى فلسطين،وحيث كان له إسهام في تأسيس حركة حماس،الّتي امتزج فيها الديني بالوطني!وكانت نتيجة طبيعيّة أن تتحوّل الدولة الإيرانيّة إلى خصم! ببساطة لأنّها قدّمت نسخة من الدين تتناقض مع الهويّة العربيّة السُّنية،لا بل تنسفها من جذورها!فكيف للإناء أن يحتوي البحر!وهي بذاتها تضَخّمَ لديها الشعور بالذات والهويّة القوميّة،فوضعت للقومي إطاراً دينيّاً،ولكنّ الشمس لا تغطّى بغربال!كانت حركة مكشوفة لا تنطلي على الوعي الجماهيري!الذي وجد في إعدام صدّام حسين صبيحة عيد الأضحى إهانة للشعور القومي ،العربي والديني،لم يغفرهما لإيران أبداً!كانت تلك خطيئة على شكل حماقة،ارتكبتها إيران،من قبيل الثأر،ونسيت أنّ الثأر ركيزة من ركائز الشّخصيّة العربيّة،المركّبة على أكثر ركائز التاريخ والدين حياة وحيويّة!
















التبدلات العميقة،التي رسمت وجهاً جديداً لساحتنا الفلسطينية،وكست ذلك الوجه،ملامح وتضاريس جديدين كُلّ الجدّة ،صعود الصوت الإسلامي وبالذات حركة حماس،واستحواذها على صناديق الإقتراع،من خلال الأصوات المتعاطفة،ومن ثمّ المواجهة الدامية التي أعقبتها مع القيمين على الموروث الثوري،أو حركة فتح بالذات،هذه المواجهة وضعتني أمام نفسي ،ووجدتُني أدخل في ملاحاةٍ مع سؤالٍ يلُحُّ علي ويحيكُ في نفسي،هل كان الدّين غائباً إلى هذا الحد حيثُ كنّا؟!وهل أنا متديّن أم غير متديّن؟وعلى أيّ عمقٍ يقبع الدّين في نفسي؟

أذكر أنّي اقترحتُ على الختيار"ياسر عرفات"أنْ يُطلق اسم"خالد بن الوليد" على أحد قواعد التدريب التي افتتحناها حديثاً،فرفض بشدّة،كان يهرب من كل مايؤشّر باتجاه الدين وكان يتجنّب استخدام كلمة الجهاد،حفاظاً على علاقاتٍ دوليّة،تضمن له استمرارية،كان يخشى أن يفقدها،لو استبدل خطّه الثوري العلماني بخطٍّ ديني جهادي!

الآن وبعد كل تلك السنوات،أدرك أن القشور الّتي التحفنا بها قد تساقطت كلها،وعلى رأسها قشور اليسار!

كما أدرك أيضاً انّ العلامات الّتي نصبناها على الطريق،قد امّحت واندثرت،وها هو الجيل الصاعد ينصب علاماته وراياته،انا أدرك أنّ هذا تحوّلٌ عميق،وليس مجرّد تململٍ على السّطح!

أكثر هذه الشّواخص الجديدة حضوراً،هو الدّين ببعده العالمي،خارج الإطار الوطني،الّذي شيّدت سوره الحركات والمفاهيم الثورية،التي أدمنّاها لدرجة التسليم المُطلق،لقد أخرجوا القضيّة من الدائرة الضيّقة،الّتي حبسنا أنفسنا فيها،طيلة تلك السّنين، وأضفوا عليها القداسة، التي ترنّ في قلب كل مسلم،أيّاً كانت جنسيّته،لسانه أو لونه ،مع ذلك فلم يكن هذا الطرح غريباً علينا كُل الغرابة،فقد كان عندنا متطّوعون من كافّة الدول العربيّة والإسلاميّة،وللحقيقة،كان كلّهم مسلمون،أحدهم كان مسلماً باكستانيّاً،وكان محبّباً إلي،الآن أستحضر تلك التجربة بكل ما تتيحه الذّاكرة من وضوح،وأستنقذ من بين شواهدها حكاية،لم أُعِرْها في حينهِ اهتماماً اكثر من كونها تزجية وقت في ليلة حراسة!وغريبٌ أنّ تفاصيلها لازالت ماثلةً في ذهني بوضوح،حتّى أنّني أكاد أستعيد كلماته كلمة كلمة!ترى لماذا رسخت في أعماقي كلّ ذلك الرّسوخ،حكى لي "الرّفيق"الباكستاني، عن أبيه،عن جدّه، قال:

لم يكن قصر الخان بعيداً عن بيوت البلدة،بل بدا أن بيوت البلدة تلوذ به وتتزاحم من حوله،كان جاثماً هناك تحت الشّمس،في أمانٍ تترامى أطرافه من حوله،لتسعى على راحته حياةٌ كاملة،تتناغم إيقاعاتها وتأتلف،لتؤلّف بجماعها مملكة الخان!

آخر كلّ نهار،كان الخان يرسل منادياً ينادي:

من لم يكسب قوت يومه ...فليأتِ إلى قصر الخان!لم يكن يحضر كثير من الناس،ولكن كان كل من حضر يرجع بقوته وقوت عياله!

حتّى أن حرس القصر،ذوي العمائم الحمراء المُريّشة،لم يجدوا في حضور عوام الناس،خطراً يدرؤونه ،أو شيئاً يحذرون منه!

كانت النّساء يذهبن للحصاد في الليل،ويعدن قبيل الفجر وقد علت أصوات أحاديثهن،بغير رفقة من الرّجال،فلم يكن هناك ما يخشينه،إلا ظلال العتمة ربّما،اللاتي يؤنسنها بالتندّر والحديث!

لقد تبدّل كُلّ شيء،بعد مجيء الإنجليزوبعد إخراجهم للخان من قصره،وقصف حاميته بالمدفعيّة!

كان أوّل ما افتُقد،هو الأمان!تبدّل وجه الحياة وتناسلت في الطرقات سلالات جديدة،من المجرمين وقطّاع الطرق،وكأّنهم شياطين استحضرها الإنجليز،ولم تعد النساء تجرؤ على الخروج وحيدات،لا في ليلٍ ولا في نهار!

افتقدت الحياة أنسها وبهاءها،كما افتقَدَ الليلُ أصوات الحاصدات العائدات ،التي يؤنس بأصواتهنّ وحشته!

كانت تلك خطيئة،لا زالت معلّقةً في رقابنا حتّى اليوم!هذا ما قاله الرفيق الباكستاني!

لقد باح لي هذا الرّفيق،بمكنونات سرائره،كان يرثي الهويّة الضائعة،التي سرقها الإستعمار الحديث، كما سرق أرض فلسطين من تحت أقدامنا،ولم يسرقها من قلوبنا،فنحن إذن ضحايا لنفس المؤامرة،وعلى يد نفس الفاعل،وإذن!فلم تضع الطاسة،ولكنّ الغزاة خبؤوها، حتى لا نكيل بمكيالٍ واحد،مكيال نعرف جميعاً أنّ فيه إنصاف لنا وكرامة، كأفراد وكأمة،فليس غريباً إذن أن يشُدّنا الحنين إلى الزّمن ذاته؟أيّام كنّا أحراراً،لنا نفس الملامح،ونقرأ بعضنا جيّداً،ونعرف خصمنا جيّداً !فهل ما يفعله هؤلاء الشباب الصّاعدون،هو محاولاتٌ لاصطياد الهويّة،وتعليقها على صدورنا من جديد؟!محاولاتٌ رُبّما تصيب مرّة،وتخطيء مرّات،ولكن يبدو أنّها مدفوعةٌ بإصرارٍ عجيب،يعرف هدفه جيّداً،حتّى لو أخطأ التنشين،في مرحلةٍ من المراحل،فالثورة تعني المحاولة،مرّة بعد أخرى وتعني الإنتقال من مرحلة إلى أخرى على طريقٍ طوله ألف ميل،رُبّما بدؤوها هم بخطوةٍ واحدة!




nana817 on



nana817 on

“كان شوقي إلى القدس لا ينطفيء أبداً،وكانت لا تسعني الفرحة حين يقرّر والدي الذّهاب في زيارة،هناك،كنت أشبع نهمي من أرضها وهوائها،بالتجوُّل مع ابن خالتي،بين باب العمود وساحات الأقصى،وكنا عبثاً نساوم بائع الكعك،لنبقي على نصف القرش،ثمناً للسمسميّة،بعد وجبة الكعك والفلافل!

ابن خالتي استُشهد في الإنتفاضة،وعمّي الّذي ذهب زائراً ،استُشهد في القصف الإسرائيلي على غزّة،ولم يعثروا إلا على أجزاء من جُثّته...

هدى غالية ذهبت مع عائلتها للتنزّه على شاطيء بلدتها،غزّة، الجندي اليهودي الخبيث المفرغ من الإنسانيّة،الّذي غطّى محمود درويش روحة المشوّهة الحاقدة بملاحف شعرٍ زائفة،جوّفَ بطن والدها بقذيفة مدفعيّة،بكلّ القصد والحقد،،الذي لا يستطيعه إلا كائنٌ غير بشري،"طز" في الوعي الّذي يسير أعمى خلف رموزٍ لم تفهم ولم تفقه شيئاً،خارج غرورها الذّاتي،فصنعت لنفسها أمجاداً زائفة على حساب الوعي الغافل!

ليذهب السياسيّون والشّعراء إلى مياه الصّرف الصّحي،فأنا لاأعترف إلا بهذا العشق،الّذي لم يزل يتنفّس حُرّاً في داخلي،حيّاً،لم تُتعبه الأيّام!

أصدقائي في مصر،لا يجيبون على مكالماتي،أرسل لي أحدهم رسالة نصيّة يعاتبني فيها على فيلم"مشاهد مصريّة"،وأجبته مغتاظاً:هل أصبحتم كُلُّكُم من جنود الفرعون؟!

بعد الإحتلال،لم أتوقّف عن زيارة القدس،لم أستطع مغالبة الشّوق،واستسلمت للحنين،استسلام الوليد لحضن أُمّه!وبالرّغم من الغيظ الّذي يشعله وجود كل هؤلاء المستوطنين البغيضين حولي،وبالرّغم،كل المساحيق البشعة الّتي طلوا بها وجه القدس،بقي شيءٌ لم يتغيّر،إنّه في داخلي،كما هو هناك في الخارج،سواءٌ بسواء،وقد أحسن الشّاعر تميم البرغوثي"في القدس من في القدس إلّا أنت؟!"

ها أنذا أفتح صناديق أسرار الآخرين بلا وازع،إبراهيم ،أبو دوسة،الغواية أكبر من أن تقاوم!أغلقت دفتر المذكّرات وأعدته إلى الدّرج،لأكمل سياحتي فيما بعد!


لكلٍ منّا صندوق أسراره،يهمس له وينفخ فيه،جدّتي كان لها صندوقها ،المثير للفضول،والّذي لم أقاوم شهوة فتحه أيضاً،وابتدعتُ طريقة للتحايل على القفل،كانت تحتفظ فيه بثوب عرسها ومجوهراتها وعدّة الزينة،التي لا تُشهرها إلّا في الليل،قبل أن تتسلّل خفية،إلى مخدع جدّي،وتغتسل منذ بكور الصّباح،ماحيةً كُلّ شيء،ومعيدةً الأسرار إلى أكنانها!



"أعادتني"حماس" إلى طريق الحلم والأمل،واقتحامها الّذي عرضته على الشّاشات لثكنة عسكريّة إسرائيليّة وراء خط الحدود المفترضة،بلّل ظمئي إلى الثار،لقد أخذوا بثار "هدى غالية"، ولعلّ آخر ما كان يفكّر فيه"عوزي برعام" أن يهبط عليه مقاتلٌ من حماس داخل جحره،وأن يُحسّ فوهة الرشّاش الباردة،لاصقةً بصدغه النّجس!حين أطلق قذيفته الغاشمة بدمٍ بارد،على بطن أبي هدى،لوى ثغره بابتسامة شامتة وعاد إلى أمّه فرحاً وتعشّى ونام،الآن يلتوي فمه رعباً بدل تلك الإبتسامة المسمومة،وليس هناك عشاءٌ أخير!بدأ بالتذلُّل والتوسّل،كُلّ ما يريده،هو البقاء على قيد الحياة،ولكنّ المقاتل أطلق الرّصاص على صدغه،وبدأ خطوات الإنسحاب السريع!كان تكتيكاً متقناً،حيث توزّع أفراد المجموعة في الخارج،تحسّباً للمفاجآت ،وتناوبوا على التغطية والانسحاب،بعسكريّة تنم عن الإحتراف،إنّه فعلاً شيءٌ مبشّر!وعدٌ رُبّما يكتمل يوماً!





















"كلما زُرتُ القدس استبدّ بي الفضول للاطلاع على حياة المستوطنين،ونمط عيشهم،كنت أراقب تحرّكاتهم في شوارع القدس،حيث يأتون للتسوّق،أو في ساحات الأقصى،حيث يقيمون الطقوس،يبدو أنّهم مسوقون بغريزة القطيع،يُغيرُون كجماعة،ويرتدّون كجماعة،ربّما بدافع الخوف،وربّما بحكم العادة الّتي أدمنوها،فإسرائيل ليست أكثر من مزرعة كبيرة،لا مكان فيها للحلم الفردي،الكلّ جندي مطيع،فردٌ في منظومة،ليس هناك أحلامٌ كبيرة،ولا مشروعٌ كبير،العيش ليومٍ آخر هو الغاية الكبرى،من هذا الوجود الضّحل والمُسطّح!، حتّى صلواتهم ،مراوحة حركيّة وهزٌ للجسد، ،لقد راقبتهم طويلاً،وهم يؤدّون تلك الصّلوات،لم أر دمعة تنحدر،ولا وقفة خشوع،لقد رأيت مسيحيين يبكون أمام المهد،ومسلمين تنهمر دموعهم لرؤية الكعبة،أما مساخيط الله هؤلاء،فيؤدون رقصاتهم الركيكة،دون انفعال عميق!ولذا فليس في إسرائيل كُتّابٌ كبار،لأنّه ليس في إسرائيل حُلُمٌ كبير،ولا مَن عنده رسالة يبلغها للآخرين،إنّهم متقوقعون على أنفسهم ولكن،دون عواطف متبادلة،دون انسجام،ولا تجانس،مجرّد مراكمة جسديّة،داخل حدود الحاجة البيولوجيّة،للاستمرار في العيش،أمّا نحن فبرغم الضربات والسقطات فلا زلنا نحلم،لم نتوقّف عند حدود المُتاح الشّحيح،اخترنا دائماً حلمنا الكبير،فنحن إذن امّة عظيمة،ودعك من المتحسّرين والنادبين من الكتّاب والمثقّفين،فهؤلاء هوامش،سرعان ما ستزول ،ستتلاشى في لحظة اليقظة،كحلمٍ رديء!"















إبراهيم تربطه بغزّة وشائج عميقة،استُشهد عمّه هناك،وأمه غزيّة،وكان يذهب معها لزيارة أخواله،ولذا آلمه ما حدث كثيراً،سجّل مشاهد الحرب المؤلمة في أفلامٍ قصيرة،وشبّه الأطفال بدمىّ مهشّمة صامتة،تخرج من تحت الرّدم،ما ارتكبته اليد الإسرائيليّة، في الحرب الأخيرة،كان فظيعاً،وراء كلّ حدود الوصف!كان انتقاماً من الشعب الّذي احتضن المقاومة وقوّى عودها،وجعلها تتمكّن من ضرب العنجهيّة الإسرائيليّة،وتمريغ وجهها في الوحل!

وحين أعود إلى مذكّراته،أجده حريصاً على تدوين وملاحقة التفاصيل،وتسجيل انفعالاته وخلجات نفسه،بحيث لا يفلت منها شيء،لقد كتب التالي:

"قال لي مخرج فرنسي ذات مرّة:

-أنتم واليهود تتقاتلون باسم الله،ترى في أيّ صفٍ سيقاتل الله،في صفّكم أم صفّهم؟

لم أقل شيئاً،أخرجت له كل الصّور،الّتي أصحبها دائماً في محفظتي،وجْه "هدى غالية "المذعور،الأطفال المهروسون تحت الرّدم،والأجساد المهشّمة المستخرجة من تحت نفس الرّدم أيضاً،وقلت له:

-أيّ إله سيرضيه هذا؟!

بدا مصدوماً وكأنّه يراها لأوّل مرّة!ولم يقل شيئاً،هزّ رأسه من جانبٍ إلى آخر وهو يقول:هذا أمرٌ يؤسف له!

جزءٌ من مذكّرات إبراهيم،ملصقات صحف،قصّها وجمعها وألصقها في دفتر مذكّراته،لم أستطع مقاومة إغراء قراءتها أيضاً،أحدها كان مقابلة أجرتها الصّحيفة مع شخص يدعى أبا يوسف:

-أبو يوسف،حدّثني عن البدايات،كيف انضممتم للثورة،وما الّذي دفعكم لهجر مقاعد الدّراسة،والإلتحاق بمعسكرات القتال؟!

-كنّا فتياناً صغاراً،مملوئين بالحماس،كانت صورة الفدائي بالنّسبة لنا مثاليّة،كان الجوّ مشحوناً بالمشاعر الوطنيّة،وأمواجها تكتسح المخيّمات والقرى والمدن،ولم يكن يملك أحدٌ أن يبقى خارج تأثبرها،أذكر أنّ أول كمينٍ كُلّفت به،كان شريكي فيه،شابّاً يدعى إبراهيم البسيط،لا أدري أين انتهت به الأيّام ولكنّه،كان مشحوناً بشحنة زائدة من الحماس والوطنيّة،رُبّما أكثر منّا كلّنا!

كُنّا قرب الخطوط الأولى،وكنّا نتفلّتُ كنمورٍ شرسة،وما إن ظهرت أوّل جيب عسكريّة إسرائيليّة،حتّى أمطرناها بوابلً من الرّصاص،ثُمّ نفّذنا انسحابنا بهدوء وعبر الطريق المرسوم،دون انفعالٍ أو خوف!

-كيف انتهت الأمور إلى مانتهت إليه،إذا كانت البدايات كما تصفها،مفعمة بكل تلك الرّوح؟

-لقد اعتصرتنا السياسات،حطّمت أضلاعُها أضلاعَنا،لم يكن هناك دولٌ عربيّة ثوريّة،ولا أيٍّ منها يريد المُضي معك حتّى النّهاية،وبكُلّ الكُلف المحسوبة وغير المحسوبة!للدول ثوابتها وحساباتها،وهكذا انتهت الأمور إلى ما انتهت إليه!





























في غيابنا أنا وإبراهيم،قامت قوّة من البوليس بدهم مكتبنا،وحملوا كُلّ شيء وذهبوا،أجهزة الحاسوب،الملفّات،وتركوا شرطيّاً أمام المكتب،أمَرَنا بفظاظة أن نراجع المركز الأمني!

جُنّ جنون إبراهيم،وأقلّني واندفع بسيّارته إلى باب المركز الأمني،وأوقفها وقوفاً عاصفاً،فهرع شرطي ليطلب منه الوقوف بعيداً عن أمام باب المركز،وما إن ترجّلنا حتّى اندفع إبراهيم إلى الدّاخل،وسأل عن مكتب الرّئيس،سأله العسكري بخصوص ماذا؟،وحين شرح له إبراهيم الأمر،وجّهه باقتضاب:القضائيّة!

لم يُصغ إبراهيم له،وما إن وقعت عيناه على اللافتة المكتوب عليها "رئيس المركز"،حتّى اندفع إلى داخله محتجّاً هائجاً،وما إن وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الرئيس،حتّى ارتفع صوته مخاطباً إيّاه بغضبٍ لم يستطع السّيطرة عليه:

-بأي حق تقتحمون مكتبي في غيابي وتأخذون كل شيء دون تبليغ إو إشعار،هل هذا هو القانون؟!

نظر إليه الضّابط بتمعّن،كأنّه يقيّم شخصيّته،وبدا كأنّه أدرك الموضوع المقصود،دون أن يعطيه إبراهيم أية معلومات،ثُم قال بهدوء:

-ممكن نتعرّف عليك أوّلاً!

مدّ إبراهيم يده إلى جيب بنطاله الخلفيّة،وأخرج جواز سفره الأمريكي،ومدّه إلى الضابط ممسكاً إيّاه بأطراف أصبعيه من الناحية الأُخرى!

وأردف:

-أنا مواطن أمريكي،من أوكلاهوما،أعمل هنا وأستثمر،ما الداعي لكل ما عملتموه؟!اعتدل الضّابط في جلسته فجأةً وتحدّث بكياسة:

- هناك من تقدّم بشكوى،نحن لا نتّخذ إجراءً إلّا بناءً على شكوى ،وبعد أن نتحقّق من جدّيتها،تفضّل بالجلوس،سنسوي الأمور بالطريقة المناسبة!بإمكانك أن تتفضّل بالذّهاب، وانا سأتكفّل بالباقي شخصيّاً،إلا إذا أردت أن تبقى في ضيافتنا،ابتَسَم وهو ينهض مسروراً لدعابته ومُربّتاً على كتف إبراهيم،كل ما أخذناه سنعيده إليك كاملاً غير منقوص!لا تقلق،ليس هناك ما يدينك،لقد اطّلعنا على المحرّزات،ليس فيها مخالفة للقانون على الإطلاق!

حين أصبحنا خارج المركز علّق إبراهيم:

-من المخجل في دولنا العربيّة،أن تقف امام رجل بوليس عارياً من كلّ فضيلة،في نظره طبعاً،إلّا من جواز السّفر الأمريكي،وأنت في بلدك أيضاً،أليس هذا كثيراً؟!

-ولكن من تعتقد أنّه تقدّم بشكوى بحقّنا،أم تعتقد أنّ الضابط كان يكذب ليبرّر تعدّيهم علنا!

-لا بالطّبع! الضابط لا يكذب،الشُّرطة جهاز تنفيذي،لا يأخذون الأمور على عاتقهم!ولكنّي أشك أنّها السفارة المصريّة!أغضبهم"المشهد المصري" وظنّونا لُقمة سائغة!

حين عرفت كارول بالأمر،قالت أنّه لا بُدّ من إبلاغ السّفارة،تحسُّباً من ايّ إجراءٍ لاحق،ذهبنا كلّنا،حملة الجنسيّة الأمريكيّة،أنا وهي وإبراهيم!

بعد أن أدلينا بمعلوماتنا،إلى موظّف الإستقبال،قالت كارول إنّ الامر جدّي،وأنّها تريد أن تبلغ سعادة السفيرة شخصيّاً!

وردّ الموظّف:

-أظنُّ أنّه من الصّعب مقابلة السّفيرة سيّدتي،مشاغلها كثيرة،ولكنّي سأرتّب لكم مع السكرتير الثاني!

-لا بأس! قالت كارول...سيفي بالغرض،المهم أن تصل المعلومة وأن يفعل أحدٌ شيئاً بهذا الخصوص،حتّى لا يتكرّر ثانية!

وبعد عدّة مكالمات،استقبلنا السكرتير في مكتبه،ولم تتحرّج كارول أن تعضّه بالكلمات:

-يبدو أنّ سفيرتنا غير معنيّة باقتحام خصوصيّات الأمريكان وأملاكهم الخاصّة،بدون أي تبرير من قبل اجهزة الأمن !إنّها معنيّة فقط بحقوق مثليي الجنس وتنشر ذلك في الصحف،وكأنّه شيء يمكن التباهي به،لا أدري إن كانت مسيحيّة أم لا!ولكنّ المسيح لن يكون سعيداً بهذا على أيّة حال!أرجو أن تبلغها أن أمريكيين أسوياء حضروا إلى هناوانّ هؤلاء الأسوياء،لهم حقوقٌ أيضاً!

قال لسكرتير:

-إهدأي يا سيّدتي،واحكي لي تفاصيل ماجرى!

روت له كارول الحكاية مستشهدة بي وبإبراهيم،ومُقدّمةً إبراهيم على أنّه زوجها!ثُم مصحّحة:سابق،لاحق،لا فرق،ولكنّه زوجي على أيّة حال!

بعد خروجنا بلحظات وقبل أن نصل باب السيّارة،عاتبت كارول إبراهيم،بلا مقدّمات:

-لماذا انت قلقٌ بشأن العالم،مريم تحكي لي كل ما تفعله،سوريا،مصر!الأمور ستسير إلى نهاياتها الطبيعيّة،سيمضي القَدر إلى غايته،دون تدخّل احد،هذه حتميّة،لنهتم بحياتنا الخاصّة،لو فعلنا أنا وأنت،لما وصلنا إلى ماوصلنا إليه!إبراهيم أنت لم تعرّفني بنفسك من قبل،لقد تواريت خلف مظهرك الأمريكي فقط!سلكت أسهل الطّرق!وها أنذا أتعرّف إليك هنا!

أمّا إبراهيم فقد بقي صامتاً،وبدا غارقاً في افكاره،ولم يُعلّق بشيء!











عواطف المصريّة طلبت إجازة،قالت إنّها ذاهبة لإتمام خِطبتها!بدا إبراهيم وكأنّه فوجيء بذلك ،ولكنّه اكتفى بالقول:

-إذا قررّت الإستقرارهناك،فقط بلّغينا!

أدار إبراهيم ظهره للعالم،وانشغل بإنتاج فيلمه الجديد"مشاهد سوريّة"كانت عمليّة مونتاج متقنة،تصيبك متابعتها بالذّهول،صمتٌ مطبقُ فقط، لا تعليق صوتي،ولا موسيقى تصويريّة!

يبدو المشهد كطريقٍ بلا نهاية،تطلّع عليك من كلّ من جانبيه،بناياتٌ فاغرة،وكأنّما اقتُلعت محاجرُها!ثًمّ ننتقل بطريقة دورانية إلى مدينة أخرى،تغيّرات طفيفة على شكل البنايات وحجمها وألوانها ،هي فقط الّتي توحي بذلك!مدنٌ خالية من النّاس!وفجأة وفي نهاية المشهد ،يطلع النّاس من كلّ صوب،ليملؤوا الشوارع هاتفين:حُريّة حريّة!وهم يتوافدون بلا توقّف،وتتزايد أعدادهم بلا نهاية،ولا انقطاع!وينتهي المشهد،بالناّس المتناسلين يملؤون الفراغ ويعيدون إليه صوت الحياة،وينحسر الخراب شيئاً فشيئاً،حتّى يختفي تماماً أمام زحفهم الهائل!









ما تبقّى من مُذكّرات "أبي دوسة "لم يكن شيئاً ذا بال،ولا يضيف أيّ بعد إلى مسار الاحداث،مجرّد حديث عن تنقلّه بين البلدان وسفراته الكثيرة وسني دراسته ،وحصوله على إجازة الحقوق،ولكنّ مقتطفاً ما رُبّما يرسم شئاً من ملامح تلك الشّخصية،الّتي اقتحمت حياتي من الباب الخلفي،لا لشيء،إلّا لأنّ صديق طفولتي تورّط من خلالها،في حكايةٍ شائكة،غيّرت مجرى حياته كاملاً:"لقد قضيت جزءاً طويلاً من عمري،متنقّلاً بين الأرض والسّماء،بين المطارات والمدن،كنت آملُ أن اتعرّف إلى نفسي،من خلال معرفتي بالعالم،أنفقت الكثير من المال والجهد،لأزيد حصيلتي المعرفيّة،بحضور الندوات والمؤتمرات،أو حتّى بمُجرّد التفرّج على العالم"

كان ذلك الإقتباس من أفضل ما كتب،في لحظة تجلٍّ رُبّما!أما الباقي فركيكٌ ومكرّر،ولا يستحقّ التوقّف عنده طويلاً.

حين جاءت نادية،كنت أريد ان أنقل لها انطباعاتي،حول مذكّرات أبي دوسة،ولكنّ وجومها وسهومها العميقين،والقلق والشُّرود الّذي عكسته عيناها،ستوقفاني،ولم يدم الصّمت طويلاً،لم تلبث نادية أن صرّحت:

-لقد أرسل لي محمّد مرسالاً!يريدني أن ألتحق به،إنّه في سوريا الآن،عبر إليها من تركيّا!

-مرسال!ماذا تقصدين؟!

-شخص متأنّق،يحمل الجنسيّة التركية،يبدو كسائح أو رجل اعمال، مظهره يوحي بالثراء ولا يثيرُأيّة شبهة!

-؟وكيف اتّصل بك؟!

-لن تصدّق!حضر إلى بيتي،محمد أعطاه العنوان بدقّة،وحدّد له الوقت المثالي!

-نادية!هذه طريقٌ باتّجاهٍ واحد،إذا ذهبت فلن تستطيعي الرّجوع!ثمّ هل أنت ممنوعة من السّفر،على ذمّة القضيّة؟!

-لست ممنوعة بعد أن أسقط أبو دوسة حقّه الشخصي،وأدلى بشهادته،رفعوا المنع،وأنا شككت حتّى أنّهم رفعوا الحظر عمداً،رُبّما ليروا إن كنت سألحق بمحمّد،فيستدلّون على مكانه!وربّما آخر شيءٍ فكّروا به،هو أن يكون في سوريا!

-على أيّة حال،فكّري جيّداً قبل أن تقرّري،والآن اعتقد أنّه الوقت المناسب لأصارحك بالحقيقة،محمّد صديق طفولتي،شخصيّة مغامرة ومتقلّبة،إنّه وحيد أبويه،يعيش دائماً على الحافّة،ولا يحدّد اتّجاهه إلّا في اللحظة الأخيرة!

-لقد ساورني الشك بأنّك تعرفه،من خلال أسئلتك لي،وإصرارك على التحقق من الإسم بالذات،وحين سألتني إن كان اسم عائلته "الشّيخ" ،أو شيءٌ من هذا القبيل!

محمّد،حاله كحالي فأنا وحيدةأيضاً،بعد موت أمّي،لم يعُد لي أحدٌ هنا...

-ناديا! يبدو أنّك قرّرت مسبقاً،لقد جئت لتودّعيني لا لتستشيريني!

فاضت عيونها بالدّموع:

-لقد احتضنتموني وعطفتم علي!عطفاً لم ألقهُ حتّى من أقرب النّاس إلي،سأبقى مدينة لكم طيلة حياتي!

-نادية!أنت لست مدينة لنا بشيء!إنّها العلاقات الإنسانيّة الطبيعيّة،أو هكذا ينبغي أن تكون!

-يبد و يا إسماعيل أنك لم تُجرّب قسوة العالم!على أية حال،أنا سأغادر قريباً،أرجو أن يجمعنا القدر مرّة اخرى...

مدّت يدها مصافحة،وهي تكاد تتهاوى من فرط الإنفعال،ثم تماسكت قدر ما استطاعت،وجمعت شتاتها وانصرفت دون أن تلتفت إلى الوراء،في نظرة وداعٍ أخيرة،خشيت أن تضعف وتغيّر رأيها في اللحظة الأخيرة!


قال إبراهيم أنّنا سنذهب إلى المغرب،إلى الدّار البيضاء،سنسافر كلّنا معاً كما فعلنا في المرّة الأولى!

-ولماذا المغرب هذه المرّة؟

-أريد أن أحلّق فوق العالم العربي،من أقصاه إلى أقصاه!أن أراه من عَلٍ،مُلتئماً،جميلاً ومتكاملاً،وخالياً من الشّروخ!

-وهل سيُغيّر ذلك من واقعه شيء!

-لا! ولكنّه سيغيّر من واقعي أنا! أريد أن أجّدد التفاؤل!أن أهزم هذا اليأس المعشّش في داخلي،ويكاد يخنقني!

-هذه وصفة ساذجة للخلاص!

-هل هناك من شيءٍ آخر نفعله!دعنا نجرجر بعضنا بعضاًونمشي مُتّكئين أحدنا على الآخر،ربّما يكون في هذا عزاء للنفوس المتعبة كنفوسنا!

جمعنا أنفسنا كما في المرّة الأولى،وغيّرنا التقسيمة،سمير مع خطيبته مريم،كارول وهدباء وحمّودة،معاً،هدباء بإنجليزيّتها المكسّرة،وكارول بعربيّتها المُكسّرة،سيجِدْن طريقة للتفاهم!

وجلست أنا وإبراهيم،صامتين في قداسة،وجلس إبراهيم إلى جانب النّافذة،ليرى ما يستطيع أن يراه من عالمه العربي البهي كما يودّ أن يراه!








أقمنا في فندق متواضع في الدّار البيضاء،قال إبراهيم إنّه وضعٌ مؤقّت،وأنّه سيبحث عن فيلا على البحر!

كان يخرج ليتحسّس الدّار البيضاء،يجسّ نبضها كما يقول،ثمّ عاد إلينا بنتيجة مفادها،أنّ السماسرة كلّهم نصّابون،ولن نضع أنفسنا تحت أحناكهم!

طال تقلّبه أيّاماً توليّت خلالها العناية بالجمهور واصطحابهم في أرجاء المدينة،مطاعمها وشواطئها ومتنزّهاتها!

وأخيراً عثر إبراهيم على ضالّته،وعاد ليبشّرنا،أنّه عثر على مغترب مغربي يحمل الجنسيّة الفرنسيّة،ويريد تأجير فيلته قبل أن يغادرعائداً إلى فرنسا،لا وساطة مكتب،وابن عمّه هو من سيتولّى الأمور،وضعٌ مثالي تماماً وأجرة معقولة!حين يستيقظ رجل الأعمال النّائم داخل إبراهيم،يُحقّق نتائج طيّبة بالفعل!

تنفّسنا جميعاً الصّعداء،أنا وهدباء بالذّات كنّا بحاجة إلى خلوة حميمة،وتركنا مهمّة الترفيه عن حمّودة للخطيبين سمير ومريم،اللذين راقتهما صحبته الطّفوليّة،وتركنا كارول وإبراهيم لمهمّة ترميم ما فاتهما من فصول الحياة وإعادة لأْمها،كان وضعاً مثاليّاً للجميع!


كنّا نجلس مستندين إلى بعضنا على الشّاطيء،أنا وهدباء،كارول تمارس السّباحة بشغف،وإبراهيم يتأمّلها من بعيد،وكأنّه يمتحن رغبته فيها،وسمير ومريم،يتدرّبان على الرّعاية الأبويّة،من خلال حمّودة،وهما متفائلان بهذا الدّور،الّذي يعدهما بحياة جديدة قريبة،يأملان في تحقيقها بلا منغّصات،قد تُقاطع حلمهما!

في المساء يأوي كلّ إلى غرفته الخاصّة،الفيلا واسعة،وفي جناحنا غرفة خاصّة بحمودة،وهو سعيدٌ بخصوصيته والتنقّل بين المحطّات الّتي يحبّها،دون تهديد،أن ننتزع جهاز التحكّم من يده!

عادةً أستأثر أنا بجهاز التحكّم،وتنتهز هدباء فرصة خروجي إلى الشُّرفة أو ذهابي إلى الحمّام،لتبدأ هي في تقليب المحطّات!

لم أكن قد قطعت نصف المسافة إلى الشّرفة،بعد أن استبدّ بي الملل،حتّى ناداني صوت هدباء بإلحاح:

-تعال..تعال..أنظر من يستضيفون..أليس هذا رفيقك؟!يقولون أنّ اسمه"محمد الشيخ"!

أذهلتني المفاجأة،كانت صورة محمّد بالفعل تتصدّر الشاشة،حاسر الرّأس ،يرتدي بزّة عسكريّة!

تناولت "الريموت" من يد هدباء،رفعتُ مستوى الصّوت،وأصغيت بكلّ حواسي!

كانت المذيعة تستأنف حوارها مع محمّد،والّذي يبدو أنّه لم يزعجه أن تجري الحوار معه امرأة،كما هي الحال عادة مع الآخرين:

-شيخ محمّد أومحمّد الشّيخ كما يلقّبونك:

-لماذا اخترت أن تؤسّس تنظيماً جديداً وسمّيته "المستضعفين"،ولماذا لمْ تنضمّ إلى أحد الفصائل القائمة والموجودة على السّاحة،وهل هذا يعني أنّ لديك اعتراضات أو مآخذ على التنظيمات القائمة؟!

-لست أذيع سرّاً إذا قلت،أنّ الساحة هنا ساحة مفتوحة،لا أحد يمنع أحداً من تشكيل أي تنظيم،ما دام يسير في نفس الإتّجاه،ومستعد للتنسيق والتعاون،وهذه المرونة هي نقطة قوّة وليست نقطة ضعف،هناك شباب هربوا من تنظيم الدولة،ويبحثون عن حضنٍ أكثر رحابة وتسامحاً،ولكن دون تفريطٍ في الأمور الشّرعية!هؤلاء يشكّلون الجزء الأكبر من تنظيمي،وبصراحة جارحة،ربّما لأنّ الآخرين يرفضون استيعابهم،لأنّهم يشّكون في نوايا القادمين من جهة تنظيم الدولة،أنّهم ربّما يكونون مدفوعين من قبل التنظيم ذاته،لأنّ هذه أحد تكتيكات تنظيم الدولة كما يعتقدون،أنا استوعبتهم ومنحتهم الثّقة،والله سبحانه وتعالى لن يخذلني ،وسيثبت أنني كنت على حق،لأنّي أطبّق أمراً إلهياً"اجتنبوا كثيراً من الظنّ"!

-في هذه الحالة أنت وفّرت لهم البديل المالي أيضاً!فما هي مصادر تمويلكم شيخ محمّد؟!

يبتسم محمد،تلك الإبتسامة الّتي لم تُغيّرها السّنون،والمرسومة في ذاكرتي،منذ عهد الطّفولة البعيد!

-هذه معلومة لا أستطيع الإفصاح عنها،هذا سرٌ عسكري،كشْفُه قد يُعرّضنا للخطر،وكأننا نقدّم معلومة مجّانيّة للعدو فاعذريني!

تستمرّ المذيعة في الحوار،وتتدفّق في رأسي الأفكارُ بلا توقّف،ها هومحمّدٌ على التّخوم،والأسرار مكشوفةٌ وملقاةٌ تحت عينيه،الأسرار الّتي أقف أنا أمام أبوابها المغلقة وألتمسها في أخبار الفضائيّات!أُنْظُرْ أين تموضع كلٌّ منّا،دون أن يختار موضعه،لقد وضعتنا حيثُ نحن، يد القدر،الّتي ساقت محمداً خطوة فخطوة،من شريكٍ في جريمة،وهارب من وجه العدالة،إلى ساحات الجهاد!ولكنّه اختار في النّهاية،اختار وجهته حين وضعته الظّروف في ركنٍ ضيّق!

جرفتني أفكاري بعيداً لأصحو على صوت هدباء:

-رفيجك،صِدجْ،وللا أكون غلطانة؟!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى