جورج طرابيشي - الديموقراطية الناقصة

إن العلاقة بين الديموقراطية والظاهرة الحزبية علاقة وجودية متبادلة : فلولا الأحزاب لامتنع وجود الديموقراطية, ولكن لولا الديموقراطية لامتنع وجود الحياة الحزبية|0
صحيح أن الأحزاب سابقة الوجود على الديموقراطية0 وصحيح أن العديد من المجتمعات والحضارات القديمة عرفت الظاهرة الحزبية, ولكن كان لابد من انتظار الحداثة الديموقراطية حتى يتبدل النصاب الوجودي لهذه الظاهرة, وحتى تكفّ الأحزاب عن أن تكون لعنة انقسامية تهدد وحدة المجتمع أو الدولة أو الدين أو الحضارة لتصبح تعبيراً عن التعددية من حيث هي شرط الديموقراطية0
والحزب في اشتقاقه الدلالي بالذات, سواء بالعربية أو باللغات الاوروبية الحديثة المتحدرو من اللاتينية, يحيل إلى "الجزء", إلى "الفئة", إلى "الشطر" المتميز عن "الكل" الذي هو "الجماعة" أو "الأمة", إن لم نقل المنفصل عنها والخارج عليها0
وبالفعل, إن جميع المجتمعات القديمة السابقة على الحداثة الديموقراطية كانت تقوم على مقولة "الكلية", على مبدأ "الوحدة" كمعطى مسبق الوجود, ليس من شأن "الاجزاء" أو "الاحزاب" إلا أن تضعفه وتفت في عضده, هذا إن لم تعرض وجوده للخطر0 وفي جميع تلك المجتمعات القديمة كانت " الحزبية " تعدّ ظاهرة مرضية0وحتى بعد إطلالة الحداثة في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظلت الأحزاب تعتبر في نظر مؤسسي العلم السياسي الحديث من أمثال هوبز ولوك وروسو " شراً لابد منه" , وكانت الاولوية تعطى بإطلاق لفكرة "الوحدة" المطلوب دوما صونها من الانقسام - وهو التقليد الذي أرسى أسسه الفلاسفة قبل سقراط وأدرك ذروته مع أفلوطين الممكن تعريفه بأنه فيلسوف " الواحد "0 أما في الحضارات التي قامت على أساس لاهوتي كالحضارة اللاتينية المسيحية والحضارة العربية الاسلامية, فإن الأحزاب قد أخذت في الغالب شكل "فرق " و " شيع " و " هرطقات "0ولئن يكن تاريخ المسيحية في القرون الثلاثة الاولى من وجودها هو تاريخ اضطهادها ك"فرقة" خارجة على المجتمع, فإن تاريخ المسيحية على امتداد العصر الوسيط هو تاريخ اضطهاد " الفرق " التي أنشقت عنها بدءاً بالآريوسيين والنسطوريين وانتهاء بالكاتاريين الذين جرد ضدهم البابا أينوشنسيوس الثالث الحملة الصليبية التاسعة والأخيرة0 وتاريخ "الأنشقاقات " في المسيحية يقابله في الحضارة العربية الإسلامية تاريخ " الخروج "0 وليس من قبيل الصدفة أن يكون الأسم الذي أعطى لأول فرقة في الاسلام هو اسم " الخوارج "0 فعلى أمتداد تاريخ " الأمة " في الإسلام كانت "الفرق" تصور باستمرار, أياً ما تكن العصبية ينتمي إليها الحزب الحاكم , على أنها, كما يدل أشتقاقها, مظهر " التفرقة " وعاملها0فالامة معطى كلي سابق الوجود على أجزائه, وكل وجود للجزء إنما هو بالضرورة ضد الكل وعلى حسابه0 والحزب المستأثر بالسلطة هو كل الامة, وكل حزب أخر هو وجوبا حزب خارج على السلطات وعلى الأمة وعلى الدين سواءا بسواء0 وقد تتغير عصبية الحزب الحاكم, كما في الأنقلاب العباسي أو الفاطمي , ولكن الجدلية السالبة التي ترى في " الحزب " معارضة للأمة ونفيا لها , وفي " الفرقة " تفريقاً لها, لا تتغير0
والواقع أن السوسيولوجيا نفسها ما رأت النور إلا مع الحداثة الديموقراطية0 فمن قبل كانت الفلسفة, ووريثها اللاهوت أو علم الكلام - في وقت لاحق الأيديولوجيا - تطرح نفسها على أنها نظرية الوحدة وعلم الكل0 وكان لابد من انتظار القرن التاسع عشر ليرى النور علم الاجتماع بوصفه علم الجزء0 والحال أن رؤية العالم المباطنة للجزء هي النسبية والتعددية0 فالجزء هو بالضرورة نسبي بالإضافة الى الكل0 والكل نفسه لا يعود مطلقاً بالنسبة الى اجزائه بقدر ما يعود محصلة لمجموع أجزائه0 فهو قابل للتعديل والتغيير بدالة تغير الأجزاء0
والحال أن العضادتين اللتين تنهض عليهما الديموقراطية هما النسبية والتعددية0 فلا مطلق في الديموقراطية سوى النسبي وحده0 وما كان مطلقاً بالأمس هو نسبي اليوم أو الغد0 وحمولة النسبي من العقلانية هي التي تقترب أو تبتعد به عن عتبة المطلق المتنقلة باستمرار0 والديموقراطية هي علاقة بين أطراف متعددة0 ومتى غاب التعدد والصراع بين الأطراف غابت الديموقراطية نفسها0 وبديهي أن الديموقراطية تعرف هي ايضا نوعاً من الوحدة0 ولكن هذه الوحدة غير ثابتة وغير معطاة لا أزلا ولا أبداً, بل هي قيد الفرط وإعادة التشكيل الدائم0 إنها وحدة نسبية ومؤقتة ومتحركة0
ولكن كما أن الحزب لا يعود يعتبر في الديموقراطية نفياً للكل, كذلك فليس من حقه أن يماهي بين نفسه وبين الكل0 فالحزب الذي ينزل نفسه منزلة الكل يعيد آليا إنتاج الدكتاتورية من حيث إن الدكتاتورية هي بالتعريف الجزء الذي يحسب نفسه كلاً , والنسبي الذي يفرض نفسه مطلقاً0 وحتى لا يقع الحزب السياسي في هذا المطب فلا خيار له غير أن يكون حزباً سياسياً صرفاً0 فتداخل الحيز الاجتماعي والسياسي , أو الحيز الديني والسياسي معاً هو ما يفسد اللعبة الديموقراطية من أساسها0
ولكن حتى لو تقيد الحزب السياسي بقواعد اللعبة الديموقراطية وألتزم بحدود دوره كأداة جزئية ونسبية للتوسط بين الفرد والمجتمع ولم يتبن أيديولوجيا شمولية ولم يدع احتكار الحقيقة ووحدانيتها ووحدانية تمثيلها, فإنه يظل في بنيته الداخلية بالذات, كما يرى مؤلفا كتاب الديموقراطية الناقصة, مصدراً للاستلاب الديموقراطي0 فالبنية الداخلية لأي حزب هي بالضرورة بنية سلطوية تقوم على الانفصال وتقسيم العمل ما بين القاعدة والقيادة0 ومهما يكن من درجة ليبراليتها , فإنها تطالب العضو المنتسب إليها بالتخلي عن ارائه الشخصية وبالالتزام بالخط العام للحزب وبالتقيد بانضباطيته التي لا خيار لها إلا في أن تكون مركزية0 والباب الوحيد الذي تتركه الأحزاب للحرية الشخصية هو باب الأنشقاق أو الفصل أو التجريد من العضوية0
وصحيح أن الديموقراطية لا تقوم لها قائمة إلا أذا أباحت للافراد حرية التجمع لتأسيس أحزاب تدافع عن مبادئ ومصالح سياسية محددة, ولكن بقدر ما أن الديموقراطية قابلة للتعريف بأنها " دولة أحزاب " فإنها قابلة للتوصيف استتباعاً بأنها " ديموقراطية ناقصة "0 فلا مجتمع ديموقراطي بدون الاعتراف المتبادل بالفروق وبسؤدد الاخر0 والحال أن الحزب ينزع في بنيته وفي طريقة أشتغاله بالذات , إن لم يكن في أيديولوجيته أصلاً , إلى نفي الاخر والى تنميط الأعضاء المنتسبين اليه في قالب واحد وإلى انكار الحق في الاختلاف عليهم0 وهو إذا لم يفعل , يكف عن ان يكون حزباً0 ونظام التفكير الواحد هذا , الذي هو جوهر الحزبية, هو أيضاً طاعون الديموقراطية0 ومع ذلك فإن الديموقراطية لا خيار لها إلا في ركوب هذه المجازفة, فهي مع الاحزاب , تبقى ديموقراطية ناقصة, ولكنها, بدونها, تكف عن أن تكون هي الديموقراطية



---------------------------
المصدر : في ثقافة الديموقراطية



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى