محمد بنيـس - الحياة والترجمة.. يَومياتُ العزلة

كانت بدايةُ الثمانينيات علامةً صامتةً على رغبة شخصية في ترجمة «رمية نرد» إلى العربية. علامةٌ ملقاةٌ في صيغة ملاحظة مكتوبة، بيد، مرعُوبة، يدي، في كرّاس صغير. كانت القصيدة تحت بصري. الصفحاتُ والعنوانُ تلمع. وجسدي يستقبلُ هذا الضوءَ الفريد.
كنتُ أعامل هذه الرغبة بما هي عرَضٌ من أعراض النزوع إلى المستحيل. كنتُ آنذاك أشرع في قراءة القصيدة فإذا بدُوارٍ يصيبني. دوار الجمال. دوار المطلق. دوار ما لا يدرَك إلاّ ذوقاً. وعند قراءة كل صفحة من صفحاتها كانت النشوة تمتزج باللاّطمأنينة. هي قصيدة تجعل من المطلق مُقامَها الذي لا مُقام سواه. لغةً وتفضئةً.
. ١ .
كانت صورة ملارمي، التي كان نَـدَر Nadar التقطها له سنة 1895، وهو جالس فوق الكرسي، حاملاً ريشة المداد، وفوق كتفيه غطاء صوفي صغير الحجم أهدته إياه صديقته ميري لُوران Méry Laurent، يشعرني بصورة زاهد، وهب حياته للمطلق. هذه قصيدةُ الأسرار. كنتُ أهمس في نفسي فيما أنا كنت أخشى البوحَ، لقريب أو بعيد، برغبتي في ترجمتها إلى العربية. كلام صامت كان بيني وبين القصيدة. بل لمْ أكنْ أجرؤ على التفكير في الترجمة كلما ألقيتُ نظرة على صورة ملارمي. كنتُ أتخيل ليلاته الطويلةَ في تورْنون Tournon أمام مهَاوِي الورقة البيضاء، أترك نفسي تضيع في صمت كنت أظنّه صمتَ بيته في فالْفانValvins . وأتقمّص شدةَ انتظاره سعادةَ أن يرى صدور القصيدة في طبعة وفيّة لما يتصوره لها، بعد أن لم يستطع أن ينشر «إلاّ نصفَها» في مجلة كُوسْمُوبّوليسْ Cosmopolis .
. ٢ .
وأنا، اليومَ، أنظر إلى نفسي كما كانتْ تعيش تلك الرغبةَ بدون كلمات قادرة على الكشف عنها. قرأت القصيدة، عبر سنوات، من غير أن أبثَّ في إنجاز الترجمة. ثمة شيء ما كان ينقص لكيْ تنطلق الكلمات الأولى، كلمات العربية لقصيدة امتلكت ذهن وحواس ملارمي عهداً طويلاً قبل أن ينجح في كتابتها. ولا أدري كيف تحولت السنوات إلى غمامة خفيفة ألْبسُها وتلْبسُني. إحساسٌ كان يصعب أن يكون لي بطريقة مختلفة.
لا أنْسى..
في أحد أيام ماي 1999، وأنا في حوار ثقافي.شعري مع صديقي عبد الوهاب الـمؤدب، بمدينة مَزَارَا ديلْ فَالُو Mazara del Vallo في صقلية، تطرقْنا إلى الشعر في زمننا. بودلير وملارمي اسمان كانا حاضريْن. أجل،« رمية نرد»، قلتُ، لم تترجَمْ بعدُ إلى العربية. لا وحدها هذه القصيدة، التي بدّلت فكرة الشعر في عالمنا الحديث، بل جُلّ أعمال ملارمي. لا يزال ملارمي للأسف مجهولاً، حتى الآن، في العربية. احتفينا نحن الإثنين بمشروع ترجمة قصيدة « رمية نرد». ومع الخطوات الحرة أمام شاطئ المدينة انفلت منّا، على حين غرة، وعدٌ مشتركٌ بالعمل، جنباً إلى جنب، لإنجاز هذه الترجمة.
.٣ .
اقتربتُ أكثـر مما ينقص البدء في الترجمة عندمـا نشَـر برنار نويل، في مارس 2001، كُتيّـباً بعـنوان مرض المعنى La Maladie du sens. نصٌّ لا يتوقف، مكتوبٌ على لسان ماري (الألمانية كريسْتينا ماريا جيرْهَارد). مونولوغ تصف فيه ماري، دون ذكر اسمها أو اسم ملارمي، مغامرةَ زوجها للوصول إلى الكتَاب، وترسم الطرق المتعددة لحياتهما المشتركة. نشيد مُهدًى إلى ملارمي، يخرج على دراسات، كنت تعودت على قراءتها، فور النشر، تخص الشاعر والكتَاب والقصيدة. هذا النشيد استقرّ في دخيلتي. لقد أتى في ظرف كان الوقت ضاغطاً عليّ وأنَا غيرُ مهيّإ للترجمة.« رمية نرد». صمتي صمتُ القصيدة. كنت أقرأ وأعيد القراءةَ. القصيدةَ وكُتباً عنها. زيارةُ بيت ملارمي في فالفان. حديثٌ مقتضبٌ في لقاء مع مهتمين. لكنّني لم أكن أعْلم متى سيمسّ النداءُ يدي.
. ٤ .
ربيع 2006 في مراكش. أمسية بين النخيل وتحت سماء تتكوكب فيها النجوم مع هواء دافئ تحسه قادماً من أعالي أوكيمْدَن، قبالة المدينة. تطرقنا، إيزابيلاّ كيكايّيــني Isabella Checcaglini وبرنار وأنا، إلى الشعر والثقافة في لُغاتنا. القدامة والحداثة. أسماء وأعمال تتجاوب في هواء الفكر. شعراء من العصر الجاهلي أوْ دانْتي. من نيتشه إلى ابن عربي. ملارمي وفاغنر. الواحد يفضي إلى الآخر. يستقبل ويَسْتدعي. كان الكلام يحفر مسلكاً في غفلة عنّا. ومثْلَ طيور مهاجرة، شرعنا في التحليق حول« رمية نرد»، منفصلين عن الكلام العام. مكانُ الأمكنة. وإنْ كان زمنُنا لا يأخذ بجدية أفكارنا، لا ينصتُ إلى أصواتنا، إنْ كان الخطرُ يطوّقنا، فالشعر سيخترق أجسادَنا، كلامُ الشاعر بطريقة أخرى سيخترعُ الأسرارَ القادمة. بهذه الكلمات كتبتُ ملاحظة، بعد عودتي، في ساعة متأخرة منَ الليل، إلى الفندق. كانت مناقشتنا اتخذت اندفاعةَ نشيد، عندما سألني برنار: «لمَ لا تُترجِم رمية نرد ؟» واستحتّثني كلمات إيزابيلاّ أيضاً، وهي تتحدث عن الطبعة التي لا تزال القصيدةُ تنتظرها في الفرنسية. طبعة هُنري منْدُور Henri Mondor وجَان.أوبْري Jean- Aubry أو طبعة بيرْتْران مَارْشَال Bertrand Marchal في البليَاد، شوّهت بحجمها الصغير فكرة ملارمي تماماً، فضلاً عن أنها لا تعدو أن تكون صورة مصغرة لطبعة1914. طبعة ميتْسُو رُونا Mitsou Ronat وتيبُورْ بّابّ Tibor Papp هي الأفضلُ والأقربُ إلى فكرة ملارمي. لكن القصيدة تحتاج للطبعة المنتظَرة. «ولمَ لا ننجزُ طبعةً للقصيدة باللغتين؟» نطقت إيزابيلاّ. «ذلك يمكن أن يضيء شيئاً مَا في القصيدة» عقّب برنار.
. ٥ .
الكتابة والترجمة فعلان يلمعان في ممارستي الشعرية. الواحد منهما يحْمل الناقصَ إلى الآخر. بهذا الناقص أستمرّ في الإحساس بذبذبة كلمة تختفي أوْ لا أعثر عليها. لكنْ لا الأولى ولا الثانيةُ تتحقق من غير نداء. والكلمات التي تبادلناها، نحن الثلاثة، ذلكَ المساء، جعلت النداء متحققاً وهو يتوجه من القصيدة إلى نفْسي. ترجمةُ «رمية نرد» للمتعة بقدر ما هي للتعلّم. هذه القصيدة رافقتني في صمت الصحارى. ليلات ونهارات. وها هو النداء يُصيبني، في مراكش، مدينة الجميل والمقدّس. أقْبَلُ. نعَمي تُغريني وتُحدث الارتجاج.
. ٦ .
«رمية نرد»، بالنسبة لي، قصيدةٌ كُتبتْ دفعةً واحدةً. وهي انبثاقُ القوة التي تحرّر. كانت القصيدة واضحةً، مقيسةً، بأدق التفاصيل، في جسد الشاعر. نيران والتماعات. ها هو العنوان، الذي طالما حلُم الشاعر به، ينطلقُ، شذرةً شذرةً، موضوعاً بعناية أمامي.
في الكتاب، أداةٌ روحيّة أقرأ : «كلّ شيء، في العالم، يوجَد من أجل الوصول إلى كتَاب.»
«رمية نرد» إحدى أكبر قصيدتين لملارمي. إلى جانبها، هناك هيرُودْياد. لكنها الوحيدة التي كُتبت بسرعة ونُشرت ككل في حياة الشاعر الذي قام هو نفسُه بتصحيح تجاربها الطباعية. هي رميةُ نرده. نضجتْ عبر سنينَ من التأمل والقلق والفشل. قصيدةٌ تعلن عن الاستثناء في الشعر الغربي الحديث. قصيدتي أنا الآخر، المنحدر من تقليد شعري، يتوجه بدوره نحو« إعطاء معنىً أصْفَى لكلمات القبيلة». ويظل الشعر العربي بعيداً، بدونها، بعيداً جداً، عن فضاء فيه القصيدةُ تخط للفكر والشكل بدايةً جديدة. تذكّرني« رمية نرد»، على نحو آخر، بتجربة الفضاء في القصيدة الأندلسية التي تم نسيانُها. فضاء مختلف، حتى أقولَ إن مفهوم الفضاء كان قد غزَا هذه القصيدة، حوالي القرن الثاني عشر، في وقت كانت التقاليدُ الشعرية تعطي الامتياز للصوت، للزمن. إنه فضاء يستكشف التنويعات الممكنةَ للمعنى داخل القصيدة. والحداثة الشعرية العربية، التي تنسى هذه التجربة القديمة، لا تكْترث، أكثر من ذلك، بتجربة ملارمي. إنها الحداثة، التي انطلقت من ترجمة الشعر الكوني الحديث. ولا أفهم حقّاً لماذا ظل ملارمي مُهمَلاً. لماذا فضاء القصيدة، قصيدته، بامتياز، لم يعثرْ على إنصات في حركة بعيدة في طموحها. هي قضايا تظل لصيقةً ببحثي عن قصيدة وعن فكرة قصيدة.
. ٧ .
ترجمة من أجل إهداء هذه القصيدة إلى اللغة العربية. كان ملارمي، وهو يتعلّمُ الإنجليزية، أوْ وهو يكتب عن كشوفات شعراء زمنه في فرنسا، استدعى العبارة نفسها «أن نستعملَها ككُلّ ونهديَها أيضاً إلى اللغة». درْسُ ملارمي عليّ الاستفادةُ منه، في تجربة ترجمة «رمية نرد»، قصيدة أضلاعُها المتعددة مهيأة لاختلاف التأويل. معنًى ومعنى. معنًى ضد معنى. هذه هي« رمية نرد». لكن، أليست الترجمةُ فعلَ ظهور واختفاء؟ فعلاً مزدوجاً. فعلاً قاد مترجمين إلى الهلاك ؟ لستُ بمنأى عن الهلاك. لا شيءَ يمنحُني ضمانة. بلْ لاَ ضمانةَ مطلقاً. فأنْ تكتب أو تترجم تجربةٌ هي نفسها تجعلك وجهاً لوجه مع الفشل، رمية سيئة الحظ.
بحذر أتقدم. أمدّ اليد نحو الصفحة. دفترٌ جديد. بحجم كبير. ومربعات صغيرة. إنه شبيهٌ بالدفتر الذي أختاره للكتابة. أخط في الأعلى اسم ستيفان ملارمي. يلحقني شعور بأني أصبحتُ ملتزماً، من خلال هذه الحركة الافتتاحية. الدالة. إيحاء برنار يرجعُ إليّ. ربما تسمح الترجمة إلى العربية بإظهار ركْن من الأركان المخْتفية للقصيدة.
. ٨ .
أتقدم في العمل.
اليد، بتُؤدة، ترسم، تخطّ، تحت البصر الذي يلاحظ تحوّل وجْهة الكلمات. من اليمين إلى اليسار في الفرنسية يصبح من اليسار إلى اليمين. انعكاسُ مرايا الانطلاق الذي يعلن عن نفسه أخّاذاً. كلمةٌ أولى، رمية نرد، تخفق، تتنفّس، في العربية. رمية خفيفة. أفقـية. أوْ ريحٌ تهب على الصفحة. مُشاهدتي وأنا. صفحةٌ تستقبل الكلمة الأولى. ارتعاشةٌ. هل أنا الذي أترجم؟ هل الطرفُ الآخر من العنوان مَا يلمع؟
أيامٌ. هواءُ الصباح المنعش. كتابةٌ وترجمة. كل مرة أترجم قصيدةً، تستولي عليّ الملاحظة نفسُها. هشاشةُ الكلمات أو الحرصُ على ما يجب الحرصُ عليه. هما معاً يتجاوبان بدون هوادة. أبحث بلبَاقة، في الذاكرة أو في المعاجم. اشتقاق كلمات. ينضاف النحو إلى الصرف. أضيعُ لكي أعثر على نفسي، في الوقت المناسب. بانتباه. دائماً، عليّ احترامُ معنى الكلمات في القصيدة. احترامُ البنيات المخصوصة للغة. بدون إضافةٍ ما أمكن. هنا ملارمي يدقّق، من غير خلْط، يقْطع، ينغّم، يرقص. مُشاهدةٌ، مُشاهدتي، تُنصت إلى سمفونية، تتجلّى عبر التمسرح، تتقاطع مع الغَوْر. حركةٌ ثقيلة للجسد في أول الأمر، تعْبر الأبيض. صحراءُ مسكونة بصمت يحترمه السطر، يرفض الخضوع لكلمة أو لجزء من الصورة. الحياة بقوة تردّ أيَّ انتظار، مهما كان، تطفو وتلتحقُ بالصفحة. تستمرّ، اليد.
. ٩ .
قراءةٌ بصوت مرتفع. ملاحظةٌ في الهامش. تشطيبٌ. كتابةُ البيت ثانيةً من طرف آخر. من دون عجَلة ولا تعب. هي الترجمةُ نسكيةٌ نتعلّمُها. هنا، يلتحق المترجم بالصمت، يخترع أبعاداً أخرى لـ«نعم» و«لا». يسائل الرضَى بالشك، يضاعف التفكير في اختيار يجب أن يُحذَف، يجمع الإمكانيات، يحْسم ويستمر.
. ٠١ .
الأصدقاءُ الشعراءُ العارفون أيضاً. إنها بدايةُ الصيف والشهر الأول من الخريف. عبد المجيد بنجلون، عبد الوهاب المؤدب، مصطفى النيسابوري. بين الرباط وطنجة والدار البيضاء. دعواتٌ لأن أتقاسم، مع كل واحد من الأصدقاء الثلاثة، المتعةَ والتعلّم. كلمتي المأخوذةُ بالحوار، المهمومةُ بالمستحيل في القصيدة وفي الترجمة، كانت تُفضي بأسرارها. قراءات منتبهةٌ من لغة إلى معنى. من ملارمي إلى ملارمي. والآن« رمية نرد» في صيغتها العربية، الأولى. تدقيقاتٌ توجّه الترجمةَ نحو احترام الضئيل. أنصتُ، أعرضُ المسار، أنوّعُ التعابير، أتجنّب الالتباس. والجلساتُ كانت تجعلني سعيداً بأخوّة شعرية كريمة.
. ١١ .
كلمةُHasard. في عنوان القصيدة Un coup de Dés jamais abolira le Hasard. ينبّهني عبد الوهاب المؤدب على الأصل الأندلسي لاشتقاق الكلمة الفرنسية من كلمة الزهر Az-zahr. بيرْتْران مَارْشَال كان نصّ على اشتقاق الكلمة دون أن يشير إلى أصلها العربي في اللهجة الأندلسية. وفي تذييله لكتاب «تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا»:
Histoire de l L Islam et des Musulmans en France ،
تابع عبد الوهاب باختصار ذلك المسار الذي قطعته الكلمةُ قبل الوصول إلى الفرنسية.
معطًى جديد لا يمكن التكهُّن بنتائجه.
أنصتُ، أسجّل، أقرأ.
. 12 .
أستأنفُ البحث. معاجم وتاريخ الكلمات العربية في الفرنسية. المعاجم العربية لا تتوافق وتاريخ اللغة العربية. لتكُنْ هذه الملاحظةُ واضحةً. كان العرب وضعوا معاجمهم بالاعتماد على اللغة المتداولة حتى القرن الثامن الميلادي. لغة الشعر الجاهلي، لغة القرآن، والخطاب المرتبط بالعهد الأول من الإسلام. كان الهدف هو المحافظة على القديم من أجل فهْم القرآن وخدمة قرائه والمقبلين على تعلمه. ومهما كانت كلمة «الزهْر» قديمة، معناها الزهرة في الجمع، فهي عرفت توسعاً دلالياً في اللهجة الأندلسية، معه أصبحت تدل على رمية النرد. من هنا اشتقاق كلمة Hasard . كتب عبد الوهاب المؤدب :
«لأن أحد وجُوه هذا المكعّب كانت فوقه زهرةٌ، فقد أعطى في اللهجات المغاربية كنايةً أخرى لربما كان المهاجرون الأندلسيون مصدرَها، حيث الزهر له معنى «الحظ» في كلامنا. وقد كنّا نعلم عن يقين أن «رمية نرد أبداً لن تبطل الزهر» تبني لغزها على نسيان الاشتقاق العربي الذي كان معترفاً به تماماً عند استعمال الكلمة في القرون الوسطى.»
ثم جاء في المعجم الفرنسي لوروبير Le Robert، وهو يؤكد الأخذ من العربية، أن الكلمة «اسم للعبة نرد مستعمل في القرون الوسطى؛ رمية سعيدة لهذه اللعبة(الستة).»
لا شيء يخضع للصدفة. سعيدةٌ هذه الرمية. ستة.
أتبنّى الكلمة. انزلاق في النطق، ثم شكْلُ الكلمة يصبح متناغماً مع العربية الثقافية، المكتوبة في زمننا.
هناك ما لا نفكر فيه. الكلمة الثانية من عنوان القصيدة. «نرد». لعبة، شرقية، فارسية.
. 13 .
تجربةٌ طباعية أولى للتصفيف والإخراج. مرة أخرى، صديقٌ، أستاذٌ للمعلوميات في طنجة. طارق السليكي. يقبل المغامرة. ننهمك في قياس الفضاء. اختيار الحروف. مواجهة العوائق. يغلق طارق على نفسه في المكتب. أراقب، وأنا بجانبه، أُبْدي ملاحظات عن الفضاء والعلاقة بين الصفحتين مما يسمح برؤية الصفحة المزدوجة كأساس للقراءة. من يوم ليوم، يتضح التصوّر. تنفتح العربيةُ، كسُلّم خفي يؤدي إلى سماء ذات نجوم، باتجاه الكوكبة. وكان بإمكاني، بعد شهر، أن أرى القصيدة تأخذ شكل سفينة تتحرك، تتقدّم في مياه المحيط. المحيط الأطلسي على مقربة من أيدينا، ومن مشاهدتنا أيضاً. أتخيل مغامرة القصيدة بما هي رحيلٌ للشيخ إلى حيث الأقصى في الأمكنة كلها. الأقصى أو المطلق. سيان. والحظ، الزهر، بصعوبة يعود. سفنٌ تصل الأندلس بطنجة. رائحة أزهار البرتقال تتفتّح بين طارق وبيني. مشاهدةٌ. صامتيْن، نحن الإثنين، نعاودُ المشاهدة. لاعبو النرد ليسوا بعيدين. إنهم في مقاهي السوق الداخل. والقصيدة تبْحر. حركة متّزنةٌ توجّه الصفحات.
. 14 .
التجربة الطباعية الأولى بين أيدينا. الترجمة وإخراج الصفحة. هل أنا مقتنع؟ لا. هي المخاطرة. لمْ أحس في يوم من الأيام بمدَى القلق وأنا، في مواجهة هذه القصيدة، أترجم وأخرج الصفحة. لا وجود لحدود بين الفعلين. أنظر. متشككاً. بل خائفاً. جغرافيةٌ ترتسمُ أمامي. بالعربية،« رمية نرد» تقترح نفسها على قراءة، مختلفة، حروفاً وكلمات.
عليّ ألاّ أترددَ. إيزابيلاّ وبرنار ينتظران هذه التجربة الطباعية الأولى. واثق أنا فيهما، ثقةً لا تحدّ. نواقص بادية. معَ ذلك كنت حريصاً على أن ينظُرا معاً إلى التجربة الطباعية، أن يُلقيا نظرة، ثاقبة وفرحة. يكتب برنار :
«يُلقي بنا الزمانُ في المظهر، فيما الفضاءُ يضعنا في الواقع. [...] إنّ القصيدة الكلاسيكية كانت تقلد زمنيةً. هناك، في قصائد راسين الجميلة، وحدةُ المكان، الزمان، والحدث. وذلك يبعث على الحكاية. ليست هناك قصيدة بالمعنى الذي نعنيه اليوم قبل ملارمي. رمية نرد أبداً لن تبطل الزهر: أول قصيدة يتمّ فيها التعاملُ مع الفضاء، بما هو خالصٌ، في البياضات.»
أخذتُ قرارَ أنْ أبعثَ هذه التجربة الطباعية، بالبريد السريع. لا أعرف، بالضبط، لأيّ سبب وقعَ اختياري على السرعة. فأنْ أطْلعَ إيزابيلاّ وبرنار على هذه التجربة الطباعية بالعربية، بسرعة، لا يعني أنني غير مسؤول. مشاهدتهما كانت لازمةً لما سيأتي، للاّحق.
انتظارٌ في المحمدية..
. 15 .
متابعةُ الترجمة. «ملاحظة موصولة بقصيدة». كان ملارمي كتبها جواباً على طلب كُوسْمُوبّوليس، عن طريق أنْدري ليشْتَنْبيرْغ André Lichtenberg. هلْ يراقبني ملارمي؟ من الذي في الوراء يختفي؟
في مرحلة الشباب، كانت لغةُ الشعراء الفرنسيين، أمثال بودلير، فرلين، رامبو وملارمي، كل واحد حسب عصْيانه، حررتني من الخوف من العقاب، المرادف لتعليم الفرنسية في المدرسة العمومية.
نداء القصيدة يصاحبني، جُمَلٌ بالعربية تتوالَى. بتواضع يتقدم ملارمي، وهو يفكّر، يكثف شعرية قصيدته : «اليومَ، أو منْ غيْر حدسٍ بالمستقبل الذي سيُسْفرُ عنْهُ الحاضر».
. 16 .
إيزابيلاّ وبرنار يبعثان لي بردّ فعْلهما : العربيةُ قابلةٌ باستقبال« رمية نرد». محاولةٌ تترك الضوء، هادئاً، ينفذ، من أفُق آخر، إلى القصيدة.
. 17 .
ما يبقى عمله صعبٌ، صعبٌ للغاية..
حوار بيننا، نحن الثلاثة، عن طريق البريد الإلكتروني. شهور الخريف تتتابع. إشراقاتٌ من برنار. معلوماتٌ ثمينةٌ من إيزابيلاّ عن القصيدة وعن طبعها.
أخبر طارق. للأسف، يتطلب استئنافُ التصفيف وإخراجُ الصفحات القرب. اسمحْ لي، أيها الصديق العزيز. العملُ في بدايته وهو يفرض عليّ أن أظل قريباً من التنفيذ. المعلّم هشام الشنتاف، هنا في الدار البيضاء، مستعد لتيْسير المهمة. تعاونُك كان رائعاً للغاية. مع تقديري الكبير.
استيقظت ذات صباح جميل. سماء زرقاء. فكرة مجنونة. أجلْ. ولمَ لا ؟ أطلب من أصدقاء مساعدتي في العثور على ترجمات القصيدة إلى لغاتهم. خْوان خيلمان في الإسبانية، نينو جُوديس وكازيميرو دي بْريطو في البرتغالية، جْواكيم سارْتوريوس ومحمد أهروبا في الألمانية، بّييرْ جوريس في الإنجليزية، ريُوكو سيكيغُوشي في اليابانية. لغات، يجمع تعددُها بين الغرب والشرق، قد تسمح لي بالمقارنة، بالاقتراب من رؤية كونيّة لقصيدة رمية نرد. إنها سعادة هذه القصيدة. ذلك ما يعضّد الصداقة بين الشعراء ويؤكد التعلّم.
إعادة قراءة بعض نصوص ملارمي. إعادة قراءة الترجمة. تشطيبٌ، تغييرٌ، ضبطُ الاختيارات، الحسم ؟ لا. في الدار البيضاء، تجربة طباعية جديدة بحرفين مختلفين. هشام وأنا نناقش التفاصيل، قبل الاختيار.
هامش : ملارمي لعبة «النرْد» وكلمة «الزهر». ملارمي، رواية الواثق لبيكفورد وألف ليلة وليلة. هو ذا الذي ينادي عليّ الآن. وغير بعيد على الإطلاق. إدغار ألن بو.
هامش : الانتقال إلى باريس. أكونُ في عين المكان لأشاهد التجارب الطباعية المصحّحة بخط يد ملارمي، ولأتناقشَ عن قرب مع إيزابيلاّ وبرنار. كتبٌ تنقصني أيضاً.
. 18 .
نهاية يناير 2007
بعد الظهر في باريس. سماء رمادية وبقايا الأخضر في بعض الأشجار. الأرض مغطاة بأوراق مبلّلة. أبطئُ الخُطى وأنا أدخل مكتبة دُوسي Doucet، يقودني إيفْ بّييْري Yves Peyré. مهيبةٌ هذه الشقة، في ساحة البّونتيون. مهيبةٌ وباعثة على الارْتجاج. أخيراً، سأشاهد إحدى التجارب الطباعية للقصيدة. هل للزمن أنْ يتوقف ؟
فوق المكتب، العريض، من خشب قديم، وُضعت التجربةُ الطباعية. تم إخراجُها من عُلبتها. حجم كبير. 29.5 على 38.5 سم. أنظر قبل أنْ أفتح. صمتٌ. حركةُ اليدين هواءٌ يحرك الصفحة منْ غير أن يلمسها. لا أرغب في لمس هذه الصفحات. وأشاهد : قصيدةٌ، عنوانٌ واسمٌ. حروفُ ديدو Didot، العـزيزةُ على الشيخ.
كتب ملارمي من فالْفَان، يوم الجمعة 14 ماي 1897، جواباً إلى أندري جيد على رسالته الواصلة من فلورنسا : «إن القصيدة تُطبَعُ، في هذه اللحظة، كما تصوّرْتُها؛ وفيما يخص ترتيبَ الكلمات في الصفحة، فهناك التأثيرُ كله. كلمة ما، بحروف ذات أحجام كبيرة تسيْطر، لوحدها، على كامل صفحة بالأبيض وأظن أنني متأكد من التأثير.»
تجربتي الطباعية التي أتيتُ بها من المغرب مفتوحة. دفتر صغير للملاحظات حيوان، يشاهدُ، كما أنَا أشاهد. أخْذُ القياسات قبل كل شيء. تصحيحات ملارمي باللونين، الأحمر والرصاصي. علامات داخلية وخارجية. أواصل النقل. ملارمي جالس. ظهْرُه ينْحني حتى يكتب التوجيهات. حانقٌ إلى حد ما. يدُه تصرخ.
لا أنسى الطبعة الشهيرة لميتْسُو رُونَا وتيبُور بّابّ.
اليوم التالي، صباحاً، في المكتبة الوطنية الفرنسية. مصحوباً بإيزابيلاّ. هبوطٌ نحو الغوْر. عبرْنا بابلَ المؤلفات هذه، هذا الشعبَ القارئ القادمَ من هنا وهناك. مكانٌ أفقي، فيه الصمت وحده ينطق. في الطابق الأول بابٌ عليْك أن تفتحها. قاعة للقراءة، قليلة الارتفاع من الأرض، شبهُ معلّقة في فراغ. صمتٌ مكثّف. ما يحضر هنا هي المخطوطات والوثائق النادرة. أنا قادم من بعيد، من بلد نسي لمدة قرون وجودَ عالم خارجَ حدوده. أبحث بصعوبة عن توازُني، أنا القادم من البعيد الأبعد، يصحبُني حلمُ أن أترجم ذات يوم «رمية نرد».
تجربة طباعية للقصيدة (الثانيةُ في الترميم). اللمسُ ممنوعٌ بتاتاً. لا، يا سيدتي، لا تخشيْ، هذه الوثيقة أغلى علينا نحن الإثنين، إيزابيلاّ وأنا. نفتح ونشاهدُ. ألَـمُ أن نرى ملارمي يدوّن ويدوّن توجيهاته. قلم مداد وقلم أحمر. هل المطبعي (وهو يجيب بقلم أزرق : «ليس لدينا شيء أقوى من نفس العائلة.») غاضب، ثائر أم مجرد عاجز؟
في تجربتي الطباعية بالعربية أخطّ الملاحظات. القياسُ والهوامش دائماً. واحدة فواحدة. توضح إيزابيلاّ : «يستعمل ملارمي هنا كلمة لعبة jeu ليقول نوعَ حرف المطبعة.» هي متمكّنة بمهارة من التقنية، لكنها أيضاً متآلفة مع المعجم الذي يستعمله ملارمي. نشاهدُ ثلاثة رسوم لأوديلُونْ رُودونْ Odilon Redon، كان طلبها منه الناشر أمْبروَازْ فُولاَر Ambroise Vollard. لكن، ماذا عن تعيين مكان كلّ رسْم منَ الرسُوم في التركيب النهائي؟
. 19 .
أمامة، زوجتي، إيزابيلاّ، برنار، وأنا، في مُورْني Mauregny. بيتٌ عتيقٌ في قرية كلّها اخضرار. سماء رمادية تحيط بنا. أفقُنا هو القصيدة. معزولين، لوحْدنا، قرأنا القصيدة باللغتين. تدقيقات في التفاصيل. تعدّدُ القراءات يضيءُ القصيدة. كلُّ واحد يقترح تأويلات. كلمات، تراكيب أو سطور. ذهاب وإياب يتركاني يقظاً. كنّا ننتقل من القصيدة إلى حدَث، من القصيدة إلى ثقافَة، من القصيدة إلى رؤيَة. مناقشاتنا كلُّها كانت تنجذب نحو اللانهائي الذي تمثله القصيدة.
في لحظة معينة، طرحتْ كلمتي اللامفكرَ العربي.الشرقي في هذه القصيدة، التي أحافظ لها على موقع الاستثناء. «شيءٌ جيد أن تكتبَ، قال لي برنار، ما تفكّر فيه. فالتأويلات المقدمة، حتى الآن، غربيّة، وقراءةٌ تنطلق من الثقافة العربية.الشرقية، تنقصُنا.» هذه الخلاصة شبيهةٌ بتلك التي قدمها لي إيفْ بّييْري، أثناء حديثنا في مكتبه.
عملٌ سردابيّ. خُطاطة للكتَاب، باللغتين.
ألف شكر لأصدقائي. استضافتهُم وكرمُهم يشعراني بالراحة.
. 20 .
تعرف القصيدة الآن، بين المحمدية والدار البيضاء، مرحلتَها الحاسمة. أنا في حالة جنون. «رمية نرد» تتحكم في وقتي، في حواسّي ومعرفتي. تختلط الليلات والنهارات. مؤلفات، وثائق، ملاحظات. دفتر السفر الصغير لا يفارقني. عملٌ لا يتوقف.
. 21 .
يصعب أن أقرأ «رمية نرد» من غير التفكير في الكتاب، الذي نعثر على أحد تحديداته سنة1885، في رسالة التعريف الشخصي التي بعث بها ملارمي إلى صديقه فرلين : «كتاب [عليه أن] يكون كتاباً، معمارياً ومقصوداً، وليس ديواناً لإلهامات الصدفة، مهما كانت عجيبة... سأذهب أبعد، سأقول : الكتاب، متيقّناً أن ليس هناك في العمق إلا واحدٌ، حاوَل كتابته كلُّ شخص مَا في غفلة عنه، حتّى العباقرة. التفسير الأرفيوسي للأرض، هو الواجبُ الوحيدُ للشاعر واللعبةُ الأدبيةُ بامتياز: لأن الإيقاع نفسه للكتَاب، عندئذ لا شخصيّ وحيّ، حتى في توزيع صفحاته، يتجاورُ مَعَ مُعادَلات هذا الحلم أو أغنية.»
هنا المعمارُ والقصديةُ يتكاملان في سرَيانِ إيقاع من القصيدة إلى إخراج صفحاتها. محاضرات، مقالات، رسائل والملاحظة. مجموعة من نصوص ملارمي تكوّن شعريةً للقصيدة. من ثم فإن الترجمة وإخراج الصفحات لهما بالضرورة حاجةٌ لرؤية القصيدة رؤيةً شاملة. شموليةُ الرؤية هي ما لا يمكن اجتنابُه في الترجمة وفي إخراج الصفحة. أقرأ أيضاً بول فاليري :
«لا أعتقد أنه يجب اعتبارُ تركيب رمية نرد كما لو تمّ في عمليتين متتاليتين : الواحدة تنصبُّ على كتابة قصيدة بالطريقة الاعتيادية؛ والأخرى تعطي الوضعَ الملائم لهذا النص الذي تم [في الكتابة] بصفة نهائية. محاولة ملارمي [...] تأخذ مكانها في وقت التصوُّر، هي طريقة التصوُّر.»
. ٢٢ .
بالتّزامُن ينطلق عملُ التصفيف من جديد..
هشام وأنا، ننتقل إلى اختيار الحروف، التي لها، في آن، أن تستجيبَ للطابع اللاّشخصيّ ولمعادلة قياس الصفحة والفضاءات. لقد سبق لميتْسُو رُونَا أن اكتشفت العدد الذي هو قاعدة بناء القصيدة. إنه العدد «اثنا عشر» في حالاته المجتمعة. عدد يشمل مقاطعَ البحر الإسكندري وحجْمَ الحرف. ثم له استعداد الضرب (أو القسمة) إلى اثنين. كتبت ميتْسُو رُونَا :
«إن الجملة.الرحِم رمية نرد مصففةٌ بحجم 60، وكلمةَ قصيدة الموجودة في الصفحة الأولى بحجم 36 واسمَ ملارمي، كله مثل كما لو أنْ كان العددُ ... بحجم 24.» وتضيف : «إن بقيةَ النص مطبوعةٌ بحجم 16، والسليلَ النجميّ بحجم 10 على الأقل حسب القياسات [الطباعية] الحديثة.»
هل لبناء القصيدة في العربية أن يتخذ نفس العدد ويخضع له ؟ فاجأني السؤال في اللحظة التي وجدتُ صعوبة في تبنّي العدد «اثنا عشر»، «(العدد الوحيد الذي لا يمكنُ أن يكونَ آخر»). السؤال سعادة. فهو يجنّبنا الاعتقادَ في الحقيقة المطلقة. هذه الحادثة ذات دلالة. حادثة الترجمة. حادثة الحوار بين نسقين ثقافيين مختلفين. والاعتراف بالاختلاف يضعُنَا على الطريق الصحيح.
تكتب إيزابيلاّ : «إنْ كان الأمر يتعلق بـ»صرامة« الطباعة، فإن الطباعة لم تعد مجرد وسيلة ولكن «وسيلة من أجل أن تُظهر» عن طريق المرئي «الإيقاعات المباشرةَ للفكر الذي ينظّم العروض». مهموماً، أواصل، من غير يأس.
من محاولة لأخرى، انبعثَ من العربية عدد جديد. شعاع وحيد. إنه «ستة عشر» في حرف الياسمين. عددٌ يلائم شكل الورقة (28 على 38 سم). الأحجام الأخرى تتلاءم، بيُسْر. بإضافة أربع نقط لكل حجم من أحجام الحرف الفرنسي، نقع على الحجم العربي المماثل. إذن، أربعة أحجام محددة :20، 28، 40، 64 والخامس، العدد 10 غير المؤكد في الفرنسية، هو 14 في العربية. أتفهم جيداً شكوك ميتْسُو رُونَا.
لكن اللغة ليست وحدها الحروفَ وأحجامَها. هناك، من ناحية، خصوصيةُ كتابة الحروف، ومن ناحية ثانية، طبيعةُ اقتصاد الكلمات وتركيب الجمل. لذلك فإن كثيراً من الخصائص، التي يصعب التغاضي عنها، تبدّت للعيان، دفعةً واحدة، في هذه القصيدة المبنيّة على قياس مفكر فيه بعناية فائقة، وهي تلائم بين عنصر وعنصر. بناء له معمار شامل. مسرح، موسيقى، رسم.
كتب ملارمي :
«والفرقُ في أحجام حروف المطبعة بين الحجْم الرئيس الغَالب، ثانويٍّ والـمُتَاخمة، يفرض أهميةً عند الإرسال الشفويِّ والمُدَرَّجُ، الأوسَطُ، أعلى، أسفلَ الصفحة، سيضعُ علامةً على أن نبرةَ الصوت ترتفع أو تنخفض.»
. 23 .
تفكيرٌ. مراجعةُ مؤلفات حديثة وقديمة. مخطوطات. أعمال الخط الحديث بالعربية لعرب وإيرانيين وأتراك. كنت أمضي ساعات أشاهد. مبتغاي هو التوصلُ إلى إعطاء شكل صائب لحلم ملارمي بالعربية، لا أخونه. أقبل على مراجعة ترجمات القصيدة في لغات أخرى، أصبحت متوفراً عليها بفضل الأصدقاء، فإذا بي أجد من المستحيل تصديق ما أشاهد. أغلب الطبعات في اللغات الغربية تأخذ طبعة البّليَاد، أو طبعة 1914، نموذجاً لها.
أسمع ملارمي يُفضي إليّ بسره : «لو كنتُ كتبتُ هذه القصيدةَ بالعربية لكنتُ اخترت قياسات أستخلصُها من خصائص العروض العربي نفسه ومن اقتصاده.»
أقرر. واجبُ تقليص الفوارق، مع احترام التناغم كمبدأ للبناء. شكل الصفحة سليم. الأبيض والأسود. الخط المائل. الهوامش.
انظُروا إلى القصيدة، في هذه الطبعة، بالعربية والفرنسية.
. 24 .
وحدة فضائيةٌ، صفحةٌ مزدوجة. والأبيض الذي «يثير». سيمفونيةٌ تتخلّى عن العروض العربي. لا وجود لأيّ وزن شعريّ. ثمة بالأحرى بحثٌ، محفوفٌ بالمخاطرة، عن إيقاع يخترق اللغة. هواءُ الأبيض يترك الكلمات في حالة شطح.
تنظّم الثنيّةُ الكتابَ. فهي تترك الصفحات المزدوجة تتوالَى، كما تتوالى مشاهدُ رقْصَة البالي. ويستدعي الأبيضُ، وهو ينشئ أقساطَ الصمت غيرَ المتكافئة، المشاهدةَ لتتوه، لتعيش تجربة الصحارى الداخلية.
يكتب برنار: «الفضاء بيْتُ المعنى»..
قصيدة هوائية. تعيّن الصفحةُ المزدوجةُ حوافَّ يتبع فيها الخطُّ حركةَ الهواء. من الغرب إلى الشرق. هنا الحجمُ يلمّ هناك ينمّي، باختصار، على الدوام. أجسادٌ تعلو. مدى الأبيات يخترق النهائي، النهاية. بداية جديدة لقصيدة وبداية جديدة لرؤية. تدفعُ النظرة الإيقاعَ لينتقلَ من الحكْي إلى الغناء، من الغناءِ إلى الحكْي. بالتكثيف تثبت القصيدةُ. لا شخصيةً.
أبحث عن طريقة لنحْت الكلمات. لتعديل الأصوات. كلماتٌ عتيقةٌ تعثر على نفسها في حركة هذا الجسد. الطائر.
كنت أعتبر الشاعر دائماً كمعلّم صانع، يراكم الصنعة بقصد أن يسْموَ بقيمة «الشيء». لكنه معلّم صانع من نوع خاص. يتسلّم ويُسلّم حسب قاعدته الشخصية. هي قاعدة المتفرد. هنا، الصانع، من خلال استعماله، الذي هو له، «يبعثر» القاعدةَ المتوارثةَ، يدعو القارئَ إلى«ما يكفي، لفتح العينين».
فتْحُ العينين لمشاهدة الأبيات العتيقة مبعثرةً فوق الصفحة، بعد أن أدمج الشاعر فيها كلاّ من قصيدة النثر والشعر الحر، دون أن يكون البيتُ لا هذه ولا ذاك. جديد هو هذا البيت، منعشٌ، مرحٌ، شاطح.
أقرأ جاك ديريدا :
«آه، الدورةُ ! لنَـبُحْ بهَا. أحبُّ بألف طريقة صورةَ الخزّاف، فنَّه، دورات مَنْ يصنع فوق آلته الخزفَ كقلعة وهو ينحته، يضعُهُ في قالَب لكنْ دون أن يُخضعَ نفْسَه أو يخضعَهُ، للحركة الدورانية الآلية، وهو يبقَى حُراً ما أمكن بالنظر إلى الدوران، لاعباً بكل جسده، وبقدميه وبيديه بالآلة، يرعى فنّ نحّات لكن أيضاً فنّ مهندس معماريٍّ ومؤلف موسيقيٍّ يُخضع المادةَ أو يمنحُهَا مستويات من العُلوّ، مستويات من اللون والدرجات، تنويعات الإيقاع، تسريع أو إبطاء في فضاء مسموع في النهاية مثلما نسمعُ نوعاً من الانتقال الموسيقي أو كلام سرّيّ. لأنه نحات أو مهندس معماري، هو الخزّاف بدوره مرة تلو المرة، شاعر أو موسيقي، بليغ أو خطيب سياسي، بل هو فيلسوف. نهاية البوح.»
شاهدٌ أنا على المشهد في فاس،1988.
. 25 .
مُركِّب الجملة Le syntaxier. هذه الكلمة مرادفةٌ لملارمي. هي ضِعْفُه. لا يتعلق الأمر باختزال ما جاء به الشاعر إلى تركيب نحوي للجملة بل الأمر أن نضع التركيب، تركيبَه، في مستوى منهجيته. عملٌ يأخذ شكله في اشتغال الصانع على التركيب.
وصفٌ لهذه المنهجية يؤثر في نفسي. ذلك ما يكشف عنه ملارمي لموريس غيومُون Maurice Guillement :
«ثمة في فرسايْ خشبٌ منقوشٌ بزخارف نباتية ملتفّة كالأغصان، جميلة إلى حد أنها تبعث على البكاء، صدفاتٌ، طياتٌ حلزونية، خطوطٌ منحنية، تكريرُ رسْمات. كذلك في البدء تبدو لي الجملةُ التي ألقي بها على الورقة، في رسم إجمالي، أراجعها فيما بعد، أنقّيها، أختزلها، أركّبُ عناصرها. إن نحنُ خضعنا لدعوة الفضاء الكبير الأبيض المتروك عن قصد في أعلى الصفحة كوسيلة للفصل عن كل شيء، عما قرئ من قبلُ في مكان آخر، إن نحنُ وصلنا بروح عذراء، جديدة، فسندرك عندئذ أني مركِّب للجملة على نحو عميق ودقيق، أن كتابتي مجردة من الغموض، وأن جملتي هي ما يجب أن يكون ويكون على الدوام...»
تعود هذه الحالة، مما يجبُ أن يكونَ ويكونَ على الدوام، إلى الجملة الملارمية، في الفرنسية، وفي لغات أخرى. والعربية أصبحت الآن من هذه اللغات. هنا، في رمية نرد، يوجّه التوقفُ الجملةَ والإيجازُ المكتوبَ نحو سمفونيته الشخصية.
تعثرُ عربيةُ الشعراء في هذه المنهجية على نفسها بدون عناء. الحذفُ هو كلمة السر. كان الحذفُ، منذ الشعر الجاهلي، إمضاءَ كل شاعر يستحق هذه التسمية. أبو تمام ممثّلها البارع. فالجملة في رمية نرد، بالعربية، تتوقف. يستمرّ النفَس في سبيله.
. 26 .
أخفف من روْعي أمام العَروض، عديم الأثر. بناءُ الجملة ينحلّ. تستأنف الكلمات رحيلها، بعلامات، شيئاً فشيئاً، تتبع مجرى القصيدة.
. 27 .
قصائد في قصيدة. قصيدة متشذّرة. هذا التقسيم لأجزاء القصيدة، التشذّر، يذكّرني بالمعَلّقَة العربية، القصيدة الجاهـلية، التي أصبحت معرّضة لقلة الاعتبار (تُنتـقَد بلا هوادة) من طرف الحديثين الذين يتباكون لعدم تطابق القصيدة العربية مع الملحمة، القصيدة الطويلة، ذات الموضوع الواحد.
أقرأ إدغار ألن بو :
«فيما يخص الإلياذة، لدينا، بسبب غياب دليل إثبات، مجموعة من الحجج الجيدة للاعتقاد بأنها كانت كُتبتْ كسلسلة من القصائد الغنائية؛ ولكن إن نحن كُنّا لا نعتبر سوى أن القصد ملحمي، فلن يبقى لي إلا أن أصرّح بأن العمل مؤسسٌ على معنى ناقص للفن. ليست الملحمةُ الحديثة سوى تقليد بدون رويّة وأعمى لما نعتقد أنه كان النموذج القديم. لكن عهد هذه النواقص الفنية قد مضى. وإنْ حدث أن كانت قصيدةٌ طويلةٌ، في السابق، شعبيةً، وهو ما أشك فيه، فإنه لمن الواضح على الأقل أنّ أيّ قصيدة طويلة لن تكون أبداً شعبيةً من جديد.»
أقرأ ملارمي :
«مع ذلك، بقدر ما سأمضي، بقدر ما سأكون وفياً لهذه الأفكار الصارمة التي تركها لي معلّمي الكبير إدغار ألن بّو.»
. 28 .
أعيد قراءة «رمية نرد» بما هي معلقةُ ملارمي في زمننا. لنفسي أقول : أتفْهمينَني؟
. 29 .
أتقدم بهذه الفرضية : «رمية نرد» جزءٌ من الكتاب الذي لا نرى بعْدُ أطرافَه. هذه الفرضية جاءتني، وأنا أقرأ بعض التأويلات الفرنسية التي تبين لي فيها أن القصيدة لا تعثر تماماً على قيمتها السابقة على كل قيمة.
أعطي أمثلة :
يلاحظ موريس بلانشو، في قراءته التي خص بها الكرّاسات Carnets للشاعر جوزيف جوبير (1754.1824) Joseph Joubert، من خلال دراسته عن جوبير والفضاء، مقتدياً خطى جورج بّولي Georges Poulet «يحْدُث كأنّ صوت ملارمي، في جُملة وجملة مَا من الكراسات، هوَ ما نتخيّل سماعَه.» ويؤكد بيرتْران مَارْشَال، في«الهامش» الذي خص به القصيدة، أن «رمية نرد هي، بطريقة ما، الصيغةُ النهائيةُ لقصيدة إيجيتور، التي كان من المفروض أن يأخذ جزؤُها الثالث عنوانَ «رمية النرد». لكنْ إذا كانت إيجيتور تستدعي «الروح الخالصة» لدُوفينيي، فإن رمية نرد تذكر بقصيدة «الزجاجة الملقاة في البحر»، مع اختلاف هو أن قطعتي النرد، في التحدي الأخير لغريق تغمره الأمواج، تأخذ مكانَ الزجاجة التي تحمل رسالة الروح». وبالنسبة لميشيل مُورَا Michel Murat، في كتابه رمية نرد ملارمي Le coup de dés de Mallarmé، يحضر هاملت شكسبير : «إنه إنسان كامل يتزيّن بصفة صورة «صبيانية»، هاملت مزيف كما ستكون هناك لاحقاً «دَارةٌ وهميّة». ويمكن لكلمة «أبكم» أن تصف المشْهَد، الذي هو نوع من السلوك المضحك. أما بالنسبة للضحك فهو يتم، في القوة الكاملة لهذه الكلمة، لأنه من المستحيل أن نربطه بكلمة موجِّهة [...] فهذا الهرير يستولي، بأثر رجعي، على الممثل كما على المشاهد للمشهد الهزلي.يلبس طاقيةً ليتزيّن بها، في حالة نفْس معجبة ببطولة رومانسية، بفكرة أن يكونَ هامْلت».
لا أعترض على الواحد ولا على الآخر. ما أقصده يوجد في مكان بعيد. كلُّ عمل أدبي خزّانُ أعمال أخرى. لكن هذه المرجعيات المختارة، في النماذج المستشهد بها أعلاه، لا تشير بأي حال إلى الثقافة الشرقية.العربية في القصيدة.
أمامي هدَفان ظل ملارمي ملتصقاً بهما :
«التفسير الأورفيوسي للأرض، هو الواجبُ الوحيدُ للشاعر واللعبةُ الأدبيةُ بامتياز»؛
«إن الوعي، الذي تغْمُرهُ الظلالُ، يستيقظ، بتؤدة، وهو يشكّل إنساناً جديداً، وله أن يعثرَ على حُلمي بعد خلْق هذا الأخير. سيستمر ذلك لسنوات عليّ أن أعيش خلالها من جديد حياةَ الإنسانية منذ طفولتها وهي تصل إلى الوعي بذاتها.»
هدفان يشمَان القصيدة. ويحثني هذا على قراءتها في منظور أوسع، أيْ في منظور تاريخ الأعمال الكبرى للأدب الإنساني. نحن، مع «رمية نرد»، وجهاً لوجه مع عمل يقفُ في نفس مستوى ارتفاع ملحمة جلجامش والأوديسا والمعلقات وألف ليلة وليلة والكوميديا الإلهية. عمَلٌ يُعيد، رأساً على عقب، بناءَ رؤية الحياة والموت، رؤيةَ المصير الإنساني في زمننا الحديث، ويستكشف اللانهائي والمستحيل.
لستُ المفسّر، لكنني المترجم المنصت إلى القصيدة، في لغتين، فرنسية وعربية.
أقرأ الشاعر البرازيلي هارُولْدُو دي كامْبّوس Haroldo de Campos يؤكد أن ملارمي هو «دانتي العصر الصناعي». إذنْ، لستُ وحدي.
. 30 .
كان ملارمي، على امتداد حياته، يتهيأ، بتلك «اليد المتشنّجة»، ليقبض على أقاصي الحياة (والموت) الإنسانيـ(ين)، أقاصي المصير المشترك للكائن، من خلال آداب وثقافات وحضارات. فالشرق، الأبعد والأشد غموضاً، بما هو مجال ميتافيزيقي لأيّ غربي، حسب رولان بارط، موجود في كتابة الشاعر.
شرْقُ المراوح بين إسبانيا واليابان يبوح ملارمي بسـرّه مع صديقه إدوارْد ماني Edouard Manet في «عُروض». ويفسّرهُ إيفْ بّييري على النحو التالي :
«من إسبانيا حتى اليابان يرتسم مسارُ هذين «الأميّيْن اللذيذيْن» ماني وملارمي. والمراوح هي آخر هبَة، آخر حلْية بها تغتبط المرأة. يُظهرها ماني في بعض الصور الشخصية.بيرْتْ مُوريسُو Berthe Morisot بالمروحة، السيدة ذات المراوح (صورة شخصية لنينَا دُو كَالْيَاسْ Nina de Callias) -، يزينها ملارمي بقصائد (لزوجته، ابنته أو ميري لُورَان) أو، في أغلب الأحيان، برباعية فقط، بل في مناسبة واحدة ببيتَيْن (لميري لوران) هي مقاصد، صلة الجمال بالكلمة، والمرأة بالقصيدة، وهي ما سيكون عليه الحيوان، هـدية. تقف اليابان هناك دائماً، في أقرب مكان.»
أما هنري ميشُونيك فيصف، من جهته، نوعية الشرق الأقصى الذي أدخله ملارمي إلى قصيدته :
«إن قصْدَ ملارمي يبدو كأنه يتجه نحو ما يخرج على اللغة، أو يجمعه في اللغة، عندما يقترحُ كنموذج عملَ الرسّام، وخصوصاً رسّام الشرق الأقصى، ما دام [العمل] يُدمج البياضات كما يُدمج الكلامُ الصمتَ : «كلّ حُلمي! تقليلٌ من الصور إلى بعض أدلة معدودة كما (ستبْتسمُون) تقريباً خطّطها الرسمُ اليابانيّ التخميني.»
. 31 .
الثقافة اليابانية أرض الجنة، لكن الثقافة الشرقية أرضٌ أوسع. وبإمكانها أن تكون عربية.إسلامية.
ثمة كلمة «نرد» وكلمة «الزهر».
ثم رواية الواثق لبيكفورد. في «تقديم» هذا العمل (1876)، يصرح ملارمي : «هي ذي مغامرة أدبية نادرة، إن لم تكن وحيدة.» ولا يتردد في أن يكتب بأن هذه المغامرة الأدبية «سحرتْني» بقراءتها. ثم في مكان لاحق : «حسناً : هذه القصة، شيء أخر غير ألف ليلة وليلة ما هي؛ أو عندما تلمع في الواقع لمنْ هيَ إذن ؟» حالة السحر والتنصيص على ألف ليلة وليلة يستدعيان قراءة متأنية.
يحكي بيكفورد (بطريقته) في هذه الرواية عن حياة ومصير الخليفة العباسي الواثق، حفيد هارون الرشيد. في هذه الرواية، حسب ملارمي :
«تبدأ قصة الخليفة الواثق بالفعل من بُرج منه تُقرأ قبةُ السماء الزرقاء، لتنتهيَ في سرداب مسحور.»
. 32 .
تضع القراءة المتأنية الإصبع على العلامات، التي لا تنص عليها التفسيرات الفرنسية (كأقل ما يمكن القول)، وتدفع إلى الاعتقاد بأن العالم الشرقي لرواية الواثق مستثمَرٌ، عن بُعد أو عن قُرب، في «رمية نرد».
يكتب ملارمي في «تقديمـ»ــه :
«معمارٌ عظيمٌ للخرافة وتصوُّرُها لا يقل جمالاً. شيءٌ من المقدّر أو كأنه متلازم مع قانون متعجّل للسلطة كان مآله هبوط أمير إلى الجحيم، مصحوباً بمملكته.» أو : «عديدٌ من الأشياء الجديدة واللون المحلي، يرتمي الذوق الحديث فوقه عند الانتقال ليصنع، به، عربدةً، كما ستكون قليلةً، بحكم عظمة الرؤيات المفتوحة من طرف البطل؛ حيث مئة انطباع، أشد إثارة حتى من الطرائق، تنكشف بدورها.»
الأمير، الشيخ، العجوز، النجوم، قبة السماء، كوكبة النجوم، السر، الغور، المأساة.
كلمات عربية لا بد من تسجيلها : الله، إبليس، الجن، الخليفة، الحريم، الوزير.
. ٣٣ .
ألف ليلة وليلة، بدقة أكبر.
كان ملارمي متشبثاً بقراءة كتاب ألف ليلة وليلة في ترجمة أدبية وفية للأصل، بها يبتعد عن رؤية المستشرقين، عن ترجمة أنطوان غالان Antoine Galland.
في 17 ديسمبر ١٨٨١، أي خمس سنوات على كتابة تقديم كتاب الواثق، ثمة رسالة من تيُودُور دُو بَانْفيلThéodore de Banville إلى ملارمي يخبره فيها بأنه يبحث عن ناشر ينشر ترجمة جديدة لكتاب ألف ليلة وليلة، ولربما كان الفنان ماني كلّف بمهمة وضع رسوم للكتاب.
صدرت، بعد تسعة أشهر على هذه الرسالة، ترجمةٌ أدبيةٌ رفيعةٌ بالإنجليزية لكتاب ألف ليلة وليلة. نقرأ ما كتبه ملارمي عن هذه الترجمة التي أصدرها صديقه الإنجليزي جون بّيين John Payne في رسالة وجهها في تاريخ ٩ أكتوبر 1882 إلى المترجم جاء فيها :
«ألف ليلة وليلة فتنةٌ؛ ترجمتُك، روعة. أقصد روعةً حقيقيّةً، ضرباً من المعجز. إنها للقراءة في النص: نرى في كل جملة من جملها العلوّ المتفردَ للعرب البسطاء، الذي نقله الأصل نقلاً حرفياً. ثم، ثم، هناك صوتك، اللذيذ. لقد أضنيْتَ نفسك في كل شيء ببصيرتك الكاملة ولا يسعنا إلا أن ننحني، عند قراءة هامشك التمهيدي. لا أعرف إنْ كنتُ لا أعانقك أيضاً لكونك كتبتَ هذا الكتاب بالإنجليزية على نحو رائق بقدر ما أعانقك لأجل عملك الضخم الذي سمح لك بمعرفة العربية.
طباعياً، عمل فني : آه! سأسرق منك حتماً، ذات يوم، في ركن ما، عنوانَك، الذي يمنحني فرحي. الغلافُ، حلم !
بحْـثُ ملارمي عن مترجم للكـتاب إلى الفرنسية لا ينـي يتأكّـد. والمريـدون، على غرار الشيخ. يبعث أوجـين لُوفيبـير Eugène Lefébure في 17 يونيو 1886 إلى ملارمي برسالة يذكر له فيها أنه عثر على محميّ سوري، أستاذ وشاعر، اسمه جَمَـاتي (؟) Jamati، يظن أنه صالح لإنجاز الترجمة. لكن الترجمة التي طال انتظارها لم تتحقق.
ألمْ يكنْ بحث ملارمي عن مترجم رفيع للكتاب ذا علاقة مباشرة بتفكيره في الكتاب وفي رمية نرد ؟ ألمْ يكن كاملَ الوعْي بأن عملاً أساسياً ينقصهُ لتغديةِ مشروعه؟ ألا تُخفي إشارتُه إلى العربية، في رسالته إلى جون بّيين، نوعاً من الندم على عدم معرفته بها ؟
. 34 .
يأتي اليوم الذي وعَد به صديقَه الإنجليزي..
في ١١ يوليوز 1892، نشر ملارمي في ذي نشْيُونَال أوبْسرفَرْ The National Observer مقالاً بعنوان «عُروض». كتب فيه :
«في عرض الكثرة الزائدة عن الحد للإنتاج العجيب الراهن، حيث تقدم الصحافةُ وسيلتَها بطريقة ذكية، ينتصر المفهومُ، في هذه الحالة، لشيء ما يكاد يكون نهائياً، يتبلور : كما قبل عهد، تسابقٌ نحو تأسيس القصيدة الشعبية الحديثة، على الأقل من قبيل ألف ليلة وليلة لا يُحْصَى عددُها : إذ الأغلبيةُ القارئةُ التي تمّ اختراعُها فجأةً ستنبهر.»
في ٣ يناير 1893، شاب فرنسي، قادم من الشرق الأوسط، يحضر لقاءات الثلاثاء في بيت ملارمي، الكائن بزنقة روما في باريس. الشاب اسمه جوزيف شارل مَارْدْرُوسْ Joseph Charles Mardrus. ولد في القاهرة في ١١ نوفمبر من سنة 1868. تابع تعليمه الأوّلي في القاهرة وتعليمه الثانوي والعالي في بيروت، حيث حصل في جامعة القديس يوسف على دكتوراة في الطب. وصلَ إلى باريس في نهاية 1892 للحصول على تصديق شهادة الدكتوراة.
لا أحدَ يعرف كيف هذا الشابُّ قصَدَ بيت ملارمي. هو ذا. إنه الآن هنا، قريباً من الشيخ. لربما كان في قدومه الأول يحمل بعض حكايات ألف ليلة وليلة مترجمة إلى الفرنسية بغاية تقديمها له. أتخيل ملارمي سعيداً بأن يرى شخصاً يتكلم العربية يأتي في النهاية لزيارته ويصبح، على امتداد سنتين، أحد أعضاء جماعة الثلاثاء. إنه مَنْ سيحقق حلمَ ملارمي بترجمة كتاب ألف ليلة وليلة في الفترة ما بين 1895 و1899. تمت الترجمة أثناء سفر الطبيب الشاب الولوع بالرحلات البحرية إلى الشرق الأقصى، الهند والجزر البولينيزية واليابان والصين والمحيط الهادي. رسالة من الشاب إلى ملارمي تدلّ على التواصل بينه وبين الشيخ. كتب في تاريخ 26 مايو 1897 إلى ملارمي : «قبل أن أغادر الجنة و«حدائقها الأرجوانية» أو، سعيدةً تترقرقُ حياتي منذ سنتيْن في الظل، متوحداً مع العمل.عملكم، الروح ! وبعيداً عن الاتصال بأروبا هذه الباطلة». رسالة ثانية تصل من المترجم الشاب إلى ملارمي في ٣ أبريل 1898.
لكننا لا يمكن أن نقتنع بأنّ هاتين الرسالتين هما اللّتان كانتَا بينهما. بلْ لم يفرح ملارمي بصدور الكتاب مطبوعاً. توفي قبل عودة مَارْدْرُوسْ إلى باريس، سنة 1898، حاملاً معه الترجمة الكاملة للكتاب. إهداءُ الجزء الأول إلى كل من ملارمي وفاليري دليلُ إخلاص المترجم الشاب لانتظار ملارمي. نوعية الترجمة الأدبية الرفيعة أعطت الكتابَ مكانةَ العمل الرائع. استقبلته الأوساط الأدبية والفنية الفرنسية كحدث أدبي استثنائي. مريدو زنقة رُوما حيّوْه بقدر كبير من الحماس، كما حيّاه شعراء التحديث. وقد كتب مُوكْلير أن قصائد ألف ليلة وليلة تُرجمت «بالطريقة نفسها التي ترجَم بها ملارمي قصائد بّو.»
ما الذي دار لخمس سنوات بين الشاب والشيخ ؟ ألم يترك ما دار بينهما أثره في كتابة «رمية نرد» مثلما ترك عمل ملارمي أثره في ترجمة كـتاب ألف ليلة وليلة حسب العبارة الصريحة لمارْدْرُوسْ في الرسـالة ؟ وهل كانت الوثائق ذات الصلة بهذا الذي دار بينهما من بين ما عبثت به الحرب العالمية الأولى من وثائق مارْدْرُوس ؟
ولماذا اعْتنى ملارمي إلى هذا الحد، وهو المتحررُ من كلّ إغراء استشراقي، بكتاب ألف ليلة وليلة ؟ أنظر إليه وهو بصمت يقرأ هذا الكتاب. بدءاً، بحكاية السندباد البحري، الذائعة الصيت، منذ ترجمة أنطوان غالان. عالم هذه الحكاية هُو البحر. وحوادث غرق السفن لا تنفصل عن الحكاية.
إن «رمية نرد»، كقصيدة بحرية، تروي، بطريقتها، حكاية سندباد بحري حديث، يلقى النرد من عمق غرق السفينة. كان ملارمي، بدون شك، يعرف القصة في مراحل كتابته قصيدة إيجيتور. لكن هناك ما كان ينقصه في ترجمة أنطوان غالان. أقصد لغة كتاب ألف ليلة وليلة، ثم بناءها الأصلي. فهذا الكتاب عمل يمزج، على الخصوص، بين الأجناس في عمل واحد، لا تتعارض فيه القصيدةُ الحكائيةُ مع القصيدة الغنائية. ألف ليلة وليلة نموذج نمط من التأليف الشائع عند العرب، فيه الأجناس ينادي بعضها على بعض. من هنا فإن رمية نرد ليست فقط قصائد في قصيدة، معلّقتـنا، بل هي كذلك رحِمُ كلام شعري متعدد السجلاّت.
العالم السماوي لكتاب الواثق والعالم البحري لحكاية السندباد البحري يسمحان بالتفكير في «رمية نرد»، منفتحةً في فضائها على ثقافة عربية.إسلامية.
. 35 .
كتب إدغار ألن بّو، في قصيدته «إسرافيل»، قولةً بين قوسين صغيرين دون إشارة إلى مصدرها. ويعلق ملارمي على القولة إنها مقتبسة من القرآن.
أعطى هنري كازاليس Henri Gazalis، سنة1896 ، ديوانه الجديد إلى ملارمي: رباعيات الغزَالي
Quatrain d Al-Ghazali .
. 36 .
جملة أخيرة نطق بها ملارمي، في الصباح نفسه لوفاته، يوم الجمعة ٩ سبتمبر 1898، متوجهاً بالكلام إلى الطبيب : « أيها الطبيب، ألا تجد أن لي هيئةَ ديك، هيئة عيسَاوَة، مجذوب؟»
«عيساوة» كلمة أخرى مغربية، بل مغاربية، لطريقة صوفية شعبية. احتفظ ملارمي بها من قراءته لكتاب صديقه أندري جيد مذكرات السفر: تونس والصحراء، الصادر سنة 1987. كتاب يروي فيه جيدْ عن ليلة عيساوية حضرها في القيروان.
للرسام يوجين دُولاكرْوَا لوحة شهيرة بعنوان: مجاذيب طنجة، في صيغتين، 1837 و1857.
اللوحة، في الصيغتين، تنظر إلينا.
يعلمنا ملارمي أن كلّ شيء لديه يتمّ التفكيرُ فيه. فهَلْ علينا أن نفكّر؟
لعبةُ النّرد.
الزهْر.
الواثق.
ألف ليلة وليلة.
أعمال، بحث، قراءات ومعجم.
. 37 .
تتم الكتابة في اللغة والترجمة في اللغة أيضاً.
ترجمة القصيدة، هذه القصيدة، إلى العربية، الحديثة، لا تنسى أعمالاً ومعانيَ لا تزال حيّةً، بيننا، على الأرض التي أنتمي إليها.
. 38 .
عودةُ الزّهْر، بمعنى الحظّ..
رميةُ نرد، بالمفرد، رميةٌ وحيدةٌ، رميةُ الشيخ، ملارمي، هذه المرة، لن تبطل الزهرَ، الحظَّ، في المستقبل. رميةٌ لا تشبه بأي حال رميةً أخرى. رميةٌ كانت، من قبل، في الماضي، تُبطلُ الحظّ، أوْ ليست أيّ رمية كانتْ، هي، هذه المرة، للشيخ، المأخوذ بكلمة الزهر، من العربية الأندلسية، ضيفة الفرنسية الملارمية، التي تنسَى المعنى، تضيءُ، في العربية.
. 39 .
فعل «أبطل» لم يعد يعني لاَ النفيَ ولاَ الماضي، أياً كان. إنه، منذ بداية القصيدة حتى نهايتها، معنى نفي يبطل (لن تبطل) في المستقبل الذي ينتشر عبر الحاضر. رميةُ نرد، هذه المرة، سعيدةٌ، سابقاً، ألقاها شعراء، مرات عديدة، ألقاها ملارمي. كلهم أخطأوا الحظ. سابقاً. قصائد أهملها الشاعر، أوْ هو بالأحرى صاحَب أحوالها، عشرين سنة. ثم، هذه الرميةُ، السعيدةُ (اثنا عشر مقسومة إلى اثنين)، انفتاح الحظ، على الحظ. رمية نرد أبداً لن تبطل الزهر. في العربية، الزهْرُ، الزهرةُ، انفتاحُ الزهرة. هذه الزهرة تحطّ، بيضاءَ، فوق صفحة كونية. من نهاية القصيدة إلى بدايتها. الزهرُ، في العربية، الأندلسية، المغاربية، الزهرُ، بمعنى الحظ، ليس بعدُ بمعنى الصدفة. من هذه الصدفة هناك إلى هذا الحظ هنا. من قدَرٍ لا يُقهر إلى حظ مرح. حظُّ كتابة إحدى القصائد الشعبية، لزمننا، إحدى ليالي ألف ليلة وليلة، في تاريخ القصيدة، البشرية، جلجامش، الأوديسا، المعلقات، الكوميديا الإلهية. ستنتصر القصيدةُ، بعد المغامرة، التي تدوم، الديمومةُ، سنوات، طويلةً، قدرٌ، منهوكُ القوى، لن يمنعنَا أن نكونَ، نكونَ سعداءَ بالقصيدة، بعْدَ القصيدة. رميةُ نرد ملارمي. يمنح الشيخُ، الضيافةَ لثقافة، شرقية، عربية، ساهرة، في رُكْن خلفيّ، من أركان القصيدة، يختفي. حظُّها، حظُّنا. محظوظُون نحن الذين يقرأون، في الحركة، الدورانية، هنا، هناك، لغاتٌ متعددةٌ، لقاءاتٌ، قراءُ على الطريق. لا أحدَ، بعدَ اليوم، يتجرأ، بعدَ اليوم، على الامتناع عن التفكير في زهْرنا، الحظ، لا يقول المختفيَّ، المنسيَّ، في الكلمة، القصيدة، الكتاب. رمية نرد أبدا لن تبطل الزهر. و«الصدفة مهزومةٌ، كلمةً فكلمةً.»
. 40 .
لا شيءَ غيرُ الترجمَة.
٭ صدرت عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء قصيدة «رمية نرد»، في أول ترجمة عربية من طرف الشاعر محمد بنيـس، تكريماً لصاحبها الشاعر الفرنسي ستيفان ملارمي وتحية وفاء لحركة الشعر العربي الحديث.
لم يكن الشاعر ستيفان ملارمي، وهو يقدم على نشر قصيدة «رمية نرد» أول مرة سنة 1897 في مجلة «كوسموبوليس»Cosmopolis اللنـدنـية، واثقاً من مستقبل القصيدة. لكن السنوات المتتالية أكدت الثورة التي جاءت بها في تاريخ الشعرالإنساني، وخاصة بعد كل من قصيدة النثر والشعر الحـر. فقد تتابعت طبعاتها في الفرنسية وقدمت ترجمات لها في لغات، كما تركت تأثيرها في الحركة الشعرية العالمية وتواصلت الدراسات عنها، لكون مغامرتها افتتحت زمناً شعرياً جديداً في كتابة القصيدة والنظر إلى القصيدة والشعر والشاعر في آن. وتم إصدار الترجمة العربية في طبعة تحترم مواصفات الحجم الكبير (28 سم على 38 سم) التي أرادها ملارمي لقصيدته، مع مراعاة تعدد أحجام الحروف ووضعها في فضاء الصفحة المزدوجة.
تشمل الطبعة كتابين : الأول من 32 صفحة، خاص بالقصيدة التي عنوانها الكامل هو «رمية نرد أبداً لن تبطل الزهر»؛ والثاني من 72 صفحة، بعنوان «صلة وصل مع قصيدة رمية نرد». وهو يضم «ملاحظة» ملارمي التي كان بعث بها لمجلة «كوسموبوليس»، للتعريف بجدة المغامرة التي تنبني عليها القصيدة؛ و«مع القصيدة» لمحمد بنيس، يتناول فيها عملية ومراحل وأسئلة ترجمة القصيدة وطبعها، ثم يثير أول مرة، على مستوى الدراسات الملارمية، حضور الثقافة الشرقية ـ العربية فيها، وإعادة الاعتبار لمكانتها في تاريخ الأعمال الأدبية البشرية، بالإضافة إلى هوامش وملاحظات مفصلة؛ و«قصة نشر فولار رمية نرد» لإيزابيلا كيكايّـيني، تعود فيها لقصة نشر القصيدة لدى الناشر الباريسي أمبرواز فولار، التي لم تصدر، والمحاولات المتتالية التي عرفتها طيلة أكثر من قرن، مع إضاءات جديدة على طبعة فولار، التي كان ملارمي أشرف عليها وقام بتصحيح تجاربها الطباعية بخط يده؛ ثم «تهويم» لبرنار نويل، دراسة يتعرض فيها لدلالة حجم طبعة القصيدة وخصيصة الفضاء فيها ومكانة القصيدة في تاريخ التحديث الشعري في فرنسا والإبعاد الذي تعرضت له رسوم الفنان أوديلون رودون، المرسومة خصيصاً لتنشر صحبة القصيدة في كتاب.
والأصل في هذه الطبعة العربية، المحصورة في 200 نسخة، طبعة فنية مزدوجة اللغة، بالفرنسية والعربية، صادرة في ٩٩ نسخة عن دار إيبسلون بباريس، بالتزامن مع طبعة دار توبقال للنشر، في أربعة كتب من الحجم الكبير، مطبوعة في إيطاليا، تتميز بنشر رسوم الفنان أوديلون رودون لأول مرة في تاريخ نشر القصيدة، فرنسياً وعالمياً، في الصيغتين الفرنسية والعربية معاً. وقد جاء في كلمة التعريف بهذا العمل المشترك، في طبعته الفنية المزدوجة اللغة، بين الباحثة الإيطالية إيزابيلاّ كيكايّـيني والشاعرين الفرنسي برنار نويل والعربي محمد بنيس :
«كان ملارمي عند وفاته، وعما قريب ستبلغ المدة مئة وعشر سنوات، يعمل منذ شهور على إصدار الطبعة النهائية لقصيدة «رمية نرد» لدى الناشر أمْبَروَازْ فُولارْ. وهذه الطبعة التي هي بعيدة عن أن تكون مجرد مشروع، كانت متقدمةً في الإنجاز وهو ما يبرهن عليه عدد التجارب الطباعية. كان ملارمي، كما يعلم كل واحد، دقيقاً جداً. كمُّ التصحيحات يشهد على ذلك، كما أن اختيار حجم الكتاب وإرادة أن يكون النص، رفقـة ليتـوغرافيات صديقه أوديلون رودون، مصفوفاً بحرف ديـدو، مؤكدٌ بوضوح. ولم تصدر هذه الطبعة على الإطلاق رغم أنها كانت جاهزة للطبع.
نأخذ عدم الطبع ذاك في الحسبان بمجرد ما ندرك أن معنى النص مرتبط أشد الارتباط بتوزيع فضائه. لقد أصبحت ضرورة هذا الارتباط بالنسبة لنا بديهية حاسمة عندما كان علينا أن نواجه النص الأصلي مع ترجمته إلى لغة يثـير في البداية مظهرها الخطي. هكذا، وبقـيام محمد بنـيس بأول ترجمة عربية لقصيدة رمية نرد، طرحت بسرعة مسألة الحروف وأحجامها، ووضعها حتى تكون وفية ما أمكن للأصل.
لكن أي أصل؟ ليس يا للحسرة طبعة 1914 الصادرة عن غاليمار المسماة بالأصلية، التي لا تحترم الحجم والمصفوفة بحرف ألزيفـير، هذه العائلة من الحروف التي كان ملارمي يكرهها. ولا هي يا للحسرة أي من الطبعات المتوالية التي أحجامها تجهل أهمية توزيع فضاء القصيدة.
طبعة وحيدة تحترم إرادة ملارمي وتوضح الأسباب، هي التي أنجزتها ميتْسُو رُونَا صحبة تيـبُورْ بّابّ تحت شعار مجلة شانج، سنة 1980. فالشكل الذي تم تبنّـيه عبارة عن دفتر موضوع في مغلف لا يقدم للأسف الكتاب الذي كان ملارمي يتمناه. وأصدرت منشورات بْتيكْس، منذ فترة وجيزة، طبعة صحيحة لكنها سرية. والطبعتان معاً نسيـتا رسوم رُودُون.
فلمَ هذا النسيان؟ لا شك أن هذا النسيان يذهب في اتجاه التجريد الملصق بصورة ملارمي. اتجاه يُنـكر عليه الصورةَ كما يُنـكر عليه الفضاءَ لأن هذين العنصرين يشترطان الجسدَ هناك بالضبط حيث يراد للفكر أن يهيمن دونما تقاسم.
لقد حاولنا أن نذهب هنا ضد تيار هذه الصورة السلبية، التي انتهت إلى أن تصبح ذات سلطة، ونحن ننشر لأول مرة «رمية نرد» مع الرسوم الثلاثة لرُودُون. ولم يكن من الوارد بتاتاً أن ننشر رسوماً مزيفة بالالتجاء إلى نسخة ليتوغرافية، لذا فإن رسوم رُودُون هذه منشورة في شكل استـنساخ. موقعها في الكتاب إشكالي، لكن كان ثمة نموذجُ أغْلفـة منشورات فُولاَرْ ونحن نعلم أن الرسوم الأخرى لم تكن لتوضع داخل النص.»
يمكن النظر إلى «رمية نرد» في طبعتها الجديدة، الباريسية، المزدوجة اللغة، الفرنسية والعربية، بما هو حدث ثقافي كبير، لأنه يحترم إرادة الشاعر ستيـفان ملارمي في اللغتين معاً، ثم لأن عملا من مثل هذا الحجم في تاريخ الشعر الفرنسي الحديث، بل والإنساني، يصدر في طبعة فاخرة بباريس تضم اللغتين معاً، عن دار إيبسيلون، التي ظهرت بهذه العمل. إنه إشارة إلى لحظة جديدة في التفاعل بين الثقافتين الفرنسية والعربية. كما أن صدور طبعة مغربية رفيعة بالعربية وحدها عن دار توبقال في الدار البيضاء، يهدف إلى تمكين قراء عرب، مهتمين بالحركة الشعرية الحديثة، من اقتناء «رمية نرد» وكتاب «صلة وصل بالقصيدة» المرافق لها بثمن رمزي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى