عباس أرحيلة - الجاحظ ومأزق الترجمة

تمهيد:

لاحظ الجاحظ تعلق الإنسان بنقل الأخبار من الغائب إلى الشاهد، وحبُّهُ لتخليد آثاره على الأرض، وصعوبة أن يكتم ما يمور في نفسه (1). وتبيّن له أنه عن طريق تقييد المعارف؛ تتراكم التجارب الإنسانية على الأرض، ويحصل التطور، وتنفتح آفاق العلم. وظلت الكتابة هي آلية التواصل والتقارب بين الأمم والشعوب، ولولاها ما استقامت حركة الحياة على الأرض. ومن هنا ظلت الكتابة أهم وسيلة لصيانة المآثر وتخليد الآثار، وتسجيل العهود والمواثيق، بل كانت وما زالت شرطا في وجود الحضارة الإنسانية، وهكذا تواصلت الحضارات بفضل الكتابة.
وتواصُلُ الحضارات يقتضي التفاعل بينها، وانفتاح اللاحق منها على السابق، وتأتي الترجمة لتعمل على تحقيق ذلك التواصل؛ بنقل تجارب السابقين في مجالات المعرفة، تبَعاً لاختلاف الألسن.
فما كان موقف الجاحظ من الترجمة، وهو يقف في بوابة القرن الهجري الثالث، ويعايش أوج حركة الترجمة في فكرنا العربي القديم؟ ما هي الصعوبات التي تواجه المترجم عامة، ومترجم كتب الدين خاصة؟ وكيف يكون حال الشعر العربي، وهو ديوان العرب، وهو يُواجه الترجمة ونقل ما تحفل به حركة الحياة من علوم ومعارف؟ ولمن تكون المكانة الأولى إذا فاضلنا ين الشعر والكتاب، أو قل بين الشعر والنثر؟

أولا: ما يعترض المترجم عامة


بالرغم من أهمية الترجمة في نقل التجارب وتلاقح الأفكار ووضع جسور التعارف بين الأمم؛ إلا أن هناك صعوبات تعترضها لحظة تنفيذها وأدائها على الوجه الأكمل لها. ويمكن استخلاص أربع صعوبات تعترض المترجمة عامة؛ كشف عنها الجاحظ بدقته المعهودة وريادته في طرح القضايا الفكرية الهامة، في الجزء الأول من كتاب الحيوان بشكل خاص.

أولها:صعوبة تحقيق الترجمة الصحيحة:

المأمول في كل ترجمة أن يتِمَّ أداء المنقول أو المُتَرجَم على خصائص معاني الأصل، وحقيقة ما ينطوي عليه بالدقة اللازمة، والأمانة الحَقَّة المطلوبة.
يقول الجاحظ عن الترجمة:« وكيف يقدِر على أدائها وتسليم معانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه؟ فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق، وابن ناعمة، وابن قرة ( ...) وابن المقفع، مثل أرسطو ؟ ومتى كان خالد [ بن يزيد بن معاوية ] مثل أفلاطون؟!» [1/76 ] (2).

وثانيها: صعوبة توافر شروط المترجم الحق:

تحتاج الترجمة إلى استعداد خاص ينبع من الكيفية التي يُدرك بها المترجم طبيعة النصين اللذين يسعى المترجم أن تكون لهما حقيقة وجودية، من هنا كانت الصعوبة، وكان الاشتراط في الترجمان « أن يكون بيانُه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواءً وغايةً» [1/76].
فالمترجم يعترضه أمران:
الأمر الأول: تجاذب اللغتين في فكره ونفسه؛ لأنه متى تكلم بلسانين،" أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذِب الأخرى وتأخذُ منها، وتعترض عليها».
جاء في البيان والتبيين:« واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلتْ كل واحدة منها الضيمَ على صاحبتها»[1/368].
والمترجمله قوة واحدة لا يمكنه أن يستفرغها في وجهتين.
والأمر الثاني حين يكون « الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل»، وكلما كان كذلك « كان أشدَّ على المترجم، وأجدرَ أن يخطئ فيه»[ 1/76 - 77].

والصعوبة الثالثة: هي ما يعتري الإنسان من نقص في الإحاطة بالمعارف كلها؛ وإلا « ما علْمُ المترجم بالدليل عن شُبه الدليل؟ وما عِلْمُهُ بالأخبار النجومية؟ وما علمُه بالحدود الخفية...؟ » [ 1/78].

أما الصعوبة الرابعة: فهي صعوبة التعامل مع أثر تداولته اللغات، واختلفت عليه أقلام النُّساخ من أمم مختلفة وخطوط مختلفة، وما عِلْمُ المترجم « بإصلاح سقطات الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب؟»[ 1/78 ].
فما للمترجمين علم بكل ذلك، كما هو واضح من تجربتهم.
جاء في معجم الأدباء:« وقال الجاحظ: عيوب المنطق التصحيفُ وسوءُ التأويل والخطأ في الترجمة، فالتصحيف يكون من وجوه من التخفيف والتثقيل ومن قبل الإعراب ومن تشابه صور الحروف، وسوء التأويل من الأسماء المتواطئة؛ أي أنك تجد اسماً لمعانٍ فتتأولُ على غير المراد، وكذلك سوء الترجمة»[1/24].
ونجد الجاحظ لا يطمئن إلى أعمال المترجمين، إن لم أقل إنه يشك في قيمة ما يُترجم، فهو يقول ساخراً ممن لا يحترم شروط الترجمة؛ أن صاحب الكتاب المترجَم « لو وجد هذا المُترجِم أن يُقيمَه على المصطبَة، ويبرَأ إلى الناس من كذبه، ومن إفساد معانيه بسوء ترجمته » [ 6/19]. فهو لا يكتفي أن يرميَه بالكذب وإفساد المعاني، بل يشك في قيمة صنيعه، ويُقيمه على مكان مرتفع من الأرض، قصد التشهير به، والتنبيه إلى فعلته النكراء !
ويدعو الجاحظ القراء أن يتنبَّهوا إلى كَذب التراجمة وتزيدهم وجهلهم بنقل لغة إلى لغة، إلى جانب ما يلحق الكتاب من فساد النَّسْخ، يقول:« فإنا نوجدكم من كذب التراجمة وزياداتهم، ومن فساد الكتاب، من جهة تأويل الكلام، ومن جهة جهل المترجم بنقل لغة إلى لغة، ومن جهة فساد النَّسْخ، ومن أنه قد تقادم فاعترضتْ دونه الدهور والأحقاب، فصار لا يُؤْمَنُ عليه ضروبُ التبديل والفساد، وهذا الكلامُ معروفٌ صحيحٌ » [ 6/280 ].
وكيف يكون التعامل بين رجلين أحدهما حاذق باللسان اليوناني والآخر حاذق باللسان العربي؟ لا بد أن يغتفر الواحد مهما للآخر أخطاءه، ويتجاوز عنها. يقول الجاحظ:« ولو كان الحاذق بلسان اليونانيين يرمي إلى الحاذق بلسان العربية، ثم كان العربي مقصراً عن مقدار بلاغة اليوناني؛ لم يجد المعنى والناقل التقصير، ولم يجد اليوناني الذي لم يرض بمقدار بلاغته في لسان العربية بُدّاً من الاغتفار والتجاوز» [1/78].

ثانيا: قضية ترجمة كتب الدين:


لعل أكبر صعوبة ظلت تواجه الترجمة؛ هي الصعوبة المتمثلة في ترجمة النصوص الدينية بشكل عام وترجمة معاني القرآن بشكل خاص. وأفضل الكتب عند الجاحظ كتب الدين، فقد تكون للناس اهتمامات بالكتب وتقدير لها؛ « وأكثر من كتبهم نفْعاً، وأشرفُ منها خطراً، وأحسنُ موقعاً؛ كُتُبُ الله تعالى؛ فيها الرحمة والهدى، والإخبار عن كل حكمة، وتعريف كل سيئة»[1/86].
وقد يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل: هل كانت قضية ترجمة معاني كتب الدين مطروحة في زمن الجاحظ؟ وما كان مراده بـ« كتب الدين»؟ هل كانت ترجمة الأناجيل في القرن الثالث من مشاغل المترجمين؟ هل كان هناك من يعاني من ترجمة القرآن إلى لغة أخرى؟ هل كانت هناك لغة علمية يريد أصحابها أن يعرفوا القرآن، فاعترضتهم مشكلة الترجمة؟
أظن أن الجاحظ تناول هذه المسألة نتيجة ما استشعره من خطورة ترجمة معاني القرآن إلى لغة من اللغات. نترك هذه الأسئلة وغيرها، ونستعرض هذا النص الذي لم أجد من توقف عنده ممن واجهوا قضية ترجمة معاني القرآن.
لبيان صعوبة ترجمة كتب الدين، ذكَّرَ الجاحظ بصعوبة ترجمة الكتب العلمية لدقة ما تحتويه من قضايا فكرية؛ ممّا يتسبَّبُ في خطأ المترجمين في تأدية المراد من القول الديني، « والخطأ في الدين أضر»[1/78].
يقول الجاحظ:« وكلّما كان الباب من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماءُ به أقلَّ؛ كان أشدَّ على المترجم، وأجدرَ أن يُخطئ فيه. ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء.
هذا قولنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون؛ فكيف لو كانت هذه الكتب كتبَ دين وإخبار عن الله عز وجل؟»[1/77].
هناك حقيقتان: الأولى قوله:« والكتاب هو الذي يؤدي إلى الناس كتبَ الدين»[1/50]. ولا يستطيع الشعر أن يقوم بهذه المهمة. والثانية: قوله:« وجميع الأمم يحتاجون إلى الحكم في الدين»[1/75]. فالدين حَمَلَ رسالتَه عبْرَ الكتابة، وجاءتْ هذه الكتابة لتُقْرَأَ، وتُستنبط منها الأحكام المُنظِّمة لحركة الوجود.
فما هي الإشكالات التي تعترض من يريد أن يُترجم كتابا دينيا؟ بل ما هي الأخطار التي ينبغي أن يكون المترجم على بينة منها؟ إذا كان الكتاب الديني يُخبر عن الله عز وجل؛ فهل يُبلِّغُ المترجم حقيقة ما في النص، وإدراك مستويات الخطاب فيه، وكيف يتجلى ما يُقال في حق الله في ضوء الأداء البياني للنص القرآني؟ لتقريب ذلك إلى القارئ أعرض لصعوبة ترجمة النص الديني من خلال ما استشكله الجاحظ أثناء حديثه عن ترجمة « كتب الدين»؛ أي ترجمة معاني النص الديني، وسيرى القارئ أنه لا يقصد به سوى القرآن. وسيدخل بنا الجاحظ معترك استكناه العبارة في القرآن، ويدخل بنا إلى معترك التجوُّز في أساليب العبارة القرآنية، وتلتقي احتمالات وجوه الخطاب، ويصطدم العقل بالمجاز والتأويل:
الإشكال الأول: كيف يتم الإخبار عن المطلق بالنسبي في ترجمة«كتب الدين»؟
كيف يُدرك كُنْهُ الله عز وجل ويكون إخبارٌ عنه « بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه، حتى يريد أن يتكلم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقوداً بالتوحيد؟».
كيف تنقل الترجمة ما تستقبله الطبائع البشرية عن معاني الألوهية، وتظل العقيدة سليمة؟ كيف يُدرك في حقه ما يجوز وما لا يجوز وعقيدة التوحيد حاضرة ثابتة، لا تتأثر بسوء الفهم، وخطرات العقل، وإغراءات التأويل؟
الإشكال الثاني: مواجهة وجوه الإخبار واحتمالاته بين الخاص والعام:
صعوبة هذا الإخبار عن الله أن له احتمالاتٍ ووجوهاً؛ تقتضي التمييز بين حقيقة الألوهية وما هو في طبيعة البشر. فكيف تقتحم الترجمة هذه الاحتمالات والوجوه؟ ولا يستطيع المترجم ذلك حتى « يتكلّمَ في وجوه الإخبار واحتمالاته للوجوه، ويكونَ ذلك متضمِّناً بما يجوز على الله تعالى، ممّا لا يجوز، وبما يجوز على الناس بما لا يجوز، وحتى يعلمَ مستقرَّ العام والخاص، والمقابلات التي تلقى الأخبارَ العامّية المخرجَ فيجعلّها خاصّية، وحتى يعرف من الخبر ما يخصه الخبر الذي هو أثر، مما يخصه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصه العقل مما تخصه العادة أو الحال الرادَّةُ له من العموم»[1/77].
يطرح الجاحظ هنا آليات فهم الخطاب القرآني بشكل صريح؛ باعتباره إخباراً عن الله في ذاته وصفاته. وهو إخبار له احتمالات ووجوه، ويقتضي تمييز الخاص من العام منها، ومعرفة حدود كل منهما، وتحديد وجوه التقارب بينهما. كما يحتاج العقل تحديد الخاص حين يُستعمل عاماً، أو العكس في ضوء ما جرت به العادة أو الحال؟
الإشكال الثالث: الخبر بين الصدق والكذب والمحال:
ويواجه المترجم ما يحتمل الصدق والكذب، وما يخرج من الصدق إلى المحال في الخبر، ويرى الجاحظ أن المترجم لا يتحقق من ذلك « حتى يعرف ما يكونُ من الخبر صدقاً أو كذباً، وما لا يجوز أن يُسمى بصدقٍ ولا كذبٍ، وحتى يعرفَ اسمَ الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند أي معنىً ينقلبُ ذلك الاسم، وكذلك معرفة المحال من الصحيح، وأي شيء تأويل المحال؛ وهل يُسمى المحال كذباًُ أم لا يجوز ذلك، وأي القولين أفحش: المُحال أم الكذب، وفي أي موضع يكون المحال أفظع، والكذب أشنع» [1/77].
وسيكون أبطال هذه القضايا علماءُ الأصول في تاريخ الثقافة الإسلامية، وستظل من أهم المداخل لاستنباط حقائق التشريع من خلال النص القرآني.
الإشكال الرابع: معرفة أساليب التجوز في العبارة والإشارة:
لا سبيل إلى ترجمة ثقافة ما إلى العربية ما لم يكن عند المترجمة علمٌ بأسرار اللسان العربي، وخبرةٌ بأساليب العرب في التجوز والتعبير؛ فلا يستطيع المترجم أن يتبين الحقيقة فيما يريد ترجمته، فكيف يكون الأمر إذا تعلق الأمر بترجمة معاني القرآن؟ لا يتأَتَّى ذلك للمترجم « حتى يعرف المَثَلَ والبديع، والوحي والكناية، وفصْلَ ما بين الخَطَل والهَذْر، والمقصور والمبسوط والاختصار، وحتى يعرف أبنيةَ الكلام، وعادات القوم، وأسباب تفاهمهم، والذي ذكرنا قليل من كثير.
ومتى لم يعرف ذلك المترجم أخطأ في تأويل كلام الدين. والخطأ في الدين أضر من الخطأ في الرياضة والصناعة، والفلسفة والكيمياء، وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم»[ 1/77 -78].
وقد لاحظ الجاحظ الكيفية التي خاطب بها القرآن العرب وبني إسرائيل في القرآن، فقال:« ورأينا الله تبارك وتعالى، إذا خاطب العربَ والأعرابَ؛ أخرج الكلام مُخرَجَ الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم؛ جعله مبسوطاً، وزاد في الكلام»[1/94].
الإشكال الخامس: المحدودية المعرفية للمترجم:
يصعب تحقيق الكمال في المجالات المعرفية التي تواجه ثقافة المترجم، فإلى جانب معاناته في تأويل كلام الله من خلال الترجمة؛ تراه في صدام مع مقتضيات العقل والمجاز والتأويل؛ مما يتسبَّبُ معه الخطأ في الدين. وهل بإمكان المترجم أن يرقى إلى الكمال؟ وأنَّى له ذلك! يقول الجاحظ:« وإذا كان المترجم قد ترجم لا يكْمُلُ لذلك، أخطأ على قدر نقصانه من الكمال. وما علم المترجم بالدليل عن شبه الدليل؟ وما علمه بالأخبار النجومية؟ وما علمه بالحدود الخفية...؟» [1/78].
فهؤلاء التراجمة لا يستطيعون تجاوز ما يعترضهم من عراقيل ذات طبيعة معرفية، خاصة أنهم المعارف لا يأخذون تلك المعارف من الكتب ولا يتلقونها من حذاق وخبراء لهم علمٌ بها.« وابن البطريق وابن قرّة لا يفهمان هذا موصوفا منزّلا، ومرتباً مفصلا، من معلم رفيق، ومن حاذق طَبٍّ، فكيف بكتاب قد تداولتْه اللغات واختلاف الأقلام، وأجناس خطوط الملل والأمم» [1/78].
الإشكال السادس: مشقة تصحيح المخطوطات:
مما يعترض سبيل المترجم من اللسان اليوناني - مثلا – القدرة على معرفة ما تحتويه المخطوطات من حقائق؛ وما يعانيه من مشقة في تصحيحها. وهنا يقول الجاحظ:« وما علمه بإصلاح سَقَطاتِ الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب؟ (...) فكيف بكتاب قد تداولتْه اللغات واختلاف الأقلام، وأجناس خطوط الملل والنحل؟! (...)
ثم يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين، وذلك أن نسخته لا يعدَمُها الخطأ، ثم يُنسخُ له من تلك النسخة مَن يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثم لا ينقص منه، ثم يُعارض بذلك من يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله؛ إذ كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي ى يجدُه في نسخته»[78 – 79].
فالنُّسَخ المخطوطة تتعرض لمجموعة أحوال وآفات:
- تحديد أسقاط الناسخين للكتب، والعِلْمُ بكيفية إصلاحها.
- المكتوب في النُّسَخ تداولته اللغات، واختلت عليه الأقلام، وعرف أشكال خطوط الملل والنحل.
- ثم يتعرَّض لآفات أصناف الناسخين، فالنُّسخة الواحدة، وهي لا تخلو من خطأ، تتعاورها الأخطاء بتتابع نسخها؛ فيعجز المُعارض عن إصلاح السَّقط الذي يجده في نسخته.
- عَجْزُ صاحبِ المُؤلِّف نفسه أن يُصلح ما وقع في كتابه من تصحيف أو استعادة كلمة ساقطة!
ثم يقول الجاحظ:
« ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يُصلح تصحيفاً، أو كلمةً ساقطةً، فيكون إنشاءُ عشر ورقات من حُرّ اللفظ وشريف المعاني؛ أيسرَ عليه من إتمام ذلك النقص؛ حتى يردَّه إلى موضعه من اتصال الكلام؛ فكيف يُطيق ذلك المُعارض المُستأجَرُ، والحكيمُ نفسه قد أعجزه هذا! وأعجب من ذلك أنه يأخذ بأمرين: قد أصلح الفاسدَ وزادَ الصالح صلاحا. ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نُسخةً لإنسان آخر، فيسير فيه الوراق الثاني سيرة الوراق الأول، ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدي الجانية، والأعراض المُفسدة؛ حتى يصير غلطاً صِرْفاً، وكذِباً مٌصْمَتاً. فما ظنكم بكتاب تتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخُطّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله، كتابِ مُتقادمٍ، دهرِيِّ الصنعة!» [1/79].
وأكتفي في التعليق على هذا ما قاله الجاحظ: أولا: ينبغي هنا تصحيح خطأ شائع لدى بعض المحققين حين يثبتون قول الجاحظ: « ولربما أراد مؤلف الكتاب» إلى قوله:« اتصال الكلام»، ويريدون من وراء ذلك الإشارة إلى معاناتهم هم أثناء تحقيق الكتاب. والجاحظ إنما يقصد مؤلف الكتاب حين يُراجع ما كتبه بنفسه فيصادف تصحيفا أو كلمة ساقطة، فيجد من العناء في تصحيح ذلك وتصويبه، وإعادة الانسجام إلى السياق العام لما يكتبه، ما يمكن أن يأتي به مما هو أفضل منه. إذا كان هذا شأن مؤلف الكتاب نفسه، « فكيف يُطيق ذلك المُعارض المستأجَر، والحكيم – الفيلسوف – نفسه قد أعجزه هذا الباب!». فالمحققون الذين يرددون ذلك الكلام عليهم أن يأتوا بكلام الجاحظ إلى آخره لتتضح جسامة المسؤولية في إخراج نص من «مخطوطيته». وقد يتبادر سؤال إلى الذهن: كيف عرف الجاحظ أن الحكيم أرسطو قد أعجزه أن يُصلح تصحيفا أو كلمة ساقطة؟!
وإذا كان الشعر العربي هو ديوان العرب ومستودعُ معارفِهم وتجاربهم، فكيف يستطيعُ أن يُواجه ما جدَّ في الحياة من معارف، أي كيف يُواجِه تحديات التواصل مع الأمم الأخرى؟ وكيف يكون حاله إذا تٌرْجمَ إلى لغة أخرى؟

ثالثا: الشعر العربي والترجمة


للجاحظ من الشعر العربي موقفان:
الموقف الأول: موقف اعتداد واعتزاز ومباهاة.
الشعر عند الجاحظ علم من علوم العرب، ومصدر من مصادر ضبط المعارف في تراثهم. ولا غرابة أن يتخذ من شواهده ما يستدل به على الحقائق العلمية في كتابه الحيوان. وهو يرى أن نظم الشعر على البديهة والسليقة مقصورٌ على العرب. ومن المعروف أن الجاحظ كان يُدافع عن العرب في لحظة كانت الكلمة النافذة للفُرْس في المرحلة الأولى من حياته، والترك في المرحلة الثانية منها.
واعتدادُه بالشعر العربي جَعَلَه يُعرِضُ عن أشعار الأمم الأخرى. وموقفه هذا « انعكس على طبيعة تعامله مع الشعر اليوناني الذي استشهد به أرسطو في كتابه [ الحيوان]. فالجاحظ يضرب صفْحاُ عن كل ما ورَدَ من شواهد شعرية في كتاب أرسطو، حتى وإن نقل النص نقلا حرفيا من كتاب أرسطو (...) يتجاهل الشاهد الشعري، كما يتجاهل اسمَ الشاعر على أية حال» (3).
فإذا كان أرسطو يستعين أحيانا على تثبيت بعض الحقائق بأقوال شعراء أو حكماء يونانيين تتعلق بالبيئة اليونانية؛ فإن الجاحظ ينقل عن الأعراب وعن البيئة العربية، ويجعل من الأمثال العربية، ومن الشعر العربي عِماداً لكتابه.
الموقف الثاني: الشعر العربي لا يُستطاعُ أن يُترجم
هل يستطيع الشعر العربي أن يظل مُستودعاً للثقافة العربية، وأن يظل ديواناً للعرب؟ هل يستطيع أن يستوعب ضروب المعرفة، وما جدَّ من معارف؟ هل يُستطاع أن يُترجم، و يقوى على مواجهة الثقافات الأخرى؟
يُقدم الجاحظ هنا مجموعة ملاحظات أهمها:
الملاحظة الأولى أن الشعر العربي حديث الميلاد، « صغير السن»، لا يتجاوز ميلاده مائتي عام قبل مجيء الإسلام، إذا استظهرنا بغاية الاستظهار [ 1/74 ].
الملاحظة الثانية أن الشعر العربي من الأدب المقصور أي أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب [1/75 ]. وكأن هذا الشعر العربي لا يسمح بالتواصل مع الشعوب الأخرى، والانفتاح على الثقافات الأخرى. فقد وجد الجاحظ أن نفعَه مقصورٌ على أهله، وكأنه يُعدُّ من الأدب المقصور الذي لا يتجاوز المجالات المعرفية لذويه؛ وهذا يجعله مشوباً بنقص في عمقه الإنساني؛ إذ لا يتحقّق من خلاله التواصل المنشود.
الملاحظة الثالثة : أن الشعر العربي « لا يُستطاعُ أن يُترجم، ولا يجوز عليه النقل؛ ومتى حُوِّل تقطَّعَ نظمُه، وبَطَلَ وزنُه، وذهب حُسنُه، وسَقَطَ موضِعُ التعجُّب، لا كالكلام المنثور. والكلام المنثور المبتدأ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوَّل من موزون الشعر» [ 1/75 ].
فالجاحظ يُقِرُّ هنا بالخلل الذي يعتري بنية الشعر العربي حين يُنقل إلى لغات أخرى؛ وهذا يُعرٍّضُه لمحدودية الانتشار وصعوبة الاستمرار.
الملاحظة الرابعة: لا يُمكن مواجهة الثقافات الوافدة بشعرنا العربي، ولا مواكبة الحركة الفكرية؛ إذ أن تلك الثقافات تستوعبنا وتتجاوزنا، وشعرُنا إن تُرجم وحُوِّلَ تهافت.« وقد نُقلت كتُبُ الهند، وتُرجمت حِكم اليونانية، وحُوِّلت آداب الفرس، فبعضها ازداد حُسناً، وبعضُها ما انتقص شيئا، ولو حُوِّلت حِكمة العرب؛ لبَطَل ذلك المُعجز الذي هو الوزن؛ مع أنهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم، التي وُضعت لمعاشهم وفِطَنِهم وحِكَمِهم. وقد نُقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن، ومن لسان إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنا آخر مَن ورِثها ونظر فيها. فقد صحَّ أن الكتُبَ أبلغُ في تقييد المآثر، من البنيان والشعر» [ 1/75 ].
إن ما يقوله الجاحظ هنا ينفي عنه كلَّ تعصب للعرب، يُمكن أن يُرمَى به. ألا يقول - وهو من أكبر العارفين بالشعر العربي- إن معاني الشعر العربي لو تُرجمت إلى لغات الأمم الأخرى لما وُجِدَ فيه شيء لم تذكره العجم؟
الملاحظة الخامسة: لا يستطيع هذا الشعر أن يستوعب ما يصطلح عليه الناس من منافع في مرافق الحياة، وليس من مقاصد الشعر وظائفه أن يُعنى بما تتطلبه الحياة من صناعات وتغييرات، وما تستوعبه من أفكار« وكل شيء في العالم من الصناعات والأرفاق والآلات، فهي موجودات في هذه الكتب دون الأشعار( ...) مثل كتاب أقليدس، ومثل كتاب جالينوس، ومثل المجسطي(...) وكتب كثيرة لا تُحصى، فيها بلاغ للناس»[1/80 ].
فالشعر العربي لا يُمكنه أن يُخَلِّد بمفرده مآثر العرب، والحِكمة فيه إذا حُوِّلت بطل المعجز فيه الذي هو الوزن. وما فيه من حكمة لا يختلف عما ورد في حكمة العجم. وهذا الشعر لا يُقدم كل مقومات الحضارة؛ مما يحتاجه الناس في معترك حياتهم. والعرب شأن« جميع الأمم يحتاجون إلى الحِكم في الدين، والحكم في الصناعات، وإلى كل ما أقام لهم المعاش، وبوَّب لهم أبواب الفِطن، وعرَّفهم وجوه المرافق» [ 1/75 ].
فالشعر لا يُمكنه أن يُقدم كلًّ ما تحتاجه الشعوب في تطوراتها المادية والفكرية.
وبالرغم من قول من ينتصر للشعر ويرى صعوبة ترجمته، فإن الجاحظ يدعو ألا تظل فضيلة الشعر مقصورة على العرب؛ حتى تكون له الصيرورة والبقاء، وألا يُعتمد بمفرده في تخليد المآثر، وأن الأمة يجب أن تتجه إلى ما به تُقيم كيانها الحضاري، وإلى ما تٌقيم به معاشها، وتتعرَّف به على أوجه المرافق والمصالح في الحياة، وتفتح به أبواب الفكر. ولم يكن الجاحظ يُدافع عن الشعر العربي، كما فهم كثير من الباحثين؛ بل كان بصدد الكشف عن عيوبه للدفع بالأمة إلى مدارج الرقي ومواجهة الثقافات الوافدة. وموقفه هذا لا يتنافى مع مكانة الشعر العربي في نفسه، وعن قيمة ذلك الشعر في مجالات المعرفة. وكيف وهو عُمدته في تأليف كتاب الحيوان، وفي مجمل ما بقي من آثاره؟ وهو القائل فيه:« وقلَّ معنىً سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين إلاَّ ونحن قد وجدناه أو قريباً منه في شعر العرب والأعراب» [ 3/268 ].
ولاحظ عبد السلام هارون، في مقدمة تحقيقه لـ«كتاب الحيوان» أن الكتاب موشَّعٌ بعيون ما نظم العرب والأعراب في الحيوان من شعر.« وللجاحظ ثقة تامَّة في الشعر العربي، فهو يُصدِّره في الرد على أرسطو، ويحتجُّ به عليه»[1/20].
ولاحظ طه الحاجري أن الجاحظ كان رجلا مُعتدا بنفسه تجاه أرسطو؛ يعرض قدرتَه على فهم الأمور والحكم عليها حكماً دقيقاً، وهو يعتز بالثقافة العربية ويعتبرها مرجعه الأول، وعُمدته في صفة الحيوان؛ فهو يضع نفسه بإزاء أرسطو على أنه نظير له،« ويضع الثقافة العربية بإزاء المعارف التي أوردها في كتابه على أنها حُكمٌ يُحتكم إليه، ومصدرٌ أجدر بالثقة من مصادره» (4).
وما رأيُك في رجل يقول:« وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل. وما يليق بمثله أن يُخلِّد على نفسه في الكتب شهاداتٍ لا يُحقِّقُها الامتحانُ، ولا يُعرف صدقَها أشباهُه من العلماء» [1/185].
فليس مثل الجاحظ مَن يُصاب بالشلل الفكري أمام الثقافة الوافدة، ولو كانت من فيلسوف في حجم أرسطو. أما حالُنا اليوم فإننا نطأطئ بفكرنا لمن هم دون أرسطو بملايين الأميال، ولا نخجل. وأنَّى لنا أن نتعلَّمَ من الجاحظ كيف نتفتَّح على ثقافة الآخر، دون أن نكون مقلدين لها، خاضعين لمقولاتها لدرجة تتشكل منها ذاكرتُنا!
لقد حَظِيَ الكتابُ بأهمية خاصة في مرحلة شهدت انصهار الأجناس والثقافات داخل الكيان الإسلامي العربي، وكانت مرحلة تفجّرت فيها المعارف وتعمقت، واتسعت وامتدت، ودعت الحاجة إلى تدوينها وحفظها وضبطها، وتهيأت وسائل الكتابة في الحواضر العباسية؛ فكان الانتقال من شيوع المشافهة في التواصل إلى شيوع الكتابة وانتشارها. فعبَّر الكِتَاب بحضوره عمّا حدث من تحولات، ونقل أصداءَها في المجال التداولي الإسلامي العربي. وساعد على انتشاره « رخص ثمنه، ومكان وجوده» [ 1/42 ]؛ وبهذا خرجت الثقافة العربية من المحلية إلى العالمية فاخترقت الأصقاع والأجناس. وهكذا كشف الجاحظ أهمية الانتقال من المرحلة الشفهية إلى طور الكتابة داخل معترك الثقافة الإسلامية العربية خلال مرحلة تدوين التراث الإسلامي.
وأرى أن موقف الجاحظ من الترجمة عامة، يحكمه موقفه من الثقافة الوافدة، وإحساسه بعجز الترجمة أن تفيَ بالمراد، وغايته صد كل محاولة لترجمة معاني القرآن لمن لا خبرة له بالأداء البياني لكتاب الله تعالى.

رابعا: المفاضلة بين البنيان والشعر والكتابة


وقبل بيان هذه المفاضلة ينبغي التنبيه أن ما أورده الجاحظ في شأن الكتابة، جاء في سياق مناظرة بين من يُناصر الشعر ومن يناصر الكتابة والكتاب، وتخفي المناظرة تحتها مسألة المفاضلة بين الشعر والنثر. فالكتاب يتعرض لآفات ( الخط، النسخ، الترجمة)، والشعر العربي لا يُستطاع أن يُترجم، وإذا تُرجم يفقد جماليته، كما أنه يستطيع أن يستجيب لحركة الحياة بكل جوانبها ومطالبها..« فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضرب من الضروب، وشكل من الأشكال»[1/71].
ونفهم طبيعة هذه المناظرة من سياق ما جاء عن حديث الجاحظ عن الكتابة والكتاب والشعر والترجمة، من ذلك، على سبيل المثال:
- «ثم قال بعضُ من ينصُرُ الشعر ويحوطُه ويحتجُّ له»[1/75].
- « قالوا: فكيف تكون هذه الكتب أنفعَ لأهلها من الشعر المقفى؟».
فالشعوب عملت على تخليد آثارها عن طريق البنيان والكتابة والشعر، فما الأجدر بالقيمة والأهمية؟ ومن له الأفضلية على غيره من هذه الأنواع؟ نجد الجاحظ ينتصر للكتاب، بالرغم من أنه – كما رأينا - « قد تداولتْه اللغات واختلاف الأقلام، وأجناس خطوط الملل والأمم»، وبالرغم مما تعرض له من « إسقاط الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب...ثم يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين... ولا يزال الكتابُ تتداوله الأيدي الجانية، والأعراض المُفسدة، حتى يصير غلَطاً صِرْفا، وكذباً مُصمتا، فما ظنكم بكتاب تتعاقه المترجمون الإفساد، وتتعاوره الخطاط شر من ذلك أو بمثله...». بالرغم من كل هذا؛ أي من كل هذه الآفات التي يتعرض لها الكتاب، ولا تُبقي من حقيقة إلا البقية الباقية.
« أليس معلوما أن شيئا هذه بقيتُه وفَضْلتُه وسُؤْرُهُ وصُبابَتُه، وهذا مظهرُ حاله على شدّة الضيم، وثبات قوته على ذلك الفساد وتداوُل النقص؛ حَرِيٌّ بالتعظيم، وحقيقٌ بالتفضيل على البنيان، والتقديم على شعر إن هو حُوِّلَ تهافتَ، ونفعُه مقصور على أهله، وهو يُعدُّ من الأدب المقصور، وليس بالمبسوط، ومن المنافع الاصطلاحية وليست بحقيقة بينة، وكل شيء في العالم من هذه الصناعات والأرفاق والآلات؛ فهي موجودة في هذه الكتب دون الأشعار»[1/80].
فبالمقارنة أوضح مَنْ ينتصر للكتاب العربي على الشعر العربي، أن هذا الشعر « إنْ حُوِّلَ تهافتَ، ونفعُهُ مقصورُ على أهله»، كما أنه لا يستجيب للحاجيات الجارية ين الناس في حياتهم العادية، كما أنه لا يستجيب لما تقتضيه الصناعات في العالم، ولا يُعبر عما يجري في مرافق الحياة وما تتطلبه من الآلات؛ من هنا يفضُلُ الكتاب الشعرَ. ويتوجَّه للمُناظرين لهم فيقول:« وهاهنا كتُبٌ هي بيننا وبينكم، مثل كتاب أُقليدس، ومثل كتاب جالينوس، ومثل المجسطي، ممّا تولاه الحجاج [ بن مطر الكوفي]، وكتبٌ كثيرةٌ لا تُحصى فيها بلاغٌ للناس، وإن كانت مختلفة ومنقوصة، مظلومة ومُغيَّرة، فالباقي كافٍ شافٍ، والغائب منها كان تكميلا لتسلُّط الطبائع الكاملة.
فأما فضيلة الشعر فعلى ما حكيْنا، ومنتهى نفعه إلى حيث انتهى بنا القول».[1/80].
وأتى الجاحظ بأنواع الكتب في مجالات المعرفة المتنوعة. ثم عاد إلى الحديث عن قيمة الكتاب في حياة الناس.
فهل كل ما قاله عن الترجمة هو رأي طائفة تريد أن تفضل الشعر، وتستصغر شأن الكتاب؟ وهل تَغَيَّرَ رأيُ الناس فيما قاله الجاحظ؟ وهل جاء من يردُّ هذا القول ويدعي غيره؟ هل كان غرض الجاحظ من تناول موضوع الترجمة، دَفْعُ الفكر الوافد على الساحة الثقافية في العالم العربي آنذاك، وعدم السماح بالترجمة إلا بالشروط الدقيقة والمقررة عند العلماء بها.

هوامش:
1-تنظر رسالته: كتمان السر وحفظ اللسان ( ضمن: رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون – ط1 [ بيروت، دار الجبل، 1991):1/143
2 - ألأرقام الواقعة بين معقوفين هكذا [ ] تشير إلى كتاب الحيوان ( ط2، 1965) أو إلى الكتاب الوارد في السياق.
3 - منقولات الجاحظ عن أرسطو في كتاب الحيوان، نصوص ودراسة: د. وديعة طه النجم – ط1 [ الكويت، منشورات معهد المخطوطات العربية، 1985 ]، ص84 – 85 .
4 - الجاحظ حياته وآثاره: د.طه الحاجري – ط2[ القاهرة، دار المعارف، 1969]، 419.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى