عزالدين الخطابي - بيان الترجمـة (حول أطروحات أنطوان برمان)

" وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونان وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا وبعضها ما انتقص شيئا. ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعانيهم وفطنهم وحكمهم. وقد نقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة ومن لسان إلى لسان، حتى انتهت إلينا وكنا آخر من ورثها ونظر فيها"
الجاحظ، الحيوان، الجزء الأول.

شكلت أعمال المفكر الفرنسي الراحل أنطوان برمان في مجال الترجمة (1) مرجعا أساسيا، ليس فقط بالنسبة للمهتمين بهذا الحقل، بل أيضا بالنسبة للمفكرين والباحثين في حقول الفلسفة واللسانيات والأدب والأنثربولوجيا. ذلك أن الترجمة، كما يراها برمان، هي طاقة ومنبع للخلق والإبداع؛ وبهذا المقتضى يمكنها أن تكون مكانا لاستقبال الغريب [ المتمثل في لغة وثقافة الآخر الأجنبي، وهي أيضا انفتاح وإنصات وتحاور وتفاعل مع الآخر؛ ويتعين عليها مناهضة النزعات المركزية العرقية والثقافية. فما هي أبرز ملامح التصور البرماني للترجمة ؟


1) مناهضة التمركز العرقي

عمل برمان على بلورة تصور مناهض للتمركز العرقي في الترجمة، بغرض الحفاظ على غرابة النص الأصلي. ويعرف الترجمة المتمركزة عرقيا traduction éthnocentique بكونها تلك الترجمة التي ترجع كل شيء إلى الثقافة الخاصة للمترجم وإلى معاييرها، معتبرة كل ما يخرج عن إطارها [ أي كل ما هو غريب étranger] سلبيا، يتعين إخضاعه وتحويله للمساهمة في إغناء هذه الثقافة. ولا ينفصل التحويل عن التمركز العرقي، فهو تلك العملية التي تحيل على نص متولد عن التقليد والمحاكاة الساخرة والاقتباس والانتحال، أي كل نوع من التحويل الشكلي الذي يحدث انطلاقا من نص آخر موجود سلفا. (2)

وقد وقف برمان عند بعض مضار هذا التحويل، ومنها : العقلنة، التوضيح، التطويل، التبسيط، التفخيم، الاختصار، المجانسة، حذف الإيقاع، حذف وجوه التنسيق الجزئية للنص، إزالة تعالقات الألفاظ الخفية، إزالة الارتباطات اللغوية الخاصة، حذف العبارات المألوفة والعبارات الجاهزة ومحو المستويات اللغوية (3). وهذه العمليات لا علاقة لها بالترجمة الحرفية، لأنها تشوه النص الأصلي وتبعده عن مقاصده. لذلك، فإن " ترجمة الحرف" ستكون بمثابة تجاوز لهذه " الانحرافات"، لأنها تسعى لأن تكون " أمينة" تجاه الأصل، قدر المستطاع. فما المقصود بهذه الترجمة ؟

حاول برمان، إبراز مفهومه للترجمة الحرفية، من خلال نماذج ترجمية لكل من شاطوبريان وهولدرلين وكلوسوفسكي؛ مبينا أن الترجمة الحرفية الحقيقية، وليست الناسخة أو المكررة لعبارات الأصل بشكل ساذج، هي التي تسمح بتجاوز معضلات تحويل وتشويه الأصول.

فترجمة الحرف تقوم على مبدأ أساسي، وهو ترجمة العمل الأجنبي بشكل لا يجعلنا نحس بأن هناك ترجمة، أي بشكل يعطي الانطباع بأن المؤلف كان سيكتب نفس الشيء، لو أنه كتب نصه باللغة المترجمة. ولذلك، فإن الترجمة الحرفية، غير المتمركزة عرقيا، تقتضي عملا دؤوبا على اللغة المترجمة وإبداعية من طرف المترجم. فالحرفية littéralité بهذا المعنى، تشتغل على مستوى نسق اللغة ونسق النص، وبهذا فإن الترجمة الحرفية لا تعيد إنتاج الأصل المصطنع، بل المنطق المتحكم في هذا الاصطناع، وهو ما دعاه برمان بالغاية النهائية لهذه الترجمة ذات الأبعاد الأخلاقية والشعرية والفلسفية.

فنحن حينما نتحدث عن الترجمة، نستحضر دوما مسألة الأمانة والخيانة؛ وذلك هو البعد الأخلاقي. ففي هذا المجال، يكون المترجم مأخوذا بروح الأمانة والدقة؛ وهو شغف أخلاقي وليس أدبيا ولا جماليا. ويتمثل هذا الفعل الأخلاقي في الاعتراف بالآخر وتقبله [ ضدا على كل تمركز عرقي ]. ولا ينفصل هذا البعد الأخلاقي عن البعد الشعري الذي دعاه ميشونيك Meshonnic ب " شعرية نحو النص " ودعاه برمان ب " جسدية الحرف" التي تسمح بإبراز أناقة وحيوية وقوة النص المترجم، أي تسمح كما قال غوته Goethe بتشبيبه Verjungung. وطبعا، فإن البعد الفلسفي يظل حاضرا بقوة، لأنه توجد علاقة بين الترجمة والحقيقة، كما أكد ذلك كل من هولدرلين Holderlin وبنيامين Benjamin (4 من منطلق أن المترجم يميل أحيانا إلى تجاوز تعددية الألسن بما في ذلك لسانه الخاص، بحثا عن " لغة خالصة". وينطوي هذا الأمر، على محاولة المترجم المعني، تدارك النقص الذي قد يوجد بلغته، معتقدا بأن اللغة التي يترجم منها، تفوق لغته الخاصة، تركيبيا ومعجميا. [ وهذا هو حال النماذج الثلاثة التي أشرنا إليها؛ نماذج هولدرلين مترجم سوفوكليس، وشاطوبريان مترجم ميلتون وكلوسوفسكي مترجم فرجيل، والتي حللها برمان بعمق في هذا الكتاب. ]

إن هذه المعطيات، تسمح لنا بالانفتاح على مجموعة من القضايا المتعلقة بالترجمة، مثل مسألة الأمانة والخيانة وأخلاقية الترجمة وعلاقتها بالتأويل.


2)عن الأمانة والخيــانــة

في مؤلفه الهام، الموسوم ب" التعرف على الغريب" (5) اعتبر برمان بأن وضعية الترجمة ليست فقط غير مريحة، بل تعتبر مشبوهة أيضا، سواء لدى الجمهور المتلقي أو لدى المترجمين أنفسهم. وتساءل بهذا الصدد : " كيف يمكن اليوم، استخدام المثل الإيطالي الشهير: " الترجمة خيانة" للتشهير بالترجمة، رغم بروز أعمال مترجمة رائعة " ؟ ليستدرك على الفور قائلا : "إن مجال الترجمة ما زال يثير مسألة الأمانة والخيانة. فأن نترجم، كما يقول فرانز روزنفيغ F. Rosenweg معناه أن نخدم سيدين؛ وتلك هي استعارة الخادمة الموجودة في وضعية غير مريحة : فالأمر يتعلق بخدمة العمل المترجم والمؤلف واللغة الأجنبية [ وذلك هو " السيد" الأول] وخدمة الجمهور ولغة الترجمة [ وذلك هو " السيد" الثاني]، وهنا يبرز ما يمكن تسميته بمأساة المترجم". (6) ويجب أن نفهم " المأساة" في مدلولها المأزقي: فإذا اختار المترجم أن يكون " سيده" متمثلا في المؤلف والعمل المترجم واللغة الأجنبية؛ وعمل على فرض هذه العناصر جميعها على فضائه الثقافي [ رغم طابعها الأجنبي]، فإنه سيبدو كخائن في أعين ذويه. وأما إذا اكتفى باقتباس العمل أو محاكاته، وبكلمة موجزة بتحويله، فإنه سيخون حتما هذا العمل وبالتالي جوهر الترجمة ذاته الذي يتمثل في الالتزام بالصورة اللفظية للأصل الأجنبي [ الغريب] والالتزام بالحرفية في نقله.

وهذا سبب من بين أسباب إمحاد المترجم وتواريه بتواضع كبير، خلف الأعمال الأجنبية، بل وعدم تخلصه من تهمة الخيانة، رغم كل المجهودات التي يبذلها لنقل النص بأمانة.

وبتجاوز هذا الوضع المأزقي والمكبوت للترجمة، سيؤكد برمان بأن الهدف الأساسي لكل ترجمة، هو إقامة علاقة مع الآخر [ المختلف والغريب] على مستوى المكتوب وإخصاب الثقافة الخاصة عبر تلاقحها مع الثقافة الأجنبية. ويقتضي هذا الهدف، خلخلة البنية المتمركزة عرقيا داخل الثقافات والمجتمعات التي تريد أن نجعل من ذواتها كيانات خالصة غير ممزوجة؛ على اعتبار أن كل ثقافة تسعى إلى أن تكون مكثفة بذاتها، حتى تتمكن عبر هذا الاكتفاء المتخيل، من بسط إشعاعها وسيطرتها على الثقافات الأخرى. (7)

إن الترجمة تستدعي إقامة علاقة تبادلية وتفاعلية بين الذات والآخر، وإلا فقدت أساس وجودها؛ فهدفها الأخلاقي يتناقض مع الهدف الاختزالي للثقافة المتمركزة عرقيا. فما الذي يقصده برمان بأخلاقية الترجمة؟


3)حول أخلاقيــة الترجــمة

يقول برمان : "إن الترجمة تنتمي في الأصل، إلى البعد الأخلاقي لأن غايتها أخلاقية. فهي ترغب عبر ماهيتها ذاتها، في جعل الغريب منفتحا كغريب على فضائه اللساني الخاص. ولا يعني هذا، أن الأمور تمت تاريخيا ودوما على هذا الشكل؛ بل على العكس، فإن الغاية التملكية والاستحواذية المميزة للغرب، غالبا ما عملت على خنق الميل الأخلاقي للترجمة. لأن منطق عين الذات Logique du même، كان هو المنتصر دائما. ومع ذلك، فإن فعل الترجمة يرتبط بمنطق آخر، هو منطق الأخلاق. لهذا نقول، مستعيرين عبارة جميلة لشاعر جوال، إن الترجمة هي في ماهيتها مقام ما هو بعيد" (8)

وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن تعرف الترجمة فقط بألفاظ التواصل وتبليغ الرسائل، كما أنها ليست نشاطا أدبيا وجماليا خالصا. فالكتابة والتبليغ يكتسبان معناهما عبر الهدف الأخلاقي الذي ينظمهما. وتتمثل إحدى المهام الأساسية لنظرية الترجمة، في تحديد هذا الهدف الأخلاقي بالضبط وبالتالي في إخراج الترجمة من الشرنقة الإيديولوجية التي تتواجد فيها. " لكن هذه الأخلاقية الإيجابية تفترض بدورها شيئين اثنين وهما: الأخلاقية السلبية والممارسة التحليلية. وتعني الأخلاقية السلبية نظرية في القيم الإيديولوجية والأدبية، وهدفها هو صرف الترجمة عن مقصدها الحقيقي [...] وأنا أدعو ترجمة رديئة، تلك التي تقوم بنفي ممنهج لغرابة العمل الأجنبي، بحجة التبليغ". (9)

وإذن، فإن الأخلاقية السلبية في حاجة إلى متمم لها، وهي الممارسة التحليلية للترجمة. وبالنسبة لبرمان، فإن الأمر يتعلق بتحليلية ذات معنى مزدوج. فهناك تحليل لنسق تحريف النص الأصلي، جزءا جزءا، وهو تحليل بالمعنى الديكارتي لكن، هناك أيضا تحليل بالمعنى السيكولوجي، أي تحليل نفسي Psychanalyse، عل اعتبار أن هذا النسق لا شعوري، وهو يتجلى عبر ميولات وقوى تحرف الترجمة عن هدفها الخالص. لذلك، فإن التحليلية Analytique، تسعى إلى إبراز هذه القوى والكشف عن مرتكزاتها. وهي تهم في المقام الأول، الترجمة التحويلية والمتمركزة عرقيا، حيث تمارس القوى التحريفية بكل حرية وتدعم ثقافيا وأدبيا.

وبالنسبة لبرمان، فإنه من اللازم أن تنضاف الممارسة التحليلية إلى أخلاقية الترجمة. "فالمترجم مطالب بالقيام بممارسة تحليلية، يكتشف من خلالها الأنساق المشوهة التي تهدد بطريقة لا واعية، اختياراته اللسانية والأدبية. وتنتمي هذه الأنساق إلى سجلات اللغة والإيديولوجيا والأدب ونفسية المترجم إلى الحد الذي يمكن معه الحديث عن تحليل نفسي للترجمة مثلما كان باشلار Bachelard يتحدث عن تحليل نفسي للعقل العلمي. ففي الترجمة، مثلما في العلم، هناك نفس المجاهدة ونفس العملية المتمحورة حول الذات" (10)
ومن الممكن أن تقدم هذه الممارسة التحليلية، معلومات عن العمل المترجم وعن علاقته بلغته الخاصة وباللغة عموما. وهي تعمل بذلك، على شحن لغة النص المترجم أو لنقل على تجديد شباب هذا النص؟ حسب تعبير غوته -، حيث يتجدد العمل المترجم على مستوى منطوقه وتنبعث الإمكانيات الخفية للنص بما يزيده غنى. وهنا تطرح العلاقة بين عملية الترجمة والتأويل ويتبادر في هذا الإطار السؤال التالي : ما هي أهمية وحدود التأويل في الممارسة الترجمية ؟

4) الترجمــة والتأويــل

أثناء حديثه عن إرادة الانفتاح على النصوص الثراثية في الغرب [ الكتاب المقدس و الفلسفة الإغريقية مثلا]، أقر برمان بأن الضرورة أصبحت ملحة لإعادة ترجمة هذه النصوص وقراءتها من جديد، اعتمادا على معطيات الفلسفة والهرمونيتيقا واللسانيات والتحليل النفسي والإثنولوجيا. فمهمة الفكر أصبحت " مهمة ترجمية " ويكفي هنا استحضار قراءة هايدجر للإغريق. فقد اعتبر هذا المفكر الألماني بأن الترجمة ليست فقط تأويلا للنص Auslegung ولكنها أيضا تقليد تراثي uber lieferung. وبهذا المقتضى، فإن الترجمة تنتمي إلى أكثر الحركات حميمية في التاريخ. (11)

وما يهمنا بهذا الخصوص، هو الارتباط الحاصل بين الترجمة والتأويل من منطلق أن فعل الترجمة مقترن بالفهم. وهذه هي الفكرة التي دافع عنها جورج شتاينر G. Steiner في مؤلفه الهام " ما بعد بابل" وصاغها بشكل بليغ في عبارة وجيزة وهي : "أن نفهم معناه أن نترجم" (12) ففعل الترجمة يقتضي فهم وإدراك معاني النص الخاضع للترجمة، أي تفكيك رموزه ونقل دلالاتها إلى لغة أخرى. (13). وتكمن صعوبة النقل كما هو معلوم، في الاختلافات بين اللغات وتفردها وتميز رموزها المعبرة عن العالم. وهذه هي "مشكلة بابل" [ أي بلبلة الألسن]، فلكي يمر مضمون رسالة اللغة الأصلية ويتم استيعابه، يتعين على المترجم، تفكيك رموزه وإخضاعها لسياقات ومقتضيات اللغة المستقبلة. (14)

وقد تبنى بول ريكور P. Ricoeur هذه الأطروحة معلنا عن اتفاقه التام معها، انطلاقا من شعار : " قول نفس الشيء بطريقة أخرى". وهو ما نقوم به عندما نعرف كلمة بالاعتماد على كلمة أخرى من نفس المعجم؛ وعندما نعيد صياغة حجة غير مفهومة، حيث نقول إننا نفسرها ونؤولها. والحال، أن قول نفس الشيء بطريقة أخرى " أو " قوله بصيغة أخرى"، هو من صميم عمل المترجم. (15) لذلك، فإن عملية الترجمة هي بمثابة اكتشاف للآخر، أي للغته ولثقافته، وهي بسط لثنايا أفكاره وتفسيرها وتأويلها وإعادة صياغتها.

فعملية الفهم هي بمثابة اختراق للنص؛ وهو ما انتبه إليه هايدجر حينما اعتبر الفهم كاستيلاء وكامتلاك وبالتالي كعنف : " لأن الفهم والتمثل والتأويل بالنسبة لهايدجر، تشكل مجتمعة صيغة هجومية موحدة وضرورية [...] وبخصوص الترجمة من لغة إلى أخرى، فغن مثل هذه الاستراتيجية هي عبارة عن غزو واستهلاك إلى حد الإنهاك". (16)

فإذا كان من غير الممكن تجنب الترجمة كفهم وكتأويل، فإنه لابد وأن يقترن ذلك بالعنف. وقد لخص هايدجر هذا الأمر بشكل بليغ قائلا : " لأجل إدراك ما وراء الكلمات ودلالاتها، ولابد للتأويل من أن يستعمل العنف. لكن، لا يجب خلط هذا الأخير بالاعتباطية الخرقاء؛ فعلى التأويل أن ينشط ويقاد بقوة فكرة ملهمة [ روحية]. وقوة هذه الفكرة، هي التي تسمح للمؤول بأن يغامر بالثقة في الانهمار السري لعمل ما؛ قصد التمسك بما لا يعبر عنه، محاولا العثور على التعبير المناسب. وهكذا تتأكد الفكرة الموجهة نفسها بفعل قوة إضاءتها" (17)
نستنتج من ذلك، أن عنف التأويل، يرجع إلى تضمن كل ملفوظ لمعاني عديدة؛ لذلك لا يمكن أن يستقر فهم المتلقين لنص معين على معنى واحد. كما أن المترجم لا يمكنه أن يتحرر من السياقات المحددة لفعاليته اللسانية والحجاجية والفكرية؛ وإن كان من الممكن أن يشعر بفقر لغته أمام الغني اللغوي للعمل الأجنبي. ومع ذلك، فبإمكان الترجمة المساهمة في إغناء النص الأصلي وتجديد منطوقه، وهو ما سبقت الإشارة إليه بخصوص ترجمات هولدرلين وشاطوبريان وكلوسوفسكي [ وأيضا بودلير Beaudelaire المترجم لإدغار ألان بو E.A. Poe]. وبخصوص هذه النقطة الأخيرة، أثار دريدا فكرة طريفة حول الترجمة، مفادها أن النص المترجم يعتبر محظوظا، كيفما كانت نوعية ترجمته؛ فليس المترجم هو المدين لصاحب النص الأصلي، بل إن هذا الأخير هو المدين لمترجمه.

وعبر قراءة متعمقة لنص فالتر بنيامين الموسوم ب " مهمة المترجم"، سيتوقف عند ثلاث أطروحات وهي :
- كون مهمة الترجمة لا ترجع في الأساس إلى نظرية التلقي
- كون المآل الأساسي للترجمة ليس هو التواصل
- كون العلاقة بين النص الأصلي والنص المترجم، ليست عبارة عن تمثيل أو إعادة إنتاج، لأن الترجمة ليست صورة ولا نسخة. (18)
وسيتساءل دريدا انطلاقا من هذه الأطروحات : كيف سيتشكل النص الذي ستتم ترجمته في غياب التلقي والتواصل والتمثيل ؟

وبأي معنى نتحدث عن التزام المترجم تجاه المؤلف وفي أي شيء سيكون ملزما، وما هي دلالة الدين dette والهبة don والبقاء والإمحاء ضمن صيرورة الترجمة ؟

وبعد مناقشة معمقة لهذه الأطروحات والتساؤلات، سيلاحظ بأنه " لا شيء أكثر خطورة من الترجمة. فالهدف الأساسي لهذه الأخيرة ليس هو نقل هذا المحتوى أو ذاك، بل هو ملاحظة التلاؤم القائم بين اللغات وإبراز إمكانياتها الخاصة وتفاعلها فيما بينها في نفس الآن؛ وذلك ما يدعوه بنيامين ب " العلاقة الحميمية" بين اللغات. وتفيد هذه الحميمية وجود تقارب أصلي بين اللغات من منطلق أنها ليست غريبة عن بعضها البعض، بل هي، وبغض النظر عن صيرورتها التاريخية، متقاربة بشكل قبلي apriori من حيث هدفها أو قصديتها، أي ضمن ما تريد أن تقوله. فلكي يتم بلوغ هذه القرابة أو التقارب، يتعين التأمل في مفهوم الأصل، ليس في معناه التاريخي والطبيعي، بل في دلالته المجردة. ويتساءل دريدا في هذا الإطار أين يمكننا البحث عن هذا التقارب الأصلي ؟ ليجيب، بأننا نراه معلنا ضمن ثنى الأهداف ploiement وإعادة ثنيها reploiement وبسطها المشترك Co-déploiement. فعبر كل لغة، هنالك شيء ما مستهدف، يعتبر واحدا بالنسبة لكل اللغات؛ لكن ولا واحدة باستطاعتها بلوغه بشكل منفرد. فليس بإمكانها ادعاء بلوغه والوعد به، إلا باستعمال مشترك لكل أهدافها القصدية المتكاملة والمتمثلة في اللغة الخالصة.

إن المستهدف داخل عملية الترجمة هي اللغة ذاتها كحدث بابلي وليست اللغة الكونية بالمعنى اللايبنتزي Leibnizien ولا حتى اللغة الطبيعية المتفردة، بل الكينونة اللغوية للسان L'être langue de la langue، أي تلك الوحدة بدون هوية ذاتية والتي مفادها أن هناك لغات وألسن. إنها لغة الحقيقة التي لا تعني لغة حقيقية مطابقة لمحتوى خارجي، بل لغة تحيل فيها الحقيقة على ذاتها فقط، أي الحقيقة كأصالة، سواء كانت منتمية إلى النص الأصلي أو إلى النص المترجم. (19)

هكذا، سيستخلص دريدا، كما استخلص بنيامين قبله، بأن الترجمة هي وحدها القادرة على إخراج اللغة الخالصة من سجنها والكشف عنها وتطويرها. لذلك سنظل نقول : "إن كل لغة تبدو ضامرة في وحدتها ونحيفة ومعاقة. وبفضل الترجمة، أي بفضل هذه الإضافة اللسانية التي تقدم عبرها لغة معينة وبطريقة متناغمة، ما تحتاج إليه لغة أخرى، فإن التلاقي بين اللغات يضمن نموها. ويتم الإعلان عن ذلك في عملية الترجمة، عبر خلود الأعمال أو النهضة اللامتناهية للغات" (20)

إن مثل هذا البقاء سيضيف شيئا إلى الحياة، أكثر من البقاء على قيد الحياة. فالعمل المترجم لا يحيا لمدة أطول فقط، بل يحيا أكثر وأحسن، متجاوزا إمكانات مؤلفه. وعلى الترجمة أن تساهم في تحقيق مطلب النمو والإشعاع والبقاء الصادر عن الأعمال واللغات. ذلك أن العمل الأصلي، كما يقول دريدا يطالب دوما بالترجمة، حتى ولو لم يكن هناك مترجم قادر على الاستجابة لهذا الأمر الذي هو بمثابة رغبة داخل بنية الأصل، من أجل تفعيل التلاؤم والتلاحم بين اللغات، عبر تفاعل كل من الحرف والرمز والحقيقة. (21)

وهذه نقطة هامة، أثارها برمان أيضا في مؤلفه الجميل ? المنشور بعد وفاته ? والموسوم ب " عصر الترجمة، تعليق على نص" مهمة المترجم " لفالتر بنيامين" (22). ففي إطار حديثه عن ضرورة الترجمة وقيمتها، أقر بما يلي : " كان بنيامين يدرك مثلنا، بأن مقام اللغة مهدد اكثر من أي وقت مضى؛ وكان يرى مثلنا بأن الترجمة هي شكل من أشكال المحافظة على هذا المقام" (23)
وبهذا المعنى، تساهم الترجمة في تحرر الماهية الخالصة للغة، المتمثلة في الحرف، لأنها تتضمن طاقة إبداعية هائلة، تتحول بمقتضاها من نسخ أو تشويه أو خيانة لغة وثقافة الآخر، إلى مقام لاستقبال الغريب. وبالتالي، فإنها تعمل على تحقيق تلك الغاية الأخلاقية التي تحدث عنها كل من ريكو ودريدا ألا وهي الضيافة؛ والمقصود بها استقبال لغة لأخرى بحفاوة داخل مقامها، مهما بعد.



الهــــوامــــش

1)صدرت للمفكر الفرنسي أنطوان برمان 1942-1991 الأعمال التالية :
- L'épreuve de l'étranger, culture et traduction dans l'Allemagne romantique, Paris, Gallimard, 1984.
- La traduction et la lettre ou l'auberge du lointain, in les tours de Babel, collectif, Trans-Europ- Repress, 1985.
وقد أعيد نشره، بدار النشر لوسوي Ed. Le Seuil، سنة 1999وهي الطبعة التي اشتغلنا عليها.
- » De la translation à la traductions «, dans TTR, vol 1, n?1, 1988.
- Pour une critique des traduction :John Donne, Paris, Gallimard, 1995.
- L'Age de la traduction, » la tâche du traducteur « de walter Benjamin, un commentaire, texte établi par Isabelle Berman et valentina Sommella, Presses universitaires de vincennes, coll. intempestives, 2008.
2) Antoine Berman, La traduction et la lettre, op. cit., p. 29/30
3) ibid pp 53/68.
4) أنظر الفصل الخامس من الكتاب : " هولدرلين أو الترجمة كتجل"، وانظر أيضا النص الهام لفالتر بنيامين وعنوانه " مهمة المترجم" ضمن :
Walter Benjamin, La tâche du traducteur, in Mythe et violence, Denoêl, Paris, 1971.
5) Antoine Berman, L'Epreuvre de l?étranger, op. cit.
6) ibid., p. 15
7) ibid., p. 16
8) Antoine Berman, La traduction et la lettre, op. cit., p. 75/76
9) A. Berman, L?Epreuve de l'étranger, op. cit., p. 17
10) ibid., p. 19
11) ibid., p. 282
12) G. Steiner, Après Babel, une poétique du dire et de la traduction, chap. 1 » Comprendre c'est traduire «, Albin Michel, Paris, 1998, pp. 29/90.
13) ibid., p. 17
14) ibid., p. 64
15) Paul Ricoeur, le Paradigme de la traduction, Revue Esprit, n? 253, juin, 1999, p.17
16) G. Steiner, Après Babel, op. cit., p. 405
17) M. Heidegger, Kant et le problème de la métaphysique, Gallimard, Paris, 1953, p. 256.
18) J. Derrida, Des tours de Babel, in Psyché, inventions de l'autre, Galilée, Paris, 1987, p.215.
19) ibid., p. 232
20) ibid., p. 233
21) ibid., p. 221
22) Antoine Berman, L'Age de la traduction, op. cit.
23) ibid., p. 24

د. عزالدين الخطابي


6/5/2011
أعلى