عبد السلام بنعبد العالي - في مرآة الآخر…

هل من الممكن أن نطرق قضايا الترجمة ومسألة الأنا والآخر فيما وراء الأمانة والخيانة وبعيدا عن مفهوم ما عن الجدل وعن نظرية الاستلاب؟ للإجابة عن هذا السؤال المزدوج، أقترح عليكم أن ننطلق من تأمل نصين أساسيين، أحدهما مأخوذ من شذرات ف.شليجل، والآخر من خواطر الصباح لعبد الله العروي. يقول شليجل: "يتسم العرب بطبع مجادل إلى أبعد الحدود. فهم، من بين الأمم جميعها، أكثر الأمم قدرة على النفي والإتلاف. ما يميز فلسفتهم في روحها هو ولعهم المرضي بإتلاف الأصول والقضاء عليها بمجرد أن تتم الترجمة"(1).

وكتب عبد الله العروي في خواطره: "في الوقت نفسه وصلت رسالتان من بيروت تحملان الطلب نفسه: الترخيص بنقل الإيديولوجيا إلى العربية. ماذا كان يكون رد القارئ المشرقي لو ألفت الكتاب أصلا بالعربية كما كانت نيتي أول الأمر؟ الإهمال بدون شك. كل اتصال بيننا –المغاربة أو العرب أو المسلمين- يمر عن طريق الغرب، كما هو حال الأوروبيين اليوم بالنسبة لأمريكا. هذا هو مؤدى الكتاب في الواقع"(2).

الإشكالية التي يشترك في طرحها هذان النصان تتعلق بعلاقة الترجمة بالآخر. فبينما يحاول النص الأول أن يقف عند العلاقة التي أقامتها الثقافة العربية الكلاسيكية بالنصوص التي نقلتها إلى لغتها، يحاول الثاني أن يعين العلاقة التي تقيمها الثقافة العربية المعاصرة مع ذاتها وآخرها، والدور الذي تلعبه الترجمة في ذلك.

لا يهمنا هنا، بطبيعة الحال، الوقوف عند نص شليجل في محتواه الإيديولوجي. كما أننا لسنا بحاجة إلى اختبار مدى صدقه في حرفيته، ولنكتف بالتساؤل عما إذا كانت النتائج التي تتمخض عما يثبته تفصح عن واقع الترجمة في ثقافتنا التقليدية؟

لتحديد تلك النتائج لنتساءل في البداية عما يعنيه شليجل بإتلاف الأصول، أو كما يقول هو: "إتلافها والإلقاء بها جانبا"؟ إنه يعني أن الثقافة العربية الكلاسيكية كانت، عندما تنقل النص إلى لغتها، تؤقلمه وتضمه إليها، كانت ترضخه وتقضي على عنصر الغرابة فيه فتبتلعه وتدخله في دائرة الأنا شعورا منها أنه لم يعد آخر. لذا فسرعان ما تستغني عنه كأصل بعد أن "ترقى" به إلى لغتها.

في إطار علاقة القوة هاته، والتي يقهر فيها كل اختلاف، نفهم أن تولد تلك الترجمة مكتملة منذ الوهلة الأولى، كما نفهم ألا تتم الترجمة إلا من جانب واحد، فتنطلق من اللغات الأخرى نحو العربية وليس العكس.

إن الثقافة الكلاسيكية كانت تعتبر أن لغة الثقافة هي العربية، لذا فإن القدماء الذين كان حملة العلم فيهم "أكثرهم العجم"، "وإن كان منهم العربي في نسبته، فهو عجمي في لغته" كما قال ابن خلدون، إن العرب كانوا يشعرون على رغم كل ذلك أنهم لم يكونوا "يخاطبون إلا قراء يتقنون العربية. والترجمة الوحيدة التي كانوا يتصورونها هي إما النقل إلى العربية أو الشرح والتعليق والحاشية، أي ترجمة داخل اللغة نفسها". إن شعور القدماء بنوع من الاكتفاء الذاتي، وبأن أدبهم لا يهم في مجمله إلا من يتقن العربية جعلهم يعمدون إلى ضرب الحصار على ثقافتهم، ولم يكتفوا بنبذ الترجمة من تفكيرهم، بل "حرصوا، من غير عمد، على جعل مؤلفاتهم غير قابلة للتحويل"(1)، فطوروا أساليب تستعصي على النقل.

لعل هذا الانغلاق هو ما يفسر كون كبار فلاسفتنا لم ينتبهم الشعور مطلقا بالربط بين إعادة التأويل والشرح، وبين إعادة الترجمة، والرجوع من جديد إلى الأصول. يتعذر علينا نحن الآن أن نتفهم عدم شعور فيلسوف مثل ابن رشد، وهو يقرأ (أو لنقل بتعبير معاصر: وهو يعيد قراءة) المعلم الأول، بضرورة إعادة الترجمة على غرار ما نلحظ اليوم عند كبار المفكرين. لكن ما يثير استغرابنا أكثر هو استمرار هاته العلاقة عند بعضنا حتى اليوم. أليست هاته هي العلاقة التي ما نزال نقيمها مع النصوص الإغريقية؟ فمن منا يشعر، وهو يعيد قراءة جمهورية أفلاطون أو أورغانون أرسطو، بضرورة الرجوع إلى هاته النصوص في أصولها؟ بل إننا نلاحظ امتداد هاته العلاقة الملغية للآخر حتى مع النصوص المعاصرة. ويكفي أن نتذكر بعض النصوص التي نقلت إلى العربية، ومنذ عهد غير قريب، كزرادوشت نيتشه أو فرتر غوته، دون أن تعرف امتدادا أو تثير انتباها، أو تطرح إشكالا، أو تلج شبكات جديدة من العلائق، أو تدخل في حوار مع الثقافة المنقولة إليها؟ إنها نصوص تنقل إلى العربية نقلا ولا تترجم إليها.

وقبل أن نعود للتساؤل عما قد يكون وراء ذلك، لنحاول تحديد العلاقة التي تربط الثقافة العربية المعاصرة بآخرها من خلال نص العروي.

فمقابل الذوبان للآخر في الأنا الذي رأينا أنه طبع الثقافة العربية الكلاسيكية، نجد شكلا آخر للذوبان يطبع الثقافة العربية المعاصرة يتم في اتجاه معاكس. يقول العروي إنه لو لم يكتب مؤلفه في الإيديولوجية العربية المعاصرة بغير العربية لكان مصير ذلك المؤلف في العالم العربي هو الإهمال.

لعل أهم نقطة يؤكدها العروي هنا هي أن المعني بالنص، حتى عندما يكتب بلغة أجنبية هو القارئ العربي. هنا تغدو الترجمة هي الطريق الموصلة إلى القارئ المعني. لكي يتلقى القارئ العربي النص يحسن، بل ينبغي أن يصله مترجما، ينبغي أن ينقل إليه عبر لغة أخرى. فعلى عكس الموقف الأول، هنا لا بد أن يتدخل الآخر وسيطا بين العربي المؤلف والعربي القارئ، بين العربي المبدع والعربي الناقد. في مكان آخر من الخواطر، وتفسيرا لعدم إقدام العرب على الكتاب نفسه يقول العروي: "عندما يتعرض له الفرنسيون بالنقد سيجترئ عليه الكثيرون بالاعتماد على ردود الخصم ويكون في ذلك السلوك إثبات لما جاء في الكتاب من أن العرب يجيبون دائما عن أسئلة يطرحها الغرب". فكأن المثقف العربي لا يمر إلى ذاته اليوم إلا عبر الآخر، ولا يتكلم لغته إلا عبر لغة أخرى. فلا معنى هنا لما نكتبه أو نقرأه إلا في ترجمته. إننا أصبحنا نكتب كي نترجم، مثلما أننا نترجم كي نكتب. فمن منا يستطيع اليوم أن يكتب من غير أن يترجم. معظم نصوصنا ترجمات. كتاباتنا في معظمها كتابات ثانية. أصولنا فروع. كيف يمكن والحالة هاته ألا نميز بين البدايات الزمنية والأصول؟!

والأغرب من ذلك أن منا من يعمل هو نفسه، بعد أن يكتب بغير العربية، على أن يترجم هو نفسه ما قد كتب. وهذا ما سيحصل للأستاذ العروي وبالضبط مع هذا المؤلف عينه. يشير عبد الفتاح كيليطو في كتابه الأخير، أن بعض الروائيين العرب يكتبون وهم يفكرون في مترجمهم المحتمل. إنهم يبدعون بدلالة الترجمة المحتملة "فيعملون على تيسير مهمة المترجم باجتنابهم التعابير والإحالات التي قد لا تتلاءم مع أسلوب لغة أخرى(1). وغالبا ما ينتظرون ظهور ترجمة ما كتبوه، أو يعملون هم أنفسهم على تيسير الظروف لترجمتها إلى أكثر من لغة، وحينئذ وحينئذ فحسب، يشعرون بالفعل بقيمة أعمالهم. ندرك دلالة ذلك ومغزاه إذا علمنا أن كاتبا مثل الجاحظ أو شاعرا مثل المتنبي أو فيلسوفا مثل ابن رشد لم يكن يأمل، ولم يكن يتوقع، بل لم يكن يتصور، وبالأولى لم يكن يعمل على أن ينقل إلى لغة غير العربية.

لقد غدت إبداعاتنا تتم بدلالة الترجمة فكأن الأصول هنا مفعول لترجماتها، فحتى إن كان لا بد وأن نتكلم عن خيانة فربما ينبغي أن نقول مع بورخيس "إن الأصول هي التي تخون ترجماتها".

نقطة هامة لا ينبغي أن نمر عليها وردت مرتين في نصي الخواطر اللذين أوردناهما، وهي التي يؤكد فيها الأستاذ العروي أن واقع الترجمة في العالم العربي يؤكد محتوى كتاب الإيديولوجيا. إن واقع الترجمة هو واقع الفكر العربي، واقع الثقافة العربية المعاصرة. فهذه الثقافة اليوم لم تعد تدرك ذاتها، ليس فقط إلا عبر آخر، وإنما عن طريق الإدراك الذي للآخر لها. فهي إذن لا تحيا الترجمة كحركة تأليف ونشر، وإنما كأسلوب عيش ونمط وجود.

وهكذا فقد أصبحنا لا نقرأ أدبنا ولا نكتبه، إلا مقارنين موازنين "مترجمين". فليست المقارنة وقفا على بعض المتخصصين منا. إنما تعم كل من يقترب من الثقافة العربية ويقاربها. إن القارئ الذي يطلع على نص عربي، سرعان ما يربطه بصفة مباشرة، أو غير مباشرة، بنص أوروبي أو لنقل بالأولى إنه لا يطلع عليه إلا بعد أن يربطه بنص أوروبي: وهكذا فهو لا يقرأ حي بن يقظان إلا ليقارنه بروبنسون كروزو، ولا يقرأ المتنبي إلا ليبحث فيه عن نيتشه، ولا رسالة الغفران إلا ليجد فيها الكوميديا الإلهية، ولا اللزوميات إلا بحثا عن شوبنهاور، ولا دلائل الإعجاز إلا بحثا عن سوسور، ولا المنقذ من الضلال إلا بحثا عن ديكارت، ولا تهافت الفلاسفة إلا بحثا عن هيوم، ولا المقدمة إلا بعين أ.كونت. "وويل للمؤلفين الذين لا نجد من يقابلهم عند الأوروبيين"(1).

إلا أن هذا الربط يذهب أبعد من ذلك كما نعلم، وهو يحاول ترجمة الأجناس الأدبية ذاتها، ويتساءل عما يقابل جنس "الرواية" في الأدب العربي، وعما يقابل "المسرحية" وعما يقابل l’essai، كما يتساءل هل للمقامة ما يترجمها خارج الأدب العربي؟ وهل لعلم العمران ما يضاهيه؟! الآن وقد استخلصنا النتائج التي تتمخض عن النصين اللذين جعلناهما منطلقا لتأملنا، لنتساءل عما يجمع بينهما؟ ونحن نستطيع أن نؤكد، بناء على ما سبق أن الثقافة العربية في الحالتين كلتيهما تلغي الاختلاف إما بجر الآخر نحو الذات، أو بإذابة الذات في الآخر، بحيث تكون مهمة الترجمة أساسا هي توليد القرابة واستبعاد الغرابة.

لسنا هنا مطلقا بصدد التحسر على هوية ضائعة، وتحويل نظرية الترجمة إلى فرع من فروع نظرية الاستلاب. إننا نسعى إلى طرح مسألة الترجمة فيما وراء الأمانة والخيانة، لكن أيضا بعيدا عن كل نزعة إنسية، ودون إغفال وضعية الصراع، الوضعية البابلية التي تعيشها اللغات، وضعية البلبلة وسوء التفاهم الأصلي الذي يطبع كل قراءة وكل تأويل وكل ترجمة. إننا نروم إقحام الترجمة ضمن علائق القوة التي تحكم الكائن، وتطبع الإرادات وتتحكم في اللغات وتسود الثقافات. ذلك أن الأمر لا يتعلق بلعنة تصيب ثقافة دون أخرى. وفي هذا الصدد لا بد أن نرجع إلى جملة اعتراضية وردت في نص العروي الذي انطلقنا منه، والتي يشبه فيها علاقة الثقافة العربية بالثقافة الغربية، بعلاقة الأوروبيين بأمريكا. ويكفي أن نذكر أن كثيرا من الكتاب الفرنسيين اليوم أصبحوا، هم كذلك، يأتون إلى القارئ الفرنسي عبر اللغة الإنجليزية. ولعل أهمهم بيير بورديو وجاك دريدا (الذي كتب نصه الأساسي حول الترجمة باللغة الإنجليزية).

لا مفر للترجمة إذن أن تتم بين لغات تربط بينها علائق قوة. هذه العلائق قد تستثمر في بعض الأحيان لتدخل في عراك مع اللغة الأجنبية لقهرها واستبعاد كل ما في النصوص يتنطع ويمتنع عن الرضوخ. هنا لا تكون الترجمة استشكالية. إنها لا تنهزم أمام النص ولا تحاول أن تقف عند "ما تتعذر ترجمته l’intraduisible ، عندما يمكن أن يشهد على غرابة وبعد ومسافة و"غيرية"، وبالتالي على امتناع عن الرضوخ والانصياع. لا تكون الترجمة هنا استراتيجية لتوليد الفوارق تفتح اللغة على "خارج"ها، وتفتح الغريب، بما هو غريب، على فضاء اللغة المترجمة. ذلك أن هذا الانفتاح رهين بالاعتراف بالآخر كآخر، والوقوف عند "ما تتعذر ترجمته" كما يؤكد غوته في إحدى رسائله عندما يكتب "لا ينبغي أن نخوض في عراك مباشر مع اللغة الأجنبية. ينبغي أن نتوصل إلى ما لا يقبل فيها الترجمة، وأن نبدي شيئا من الاحترام إزاءه. إذ في هذا تكمن قيمة كل لغة، ويتجلى طابعها الخاص".

هذا الوقوف عند "ما تتعذر ترجمته" يتنافى بطبيعة الحال مع إتلاف الأصول. إنه على العكس من ذلك اعتراف ضمني بالحاجة الدائمة إلى الأصول والرجوع إليها والاستئناس بها. إنه تأكيد بأن الترجمة إبداع متواصل وأنها لا يمكن أن تكون الآخر ذاته
le même de l'autre. وأنها ليست هي النص الذي كان سيكتبه المؤلف لو أنه تكلم لغة المترجم. وأن المسافة بين الذات والآخر لا يمكن أن تلغى إلغاء تاما، وأن النص المترجم ما يفتأ يعلق بترجمته، وأن كل ترجمة تظل شفافة لا تستبعد النص المترجم ولا تصبح بديلا عنه.

لعل هذا ما يفسر ظهور منشورات مزدوجة اللغة. ولعل هذا هو ما يفسر غيابها في ثقافتنا وأقصد تلك المؤلفات المرايا التي تضع أمام قارئها ومنذ البداية، النص وترجمته، الأصل ونسخته، وجها لوجه، معترفة بشفافية النسخة وإحالتها الضرورية الدائمة إلى النص الأصلي، طالبة من القارئ أن ينتج نصا ثالثا ويولده بمقارنة النصين وعقد "قران" بينهما.

هذا العقد، ككل عقد، يحترم الطرفين كطرفين. أي أنه يكرس الغرابة في الوقت الذي ينتج فيه قرابة. ذلك أن الأصول إذ تبقى وتدوم سرعان ما تدخل في مسلسل الاستنساخ اللامتناهي فتتجدد وتتحول وتغترب. عنصر الغرابة والتحويل يبعث في النص المترجم حيوات أخرى، ويحوله ويجدده ويقحمه في شبكة جديدة من العلائق، ويجعله منفتحا على ثقافات لم يكن ليتوقع الحياة داخلها. كتب غوته بمناسبة ظهور الترجمة الإنجليزية لإحدى قصائد شيلر: "إن المترجم لا يسدي خدمة لأمته فحسب، وإنما حتى للأمم التي تتكلم اللغات التي ترجم أعمالها. فقد يحدث أن تمتص أمة من الأمم رحيق عمل من الأعمال وتستنفذ قواه، فلا يبقى مجال للتمتع بذلك العمل ولا للاستفادة منه والارتواء من معينه. وهذا يهم الألمان الذين سرعان ما يلتهمون ما يعرض عليهم من أعمال، فيقضون عليها ويذيقونها شتى محن التقليد والمحاكاة. لذا فلا غرابة أن تبدو لهم إبداعاتهم الخاصة وقد انتعشت واسترجعت حياتها بفعل ترجمة جيدة". هذا الشعور يعبر عنه غوته نفسه بعد أن اطلع على ترجمة لاتينية لإحدى قصائده: "لم أقرأ منذ سنين هذه القصيدة التي أعزها من بين جميع قصائدي. والآن أنا أتأملها كما لو كنت أتأمل مرآة. والمرآة كما نعلم تتوفر على قوة سحرية جبارة. ها أنا أرى الآن إحساسي وشعري، في الوقت ذاته، مطابقا لنفسه متبدلا متحولا يقطن لغة أكثر اكتمالا. لقد تبينت أن اللاتينية تنحو نحو المفهوم فتحول ما يظل في اللغة الألمانية مقنعا متواريا بنوع من البراءة".

يجسد لنا غوته العظيم في هذا النص الكثيف لا فعالية الترجمة وقوتها المرآتية الجبارة على التحويل وتوليد السيمولاكرات فحسب، وإنما أساسا الطابع الجدلي الذي يطبع كل ترجمة. ذلك أن الاختلاف الذي يضعه غوته هنا بين اللغة الألمانية واللغة اللاتينية، بين الفكر الذي يعتبر الطبيعة احتشاما وتقنعا وتواريا، وبين ذاك الذي ينحو نحو المفهوم والوضوح، إن هذا الاختلاف يتخلل كل ترجمة بل يطبع عمليات توليد المعاني. كل ترجمة هي جدل عنيف بين الروح الجرمانية والروح اللاتينية، بين الفكر التركيبي الذي يجعل المعاني نتائج جهد وعراك وعنف، وبين الفكر التحليلي الذي يبلغها في حضورها ووضوحها، بين الفكر الذي يضع سوء التفاهم أساسا لحياة المعنى ويجعل الدلالات بنات الليالي المعتمة، وبين ذاك الذي يراها عند الصباحات الوضاءة.

هذا العراك والعنف لا بد وأن يجعل مرآة الترجمة منكسرة. مما يضعنا في النهاية، لا أمام أصل ونسخة، وإنما أمام لعبة مرايا يغدو فيها الأصل نسخة والأنا آخر بحيث إن التحول الذي يسري على الآخر سرعان ما يلحق الذات نفسها. إنه يكشف أن الذات في بعد عن نفسها، وأنها آخر بالنسبة لذاتها.

ذلك أن الترجمة لا تحول النص المترجم فحسب، فهي عندما تحوله، تحول في الوقت ذاته اللغة المترجمة. وفي هذا الصدد كتب أحد المنظرين الألمان: "إن أحسن ترجماتنا الألمانية تنطلق من مبدأ خاطئ. وهي تزعم إضفاء الطابع الألماني على السنسكريتية والإغريقية والإنجليزية بدل العكس، أي إعطاء الألمانية طابعا سنسكريتيا وإغريقيا وإنجليزيا. إن أعظم الأخطاء التي يمكن للمترجم أن يقع ضحيتها، هي أن يعمل على تجميد الحالة التي توجد عليها لغته بفعل الصدفة، عوض أن يخضعها للدفع العنيف الذي يتأتى من اللغة الأجنبية"(1).

لعل هذا ما يبرر رائحة اللغتين الفرنسية والإنجليزية التي أخذنا اليوم نشتمها في نصوصنا العربية حتى غير المترجمة منها. ذلك أن المترجم كما يقول بنيامين لا بد وأن "يفجر الأطر المنخورة للغته"(2). على هذا الأساس فليست الترجمة هي ما يضمن حياة النص أي تحوله ونموه وتكاثره فحسب، بل ما يضمن حياة اللغة والفكر. كتب هايدغر، وبالضبط تقديما لإحدى الترجمات الفرنسية لكتبه: "بفعل الترجمة يجد عمل الفكر نفسه وقد تقمص روح لغة أخرى. وبذلك فهو يتعرض لتحول لا محيد عنه. إلا أن هذا التحول قد يغدو خصبا لأنه يبرز الطرح الأساسي للسؤال على ضوء نور جديد"(3). كتب هايدغر هذه المقدمة سنة 1938، أي بالضبط السنة التي ظهر فيها أول كتاب لسارتر، متنبئا بالإخصاب والانتعاشة التي سيعرفها فكره في ترجماته الفرنسية، والحياة التي ستعرفها الفلسفة الألمانية في الفكر الفرنسي، ليؤكد بذلك أن أزهى عصور الفكر لا بد وأن يقترن بازدهار حركة الترجمة. ذلك أن الترجمة ليست أبدا علامة على تبعية. إنها ليست قهرا للآخر ولا ارتماء في أحضانه، وإنما هي تحول وتجدد وترحال وانفتاح وتلاقح وتكاثر وحياة.



* عن الاوان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى