مزوار الإدريسي - موت المترجم

لا تمتلك النصوص قابلية التحدّث فحسب، وإنما ترضى لنفسها بأن تُسْتَنطَق، ويعني هذا أنها تستعمل لغة، وحتماً لديها كلامٌ، وتتوافر على صوت. لكنَّ مشكلتها تكمن في استحالة تحديد الصوت الذي تمثّله باعتبارها كتابة.

ونعلم أن للكتابة ينابيعَ ترفدُها رؤى للعالم ونصوصٌ وإرثٌ شفهي وفنون وتجاربُ معيشة وخبرات، إلخ، وأنّ الأصل فيها هو المحو وإلغاء الأثر، وفق إيميانويل ليفيناس، بحيث يتعذّر على أيّ كان أن يحسم في إسناد نصٍ إلى الروائي أو الشاعر أو المؤلِّف أو السارد أو الراوي أو البطل أو الشخصية، أو حتى القارئ... لذلك يتفرق دم المؤلّف بين المذكورين آنفاً، وهكذا تُسحق كلّ الأصوات وتتلاشى، لكنّ الكتابةَ تظل حاضرة، ولا تفتأ تنبثق.

ونظراً لكون الترجمة شكلاً آخرَ للكتابة أو إعادةً للكتابة، فالمفروض، بالضرورة، أن يَصدُق عليها ما يصدق على الكتابة، ولو أنَّ ما يُروَّجُ له هو أنه "أمام السلطة المطلقة للخالق [الكاتب] يتلاشى المترجم"، وفق ش. لوبلان، أو هكذا يتوهَّم بعضُهم. بل منهم من يزدري عمل المترجم، مثلما أورد والتر بنيامين، على اعتبار أن الترجمات لا "تخدم العمل الفني، مثلما يدّعي المترجمون السيّئون، وإنما بالأحرى هي التي تكون مدينة بوجودها إلى العمل الفني".
"
كثيراً ما يسلب المترجم الصوت الأصلي للعمل من صاحبه
"

لكن ما لا يُمكن إنكارُه هو أنّ المترجِم يُضاعف مأساةَ الصوت؛ لأنه وإن استقرَّ في ذهن كثيرين، ومنهم بنيامين، "أن الترجمة تنبثق عن الأصل [...] لكونها لاحقة عليه"، وأنه عِلّةُ وجودِها الذي تستمدّه من "استمرارية الأصل في الحياة"، فالمؤكّدُ أن الترجمة تمنح الأصل نَفَساً جديداً وحياةً أخرى في لغة مُضيفة.

ويثبت الواقع أن المترجم يسلب في أحيان عديدة الصوت الأصلي للعمل من صاحبه، ويُلحقه بصوته الخاص، فتجدُه لا يرضى لعمله أن يكون نسخة، ولا يألو جهداً كي يمنح عملَه بهارات لغوية وتعبيرية وتصويرية وإيقاعية، وحتى شعورية تُلْحق نصَّ الآخَر به، وهكذا تُعلن الترجمة عن كتابة جديدة، أي عن جنس أدبي طريف، لعلَّه ذلك الذي وسَمه الفيلسوف الإسباني أورتيغا إي غاسيت بكونه "جنسا أدبيّاً على حدة" أو ما يؤطِّرُه نقديّاً مفهومُ "إعادة الكتابة" التَّرْجَميّ.

ولا تخلو المكتبة من أمثلة دالة تؤيِّد هذا التصوُّر، فصوتُ الشاعر أحمد رامي ألحق رباعيات الخيّام باسمه، ويُسلَّمُ له بأن ترجمته صادرتِ الأصل من الشاعر عمر الخيام، وأضفت عليه ما فصَلها عن أصلها، وليس هذا الأمر غريباً في مجال الترجمة حيث "لا ترجمة تكون ممكنة - وفق بنيامين - إذا كان طموحُها الأعلى التماثلَ مع الأصل، ذلك أنّ الأخيرَ أثناءَ استمراريّته في الحياة يُواصلُ التحوُّلَ". فيكون مثالُ رامي دالاً على التحوُّل الذي يطرأ على الأصل، ودالاً أيضاً على استئثار صوت المترجِم بصوت نَصّ غيرِه.

وتتعدَّد الأمثلة، ولعل أبرزَها "آلام فِرتر" لـ غوتِه بترجمة أحمد حسن الزيات، وترجمات سامي الدروبي لـ دويستوفسكي، وترجمة الطاهر بنجلون لسيرة محمد شكري "الخبز الحافي"، وترجمة المهدي أخريف لأعمال البرتغالي فرناندو بيسوا، إلخ؛ وهي أعمال تنم عن تلاشي صوتِ العمل الأوّل وانقلاب صوتِ الترجمة إلى أصل جديد ينزع صفة المقدَّس عن العمل الإبداعي الأصل، ويُقدّمُه عملاً دنيوياً، لأن "قداسة الأصل هذه هي السمة الأساسية للجماليات والدين".

يتمسّك المبدع بعمله، ويريد له أن يكون صوتَه، والمثال الأنسب في هذا الباب قول المتنبي: "ودع كل صوت غير صوتي فإنني/ أنا الطائر المحكي والآخر الصدى".

ويُلحّ المترجِم على أن صوتَه ليس صدى، وإنما هو صوتٌ أصيلٌ بدوره، وأنه "شاعر الشاعر أو كاتب الكاتب"، وفق الرومانسية الألمانية. ولكنه يُغفِلُ أن الترجمة "إعادةُ كتابة"، وأن ما يسري عليها يسري على الكتابة. فهل يقتضي القولُ بموت المؤلِّف القولَ بموتِ المترجِم أيضاً، والإقرار بانتصار الكتابة مجدَّداً؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى