عبد السلام بالعجال - شعرية التناص بنية الحضور والغياب في شعر أبي تمام

بسط نظري:

يبدو أن النص كتلة متشابكة من الخطوط الإشعاعية النصوصية الأخرى، فمن غير المستطاع عدُّه بنية مغلقة لا مفتاح لها وهو بهذا الانفتاح والتفاعل النصوصي، لذا كانت قراءته ممكنة سواء من الداخل إلى الخارج أو من الخارج إلى الداخل، وهذا التفاعل والتداخل بين النص والنصوص الأخرى، هو ما يعرف بمصطلح التناص، الذي تعرفه )جوليا كريستيفا( في قولها إنه « ترحال للنصوص وتداخل نصي، ففي فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى»([1])، ويوضح ذلك أكثر، الناقد الحداثي صلاح فضل حينما رأى أن النص ما هو إلا « عملية استبدال من نصوص أخرى، أي عملية "تناص""Intertextualité"، ففي فضاء النص تتقاطع أقوال عديدة، مأخوذة من نصوص أخرى، مما يجعل بعضها يقوم بتحييد البعض الآخر ونقضه»(2)، وهو ما يخلق مسافة توتر جمالية، يتشكل على إثرها نص أو معنى جديد، وفي الوقت ذاته تنسجم وتتماثل النصوص في ما بينها، ثم تتفاعل لتفرز كذلك نصا أو معنًى جديدا.

أما جيرار جينيت(Gérard Genette) فبعدما نفى عن النص أن يكون موضوع الشعرية، وأكد على أنه «جامع النص؛ أي مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة...»(3)، راح يعلن في مقولة نقدية عن أهمية النص من حيث تعاليه النصي شارحا هذا المصطلح في قوله: « لا يهمني النص حاليا إلا من حيث (تعاليه النصي)؛ أي أن أعرف كل ما يجعله في علاقة خفية أم جلية مع غيره من النصوص»(4)، فالتناص خاصية مهمة في النص تنبع منها شعريته، لذا كانت إحدى خصائص جامع النص التي تبحث فيها الشعرية بشغف.

ولعلّ سعيد يقطين يريد أن يكون دقيقا أكثر في مجال التناص؛ إذ اصطلح عليه "التفاعل النصي"؛ كونه « أشمل وأعم من التناص»(5)، وهو لديه صنفان، « أما الأول فهو التفاعل النصي الخاص، وهو أن يقيم نص علاقة مع نص محدد...، وأما الصنف الثاني، فهو التفاعل النصي العام، وهو ما يقيمه نص ما من علاقات مع نصوص عديدة مع ما بينها من اختلاف على صعيد الجنس والنوع والنمط...»(6)، فقد يحدث في خضم هذه التفاعلات توافق في دلالات المعنى، وقد يحدث التناقض والتنافر مما يخلق جديدا على صعيد النص.

ويؤكد رجاء عيد على تداخل النصوص الأدبية في ما بينها، بحيث تشكل تضاما وتلاحما في بنية معقدة لا يكون من السهل فكّها أو التعرف عليها، كما أنه يعدّه حضورا نصيا، يتمُّ الكشف عنه من خلال معرفة النصوص الأدبية، وذلك في قوله: « فالتناص– هنا- حضور نستشفه بواسطة خبرة عميقة بالنصوص الأدبية، وهذا الحضور النصي يحتاج إلى فراسة وتتبع، وإلى بصيرة وتبصر؛ فقد تندمج البنيات المتناصة في بنية النص كإحدى مكوناته، لا يدركها سوى القارئ المنفتح في قراءاته على نصوص متعددة»(7)، ومن هنا تنشأ علاقة تفاعلية مع المبدع والمتلقي على أرضية النص من حيث هو « عملية إنتاج، وذلك لا يعني أنه ناتج لعمل فحسب مثل الذي تتطلبه تقنية السرد والتصرف في أسلوب، ولكنه الفضاء ذاته حيث يتصل صاحب النص وقارئه»(8)، فالنص كتداخل نصوصي تتضارب وتتصالح فيه التيارات الثقافية من فلسفية وتاريخية وسياسية ودينية واجتماعية، كما أنه قابل للتفسير والتأويل وإنتاج النصوص من خلال القراءات المتعددة.

وليست الدراسة - هنا- بحث عن مفهوم وإشكالية مصطلح التناص، « حيث تتعدد زوايا النظر المنهجية، والمنظور التناصي واحد! »(9)، وإنما هي في فحواها دراسة التناص عنـد أبي تمام كظاهر أو خاصية نوعية تَميَّز بها نصه الشعري، ومعرفة الإجابة عن هذا التساؤل: كيف تمكن أبو تمام من استغلال ثقافته المتعددة والمتفاعلة نصوصيا في إفراز نص جديد بشعرية جديدة خصبة؟.

لقد تم في هذه الدراسة تشكيل ثنائية متضادة، تشكل فجوة: مسافة توتر؛ وتشكل انسجاما وتماثلا في الآن نفسه؛ إذ تنطلق من الشعرية لتبحث عن الشعرية، وهي تتمثل فيثنائية الحضور والغياب(10)، ومفادها هو مناوشة النص الغائب « بما هو"ذخيرة ثقافية"تتسلح بها كل كتابة»(11)، وبما يحمل من مسكوت عنه، ودلالات مضمرة في المواقف والرموز الثقافية؛ التاريخية منها والدينية والسياسية، وحتى من الموروث الأدبي...الخ.

ويأتي التحول الإبداعي عند أبي تمام في نصه بعد أن قرأ النص الغائب من الموروث الثقافي كنصوص سابقة وجاهزة، ثم فككها وأعاد ترتيبها ليحصل على النص الحاضر أو نص الكتابة الشعرية الجديدة أو النص الحلم؛ ويبدو أن النص الغائب يتمثل في ( البنية العميقة/ المدلول)، أما النص الحاضر فهو (البنية السطحية/ الدال)(12)، كما أن الكتابة الشعرية أو الإبداعية الجديدة عند أبي تمام، تأتي من كون أن نصه يتشكل من « كتابات متعددة تنحدر من ثقافات عديدة تدخل في حوار مع بعضها البعض وتتحاكى وتتعارض »(13).

وهذا يشير ويؤكد على أن أبا تمام واحد من أبرز الشعراء الذين جمعوا بين الجمال والمعرفة في الشعر، بل طغت عليه الثقافة فتسربت إلى هذا الجمال وأصبحت جزءاً منه؛ ذلك أن « التثقيف الذاتي عنده لم يكن وسيلة إلى العلم السطحي بالأشياء، وإنما جاء منه غزيرا متنوعا حتى صار الشاعر معدودا في العلماء»(14)، وأصبـــــح من « أهم ما يميز أســـــاليب أبي تمام تلك الوفرة الزاخرة من الثقافة المتعددة الجوانب [حيث]... لفتت هذه الظاهرة أنظار الباحثين المحدثين، وجعلوها مصدرا من مصادر عبقريته وفنه، واتخذوها مقياسا لتحليل بعض الظواهر الفنية في شعره»(15)، وفي مقدمتها التناص، الباب الذي فتحه أبو تمام في شعره، حيث استطاع من خلاله توليد كتابة جديدة أو نص دائم الحركة والفعالية.

أولا: شعرية الحضور/ النص الحاضر

تكمن شعرية الحضور في مرحلة العملية الإبداعية أو الكتابة الشعرية الجــــديدة عند أبي تمام والتي يفرزها بدوره من رصيده الثقافي أو من النص الغائب الجاهز سابقا، عن طريق إستراتيجية التفكيك والبناء، والبراعة في توظيف هذه النصوص والمزج في ما بينها، حتى أصبحت الكتابة لديه «لحظة اتصال روحي وحميمي مع كل ما من شأنه أنه يمثل مادة للخلق والإبداع الحر؛ أي مع عالم الكلام النصي الحر السابق في الوجود على وجوده الآني الخالق، أو اللاحق لوجوده؛ أي مع نصوص الكلام الإبداعي (الشعري) الحر، سابقه ولاحقه، ما أنجز منه وما لم ينجز، ما نص منه وما لم ينصص بعد، إضافة إلى نصوص الوقائع والأحداث التي تستدعي منه عملية النصنصة والتنصيص الشعري أو الإبداعي، إضافة إلى نص الكتابة الحلم»(16).

وهذه العملية الإبداعية تستدعي من أبي تمام، أو أي شاعر آخر أن يكون قارئا قبل أن يكتب أو أن يجمع بين القراءة والكتابة في وقت واحد، الأمر الذي جعل أبا تمام يتميز ويتفرد عن غيره من الشعراء في عملية التناص، وطريقة إحداث التفاعل والتعالق بين النصوص، أما الملحظ المهم الذي يكتشفه القارئ في شعر أبي تمام، هو تجلي شعرية الحضور في عملية الكتابة الإبداعية(الشعرية) التي تُعدّ «...لحظة حضور كلي في حضرة ثلاثة نصوص على الأقل»(17).

ربما يكون النص الذي أورده ابن رشيق عن لحظة الكتابة الإبداعية عند أبي تمام في كتابه العمدة، كافيا لتوضيح الحضور النصوصي كخاصية جمالية تعلن تميزه وشعريته في التناص، والمتمثلة في الحضور النصوصي للنص الغائب، وتشكيل النص الحاضر أو الكتابة الشعرية الجديدة، يقول ابن رشيق « حكى بعض أصحاب أبي تمام، قال: استـــأذنت على أبي تمام، وكان لا يستتر عني، فأذن لي، فدخلت عليه، فإذا هو في بيت مصهرج قد غسل بالماء يتقلب يمينا وشمالا، فقلت: لقد بلغ بك الحر مبلغا شديدا، فقال: الآن وردت، ثم استمر وكتب شيئا لا أعرفه، ثم قال: أتدري ما كنت فيه؟! قلت كلا، قال: قول أبي نواس:

كالدَّهْـرِ فيهِ شرَاسَةٌ وليَانُ

أردت معناه فشمس علي حتى أمكنني الله منه، فصنعت:

شَرِسْتَ بل لِنْتَ بل قَانَيْتَ ذاكَ بذا فأنتَ لا شَكَّ فيكَ السَّهْلُ والجَبَلُ »(18).


عندما تقرأ ديوان أبي تمام تجدك تشهد متشابكات من النصوص تشكل نصوصا حاضرة، وبخاصة في القصيدة المدحية التي لا يقل التناص فيها على ثلاثة نصوص، نص السياق الاجتماعي التاريخي السياسي الذي يمثله دائما الشخص الممدوح، والنص المنجز سابقا أو نص الثقافة التاريخية أو الدينية أو الأجنبية أو الأدبية...الخ، ثم نص الشاعر أو نص الكتابة الإبداعية الجديدة أو نص الحلم أو الرؤية الشعرية.

وما نبّه لذلك هو النص الذي أورده ابن رشيق، والذي يتشكل من ثلاثة نصوص هي: النص السابق للوجود الشعري أو نص الثقافة الشعرية الذي يمثله هنا نص أبي نواس، ونص السياق الاجتماعي، أو التاريخي المتمثل في المعتصم؛ كشخص ممدوح، أو في أي شخص يستحق المدح بما له من حضور طاغ في الحياة العامة، ثم نص الولادة أو الحلم أو الرؤية الشعرية(19)، المنجز الآن في لحظة الكتابة الإبداعية، وهو النص الجديد نص الحضور النصوصي، الذي صنعه أبو تمام بعد إجهاد الفكر وعناء الاستحضار، أو التحويل من النص الغائب إلى النص الحاضر، والسعي إلى تعدد النصوص وتفاعلها في نص جديد، أو كتابة إبداعية شعرية حداثية تعكس أسلوب الشاعر وطريقته.

كما تعكس عملية القراءة/ الكتابة التي يتميز بها أبو تمام في نصوصه، شعرية الحضور النصوصي؛ أي عملية إبداع وخلق للنص الشعري الجديد أو النص الحاضر، من خلال استحضار النصوص الغائبة بما هي ذخيرة ثقافية، ثم إعادة ترتيبها وبنائها، ليصبح النص انعكاسا « للعلاقة القائمة بين النص الغائب والنص الحاضر، فهو جمع بين البنى السطحية الظاهرة في النص، والبنى العميقة التي يتضح مدلولها بعد عملية التأويل والربط بين النص الأصلي وظله»(20)، وهو ما تسعى الدراسة التالية للبحث فيه وإن كان بصورة سريعة تتطلب الوقوف عند بعض النماذج.

ثانيا: شعرية الغياب/ النص الغائب

يلمّح أبو تمام من خلال إجابته ذات الطابع الفلسفي على أبي العميثل حينما سأله وزميله: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال: ولم لا تفهمان ما يقال!؟ إلى إخفاء المدلول أو إلى ظاهرة الغياب في عمق النص، وهذه الظاهرة شبيهة إلى حد بعيد بظاهرة الغموض، التي يمثل النص الغائب ( الذخيرة الثقافية ) أهم سبب لحدوثها.

ويحدث التجلي للمدلول أو البنية العميقة كنص غائب، عن طريق تأويل النصوص الثقافية كمواقف ورموز بما هي نصوص حاضرة أو دال/ بنية سطحية، وذلك بعد أن كانت نصوص غائبة ثم خضعت لقراءة أبي تمام الشعرية، حيث حولها إلى نص إبداعي جديد ومتميز.وكثيرا ما يخفي أبو تمام الدلالة بعمق، في القصيدة المدحية عن طريق المواقف أو الرموز أو المسكوت عنهالمضمر في نص الثقافة التاريخي أو ديني...الخ، من ذلك مـا جاء في مدحـه لأبي سعيد، ويقال نوح بن عمرو السّكسكي الحمصي:(21)

يا مَانِحِي الجَـــــاهَ إذْ ضَــــنَّ الجَوَادُ بِه شُكْرِيْكَ ما عِشْتَ للأَسْمَاعِ مَمْنُوحُ

لم يُلْبِسِ الله نُوحـــًا فَضْــــــلَ نِعْمَــــتِه إلا لِـــمَا بَــثَّـهُ منْ شُكْــــرِهِ نُوحُ

عند قراءة هذه الأبيات تشعر بقوة التحكم في المخزون الثقافي والقدرة على توظيف النصوص؛ فالبيت يحمل ثلاث دلالات على الأقل، دلالتان ظاهرتان ودلالة خفية أو مسكوت عنها، فالدلالة الأولى جاءت في نص الثقافة الدينية وهي أن نوح عليه السلام كان كثير الشكر لله فوهبه فضل نعمته، وتأتي الدلالة الثانية في نص السياق الاجتماعي أو التاريخي عند تشبيه الشاعر لنوح (الممدوح) في شكره وفي نعمة الله عليه بسيدنا نوح، أما النص الغائب فهو المسكوت عنه الذي يوحي فيه أبو تمام بأن يتفضل عليه الممدوح بنعمته من العطايا؛ فأبو تمام هو نوح الشاكر المادح و الممدوح هو السلطة وولي نعمة أبي تمام.

ويستخدم أبو تمام في سياق المدح سيدنا نوح عليه السلام كشخصية دينية ترمز إلى الشكر والنعمة وهي تتنقل من نص لآخر بين السياق الديني والسياق التاريخي والاجتماعي، ثم السياق الأدبي، محافظة على دلالتها الرمزية وصولا إلى النص الغائب الذي يتمثل في المسكوت عنه خلف الرمز الديني نوح عليه السلام، وهذا المخطط يفصل ذلك:

نوح نوح نوح

شخصية دينية رمز شخصية اجتماعية تاريخية شخصيـة أدبيـة

لشكر الله ونعمته. رمز للشكر والجاه والجود رمز للشكر والمدح

ورمز للولاية ومنح النعمة. والتكسب.

إن دلالة الرمز تتغير في شعر أبي تمام حسب السياق الذي جاءت فيه، من ذلك قوله:(22)

كأنَّ جَهـــنَّم انْضَمَـــــتْ عَلَيْهِمْ كِلَاهَا غَيْـــــــرَ تَبْـــــــدِيلِ الجُلُودِ

فهذا البيت كنص حاضر شكّله أبو تمام من الثقافة الدينية، لم يتخذ من جهنم معنى الجحيم وعذاب النار، بل هو هنا يحمل دلالة على مستوى الغياب تتمثل في نيران الحرب ووطيسها الحامي، وقد فصل الشاعر بينهما بتبديل الجلود.

جهنم جهنم

كلمة أو مصطلح ديني يدل على شدة العذاب رمز للحرب الحامية الوطيس

وقوله في ممدوحه: (3[2])

إن تَنْفَلِتْ وأُنــوفُ الـمَـوْتِ رَاغِمَةٌ فاذْهَبْ فأنتَ طَلِيقُ الرَكْضِ يَا لُبَدُ

يشبّه أبو تمام ممدوحه بلبد وهو آخر نسور لقمان وأطولها عمرا، وكان لقمان كلما رأى واحدا منها عاش بعده ألف سنة إلا هذا اللُّبد فقد مات عند رؤيته، لذا أصبح اسمه يتشاءم الناس به ، ولكن الشاعر حمّله دلالة جديدة، فانتقل من اسم يرمز للشؤم إلى اسم يرمز للبطولة والقوة لأن من قابله أو رآه في ساحة المعركة فلــــن يعيش بعــــــد ذلك اللقاء، ويؤكــــد أبو تمام هذا الأمر في قوله: (24)

لاخَلْقَ أَرْبَطُ جَأْشًا مِنْكَ يَوْمَ تَرَى أبا سَعِــيـــــــدٍ ولم يَبْطِـــشْ بكَ الزُؤُدُ

أما وقَدْ عِشْــــتَ يَوْمًا بَعْـــــدَ رُؤْيَتِهِ فافْخَرْ فإنـَّكَ أنْتَ الفَـــــارِسُ النَّجِدُ

أصبح لبد لبد

طائر لقمان رمز الشؤم رمز للقوة والبطولة في الحرب

ويغيّب أبو تمام نصه التحريضي الذي يشجع فيه المعتصم على قتل الأفشين في قصة السامري والعجل، وقصة ثمود وناقة صالح قائلا: (25)

ألْحِقّْ جَبِـــــيْنًا دَامِــيـًا رَمَّلْتَهُ بِقَفًا، وصَــدْرًا خَـــــائِنًا بِصِدَارِ

واعْــــلَمْ بأنَّكَ إنَّــــمَا تُلْقِيــــهِمُ في بَعْضِ ما حَفَـــرُوا مِنَ الآبَارِ

لو لم يَكَدْ للسَّـامِـــرِيِّ قَبِيلَهُ ما خَــــارَ عِجْلُـــــهُمُ بغَيْرِ خُوَارِ

وثَمُودَ لو لم يُدْهِنُوا في رَبِّهِمْ لم تَــــدْمَ نَاقَتَهُ بِسَــــيْفِ قُدَارِ

يُعد تناص أبي تمام مع قصص القرآن الكريم تناص تحريض، يشجع فيه المعتصم على قتل قوم الأفشين ويطمئنه من خلال هذا النص الديني الحجاجي بصنيعه؛ ذلك أن السامري وجد يد العون والموافقة في صناعة العجل الذي عبده قوم موسى، فهم إذن من شجعه على خطيئته وفي هذا ذنبهم كذنبه، وكذلك قوم ثمود الذين شجعوا "قدار"على قتل الناقة واستخدموا لذلك مختلف الوسائل، وكان النبي صالح عليه السلام قد حذرهم من الاقتراب بعد أن طلبوا آية نبوته، فقال هذه ناقة لها شرب يوم معلوم ولكم شرب يوم، ويحضر هنا قوله سبحانه وتعالى :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾(26)، فالنص الغائبهنا، هو نص التحريض والمحاجة المتضمن في قصص القرآن.

ويمثل الهجاء - أحيانا- بنية عميقة للنص الحاضر في سياق المدح، حيث يستثمر الشاعر النصوص الثقافية للتخفية والإضمار كحيلة من حيل المدح، من مثل قوله: (27)

وأخْرَسِ الجُـــــودِ تَلْقَى الدَّهْـــرَ سَائِلَهُ كَأنـَّهُ واقِفٌ مِـــنْـه على طَلَلِ!

قَدْ كان وعْــــدُكَ لي بَحْـرًا فَصَيــَّرَنِي يَوْمَ الزِّمَاعِ إلى الضَّحْضَاحِ والوَشَلِ

وبَيَّـنَ اللهُ هــــــذا من بَـــــرِيتِهِ في قَوله « خُلِقَ الإنْسَـــانُ من عَجَلِ»

ففي البيت الأول وكأنه يتهكم ويسخر بطريقة غير مباشرة، استخدم فيها التلميح والتعميم بعبارة (أخرس الجود) من ممدوحه الذي لا يجيب سائله وكأنه واقف منه على طلل؛ ذلك أن الممدوح كان قد وعد أبا تمام بالعطية ولم يتم في وعده، لذلك هو يُلمِّح وكأن له عليه دين، وفي الوقت نفسه يهدده من خلال هذه السخرية أو الصورة الكاريكاتورية، ثم يعـود أبو تمام إلى خلق العذر أو الذريعة التي يحتمي بها في قوله:

وبَيَّـنَ اللهُ هـــذا من بَـــرِيتِهِ في قَوله « خُلِقَ الإنْسَانُ من عَجَلِ»



وجاء بهذا الاقتباس من القرآن في قوله: ﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾(28)، كعذر عن استعجاله الأمر بعد أن وعده الممدوح بالعطايا، ولكن الحكم في خلق الإنسان من عجل حكم عام يشمل به أبو تمام الممدوح أيضا؛ لأنه تعجل في وعده بالعطايا، فالنص في بنيته العميقة يحمل دلالة مضمرة مفادها الهجاء وإثبات العجلة ونفي التريث والحلم والحكمة عن الممدوح، التي كان يجب أن تكون من صفاته لأنه في مقامها.

وفي قوله يخاطب ممدوحه: (29)

إن الطـــــلاقَةَ والنَدَى خَيْرٌ لهُمْ من عِفَّةٍ جَمَسَتْ عَليْكَ جُمُوسَا

لو أنَّ أسْبَابَ العَـــــفَافِ بلا تُقًى نَفَعَــــتْ لقدْ نَفَعَــــتْ إذًا إبْلِيسَا

استلهم الشاعر هذه الصورة من ثقافته الدينية؛ فقد جعل شخصية إبليس في عدم التقوى كمقابل تمثيلي لممدوحه وطريقة تعامله الجافة مع قومه ومادحيه؛ وكأنه يقول له تضمينا أنت كإبليس في عفتك وعدم تقواك، وهذا من باب الهجاء كنص غائب لا من باب المدح كنص حاضر، ومثل هـــذا في شعر أبي تمام كثير.

أخيرا، يمكن القول إن أبا تمام يستعين بالنصوص الثقافية بعد تحويلها إلى نص حاضر في إخفاء وإغراق المدلول الحقيقي في البنية العميقة؛ ذلك أن «...النص المنجز ليس إلا تجميعا لنصوص سابقة، يعيد تشكيلها من منظوره ليقدم نصه الجديد»(30)، فهي نص حاضر من ورائه نص غائب لا يتم كشفه إلا بعد التأويل وربط النص بظله، مما يشير إلى العلاقة المتبادلة بين (الحضور والغياب).

الهوامش والإحالات:

([1])- جوليا كريستيفا. علم النص. تر، فريد الزاهي. ط2، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1997م. ص21.

(2)- صلاح فضل. بلاغة الخطاب وعلم النص. ط1، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1992م. ص229.

(3)- جيرار جينيت. مدخل لجامع النص. تر، عبد الرحمان أيوب. ط2، دار توبقال، المغرب، 1986م. ص5.

(4)- نفسه. ص90.

(5)- سعيد يقطين. انفتاح النص الروائي. ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1989م. ص92.

(6)- سعيد يقطين. الرواية والتراث السردي. ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1992. ص18.

(7)- رجاء عيد. مقال موسوم بـ" النص والتناص" ضمن مجلة علامات في النقد. نادي جدة الثقافي، جدة- المملكة العربية السعودية، ج18، مج5، 1990م. ص184.

(8)- صلاح فضل. بلاغة الخطاب وعلم النص. ص230.

(9)- نفسه. ص414.

(10) -حسين خمري. الظاهرة الشعرية العربية/ الحضور والغياب. ط1، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق،2001م.

(11)- نفسه. ص406.

(12)- ينظر: بسام قطوس. استراتيجيات القراءة، التأصيل والإجراء النقدي. ط2، عالم الكتب، د ت. ص ص54-57.

(13)- رولان بارت. درس السيميولوجيا. تر، عبد السلام بن عبد العالي. ط2، دار توبقال، الدار البيضاء، 1986م. ص87.

(14)- عبد الله بن حمد المحارب. أبو تمام بين ناقديه قديما وحديثا، دراسة نقدية لمواقف الخصوم والأنصار. ط1، مطبعة المدني، القاهرة، مكتبة الخانجي بالقاهرة للنشر،1412هـ - 1992م. ص492.

(15)- نفسه. ص491.

(16)- عبد الواسع الحميري. الخطاب والنص "المفهوم- العلاقة- السلطة". ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1429هـ- 2008م. ص70.

(17)- نفسه. ص 70.

(18)- ابن رشيق القيرواني. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تح، محمد محي الدين عبد الحميد. ط4، دار الجيل، بيروت، 1972م. ج1. ص209.

(19)- ينظر: عبد الواسع الحميري. الخطاب والنص "المفهوم- العلاقة- السلطة". ص ص70، 71.

(20)- عبد اللطيف حجاب. مقال موسوم بـ "التناص الديني كظاهرة أسلوبية في شعر مفدي زكريا". مجلة معارف. المركز الجامعي البويرة، الجزائر، ع1، 2006م. ص284.

(21)-الخطيب التبريزي. شرح ديوان أبي تمام،. تح، محمد عبده عزام، دار المعارف، 1964م. الديوان. مج1. ص340.

(22)- نفسه. مج2. ص39.

(23)- نفسه. مج2.ص15.

(24)- نفسه. ص16.

(25)- نفسه. ص206.

(26)- الشمس. الآية 11- 15.

(27)- أبو تمام. الديوان، شرح الخطيب التبريزي. مج3. ص90.

(28)- الأنبياء. الآية37.

(29)- أبو تمام. الديوان، شرح الخطيب التبريزي. مج2. ص272.

(30)- نور الدين السد. الأسلوبية وتحليل الخطاب. ط1، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 1997م. ج2. ص104.


عبد السلام بالعجال
جامعة أم البواقي (الجزائر)


* منقول للفائدة عن المجلة الجامعية وركلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى