أم السّعد حياة - جينيالوجيا الرواية عند ميخائيل باختين.. التفاتة إلى الأجناس الهجينة

الرواية استرجاع للذات المنسية:

لا يمكن لناقد ما أن ينكر الاهتمام المتزايد بالكتابات الروائية في المجتمعات الغربية والعربية على حد سواء، وما صاحبها من دراسات وتنظيرات نقدية غلفت كينونتها وبحثت في عمقها وجوهرها ولبناتها وتطوراتها، لسنا في هذا المقال بصدد إعادة ما كتب حول الرواية طيلة هذه العقود من الزمن، لكن نبتغي البحث في أصولها من خلال تنظيرات ميخائيل باختين الذي عُد من بين الأوائل الذين تميزوا في تنقيبهم عن الأصول التي نبعت منها الرواية، انطلاقا من خصوصية الرواية مقابل الأجناس التعبيرية الأخرى.

كانت الرواية بمثابة الوسيلة الوحيدة التي أعادت للإنسان الغربي ذاته، بعدما سلبته إياها الآلة والتطور في العصر الحديث، حيث عرفت المجتمعات الغربية تسارعا مذهلا في مجال العلوم، في ظلها تناسى الإنسان الغربي ذاته وأصبح آلة، أو كما قال كونديرا: "كلما زادت سرعة اختراعاته زاد فقدانه لذاته، بالموازاة تولد مع سرفنتاس فن كبير عمل على البحث عن الذات الإنسانية المفقودة، لذا صاحبت الرواية الإنسان بوفاء منذ بداية العصر الحديث."(1)

انطلاقا من هنا أصبحت الرواية ذاكرة الإنسان التي تحميه من نسيان وجوده وذاته في خضم هذا العالم المتسارع الموقد بالحركة والتغيير، الذي لا يهمه من حاضره إلا نسيان ماض ترك علامة سوداء في أعماق أعماقه، وتصبح، على هذا الأساس، كينونة الرواية ووجودها مقترنا بكشف اللا مكتشف، ببحثها عما ليس موجودا في الوجود لهذا قال كونديرا: " الرواية التي لا تكشف جزءا غير معروف من الوجود ليست رواية... فالمعرفة هي الفكر الوحيد للرواية"(2).

كانت الرواية وليدة ظروف هيأت لوجودها وعملت على صقل بنيتها، لأنها جنس لم يولد مكتملا في العصر الحديث، ولن يكتمل لأنه في تطور مستمر، يقول باختين في هذا: "لم تُكمل الرواية تطورها بعد، فهي تلج الآن مرحلة جديدة، فعصرنا هذا يميزه التعقد ... والعمق والتفكير النقدي للإنسان. وهذه الخطوط تحدد تطور الرواية".(3)

أفضى التطور المستمر للرواية أن تبقى بلا قواعد: "فمن بين الأجناس الكبيرة...، وحدها الرواية لا تملك قانونا... فدراسة الأجناس الأخرى تعادل دراسة لغات ميتة، أما دراسة الرواية تعادل دراسة اللغات الحية، خاصة الشابة منها"(4)، على أن غياب قواعد تقنن للرواية لا يعده المنظرون: "ضعفا في النظرية بل هو معطى ملازم لها، إنها لا تعرف ضغوطا ولا كوابح، وهي متفتحة على جميع الممكنات، غير محددة، وفي توسع متواصل"(5) من هنا رأى باختين صعوبة وضع نظرية للرواية، لأن طبيعتها تختلف أصلا عن طبيعة الأجناس الأدبية الأخرى، هذا ما جعل بعض الدراسات التي كانت منتشرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، المهتمة بدراسة الرواية عاجزة عن ضبط أسلوبها.

من بين المنظرين الأوائل الذين أشار إليهم باختين نجد Huet الذي كتب سنة 1670 مقالة عن أصول الرواية دون التوقف أو الإشارة إلى أسلوبها وقواعدها، أما "فردريك" Frédéric و"شليغل" Schllegel و"نوفاليس"Novalis فكانوا يصرحون أن الرواية جنس مختلط، يحتوي على أجناس مختلفة، لكنهم لم يصلوا إلى نتيجة متعلقة بأسلوب الرواية، أما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فتولد اهتمام أكثر حيوية بالجنس الروائي، فبعض الدراسات اعتنت بتكوين الرواية وتطرقت لمواضيعها، لكنها لم تصل إلى أسلوبها، الذي بقي مجهولا إلى بدايات القرن العشرين(6).

إلاّ أن تطور الرواية المستمر وغياب القواعد المحددة لها، جر الكثير من المنظرين للبحث عن أصولها في التراث الأدبي الإنساني، ومن بين الذين تميزوا في هذا التنقيب نجد "ميخائيل باختين" الذي جعل من الجنس الروائي بطل نصوصه النقدية، فهو يعتبر الرواية بمثابة جنس مضاد un anti- genre، لأنها غير مكتملة وتتطور على أنقاض الأجناس المغلقة(7) منتقدا بذلك كل من أخرج الرواية من الأدب ونفى وجود دلالة جمالية فيها، فدأب على إبراز قيمة الرواية مُقرا بأنها جنس أدبي مميز(8).

سنطرح في هذا المقال جملة من الأسئلة المبدئية نجيب عنها انطلاقا من جهود ميخائيل باختين التنظيرية الذي أثرى ساحة النقد والتنظير الأدبيين، ذلك لأنه تجاوز عصره بكثير، بثورته على اللسانيات السوسيرية المجردة التي توقفت عند حدود الجملة ولم تتجاوزها إلى خطابات الحياة اليومية الطويلة، فشق طريقه مستعينا بفلسفة اللغة، وما خلفه الفكر الكانتي والهيغيلي، مبدعا بذلك نهجه الخاص وتصوره للقضايا اللسانية، فأدخل الجانب الاجتماعي في تحديده للعلامة(9) اللسانية محاولا إثبات أن الدليل اللساني اجتماعي وليس كيانا نفسيا مجردا.


كما أنه جعل الرواية اللب الذي تدور عليه كل تنظيراته لأنه رآها جنسا متفتحا، فعكف للكشف عن أسلوبها بطريقة مميزة.

- فلماذا حظيت الرواية على وجه التحديد بهذا الاهتمام المنقطع النظير في سنوات جد متقدمة من تاريخ التنظير لها، فأصبحت بعدها وإلى عصرنا هذا الناطق الرسمي باسم الشعوب ونخبها؟

- مَا الذي وجده باختين مميزا في الرواية حتى لاقت منه كل هذه العناية؟

- ماهي أصول الرواية؟ لماذا بحث باختين عن أصولها؟ هل جاء بالجديد مقابل الدارسين الذين سبقوه في هذا المجال؟

ستكون الإجابة عن هذه الأسئلة محور هذا المقال الذي خصصناه للبحث في جينيالوجيا الرواية من أجل التوصل إلى فهم أسلوبها وسر رواجها.

أصول الرواية في التنظير الباختيني:

إذا ألقينا نظرة متفحصة على ما قدمه باختين في كتاباته النقدية عن الرواية، لرأينا أنه قسم تناولها إلى عدة مناح، كي لا نقول عدة فترات، مناح عامة وأخرى خاصة:

_ فمن الناحية العامة لاحظنا أن اهتمامه بالرواية كجنس أدبي، والتنقيب عن أصولها تولد من محاولته إيجاد سبيل جديد للرد على كل من هيقل ولوكاتش، فالأول في محاولته ربط شكل الرواية ومضمونها بالتحولات التي حصلت في المجتمع الأوروبي بصعود البرجوازية وقيام الدولة الحديثة في القرن 19، هذا الحديث كثيرا ما التصق بلوكاتش لأنه في كتابه المشهور "نظرية الرواية"، استطاع بحسه التاريخي أن ينظر للرواية من زاوية تشكلها التاريخي المرتبط بالتغيرات الاجتماعية، فالرواية عنده تُحدد بوصفها شكلا ومضمونا ضرورية للتعبير عن العالم المجزأ وعن الذات التي أصبحت فاقدة لعلاقاتها العضوية بالحياة ولاندماجها في كلية متعالية تقدم معنى لوجودها(10)، كما اعتبرها ملحمة برجوازية.

من خلال ما قدمه باختين من انتقادات جوهرية لمن سبقه من المنظرين، نلمس حرصه على تبين تجذر الرواية في تاريخ الأدب الإنساني، نافيا طبيعتها البرجوازية، فهي الجنس الذي ولدته الأنواع التعبيرية الأكثر سوقية مثل الكرنفال الذي عمل على تطويرها وتطويعها لتصل إلى الرواية الحوارية ومتعددة الأصوات، مستلهمة ما في التراث الإنساني من نصوص نثرية، مثل هذه الالتفاتة إلى أصول الرواية وانحدارها من الأدب الذي كان يعد وضيعا، هو الجديد الذي أضفاه باختين في نظريته للرواية كما سنبين هذا لاحقا.

_من العام كان الانتقال إلى الخاص، أي إلى أعمال روائية بعينها خص لها باختين أعمالا نقدية بارزة مثل اهتمامه على وجه التحديد بأعمال دوستويفسكي، ورابليه، والحقيقة أن هذين العملين لم يكونا سوى تفنيد لما جاء به في بحثه عن أصول الرواية ومراحل تطورها، فنجده في دراسته لدوستويفسكي يقف عند التصنيف التكويني لرواياته، كما أنه في دراسته لرابليه كان يبحث عن الجذور الكرنفالية للكتابة الروائية.

من هنا بدأ يتجذر التنظير للرواية، لتظهر مواصفات الكتابة الروائية بوظيفتها وقيمتها ومميزاتها وطبيعتها وأسلوبها جلية عند باختين. ومنه كان التنظير للخطاب الروائي يركز على العناصر الأساسية في الكتابة الروائية التي هي اهتمام أصيل بـالذات المتكلمة وكلامها، في علاقاتها بـالآخر الذي لا يمكن أن نتناسى ضرورته في الكتابة الروائية، وفي التكلم داخل سياق اجتماعي له دور أساسي في بناء ملفوظاتنا والملفوظات الغيرية على حد سواء.

أما عن سبب اهتمام باختين بالجنس الروائي، فيعود ذلك، حسبه، إلى أن الرواية هي الشخصية الأساسية في التطور الأدبي، فهي التي تترجم بطريقة أفضل تطورات العالم الحديث(11)، إذ يقدم لنا الرواية كجنس مستقبلي يسير على رأس التطور الأدبي للعصور الحديثة، وما سيقترحه ليس تحديدا لقانون الرواية باعتبارها نظاما من الأمارات الثابتة خاصة بهذا النوع، لكن ما سيقوم به: "هو الكشف عن الخصوصيات البنائية الأساسية المميزة لهذا الجنس، خصوصيات تحدد التوجه التأثيري له على الأنواع الأدبية الأخرى (12)

بل يذهب أبعد من هذا ليقول: "منه تصبح الرواية، من البداية معجونة، بعجينة أخرى مختلفة عن الأجناس المكتملة، فهي ذات مختلفة، فمعها وفيها ولد مستقبل كل الأدب"(13).

سنتطرق في مقالنا هذا لأصول الرواية لما لهذا العنصر من أهمية في الكشف عن الطبيعة الخاصة والمميزة للرواية، فمعرفة الجنس الذي كتب فيه النص يقودنا إلى فهمه وحسن استقباله، فالرواية ليست جنسا لقيطا، ليست جنسا جاء من العدم، كل كتابات باختين تؤكد هذه النقطة، بل وتعتبر على أساسها أن الرواية جنس تطوري، لم تولده حقبة بعينها إنما عرف تطورات أسهمت في بناء شكله كما هو عليه الآن، وليس شكله النهائي طبعا، لأن الرواية جنس متفتح لم يكتمل بعد ولن يكتمل.

نبع اهتمام باختين بجذور الرواية في حقيقة الأمر، من محاولته لإيجاد أصول الحوارية Dialogismeوالتعدد الصوتي la polyphonie التي طبعت الروايات الغربية الحديثة، بل وغدت جوهرها، وأيضا من أجل الوصول إلى فهم أسلوب الرواية التي أصبحت: "لغتها نظاما من اللغات الأدبية المنظمة(14).

ارتبط اهتمام باختين وبحثه عن أصول الرواية بأهمية الجنس/الصنف الأدبي عنده الذي: "يعكس، بحكم طبيعته نفسها الميول أكثر رسوخا وخلودا في تطور الأدب، ففي الصنف الأدبي تجري دائما المحافظة على العناصر غير القابلة للفناء، في الكلمات والمصطلحات القديمة الحقيقية، إنّ هذه الكلمات والمصطلحات العتيقة تتم المحافظة عليها في هذا الصنف وذلك فقط بتجددها المستمر ومجاراتها لروح العصر إذا جاز التعبير، الصنف الأدبي يبدو دائما متشابها ومختلفا، يبدو دائما قديما وجديدا في الوقت نفسه. إنّ الصنف الأدبي يولد من جديد ويتجدد في كلّ مرحلة من مراحل تطور الأدب وفي كلّ عمل أدبي فردي من هذا الصنف، هنا بالذات تكمن حياة الصنف الأدبي ... الصنف يحيا بالحاضر إلاّ أنّه دائما يتذكر ماضيه يتذكر بدايته، الصنف هو ممثل الذاكرة الإبداعية في عملية التطوير الأدبي"(15).

بما أنّ الصنف يحيا في الحاضر ويتذكر الماضي في الحاضر، فلا بد من الوقوف عند ماضيه لفهم حاضره، لهذا نجد باختين يبحث عن منبع الجنس الروائي، الذي سيعرف جزءا من حياته في أعمال دوستويفسكي وأعمال روائية أخرى أخرى.

لقد كانت انطلاقته في التنقيب عن الأصول من الفترة الكلاسيكية القديمة أي العصر الهيليني، ليتحدث عن مجموعة من الأصناف الأدبية التي تختلف فيما بينها اختلافا ظاهريا، إلاّ أنّ عمقها يوحي بصلة قرابة.

جمعت هذه الأصناف فيما يعرف عند القدماء: قطاع ما هو "مضحك بجد" ونجد فيه: المشاهد الساخرة، وحوارات سقراط، وأدب المآدب.... وضع القدماء هذا الصنف في مقابل الأصناف الجادة من مثل: الملحمة، والمأساة(16)، نلاحظ مع ما جاء به باختين أن الرواية ليست سليلة الملحمة بل على العكس، هي سليلة الجنس الأدبي الذي لم تكن الطبقة الحاكمة تهتم به، الذي أخرجه أرسطو من فن الشعر، ألا وهو الأدب المضحك والساخر.

قبل أن يتعرض باختين إلى خصوصية الفلكلور الكرنفالي الذي يجمع الهجائية المينيبية(17) والحوار السقراطي في العمق الذي يخلصهما من الجدية الخطابية، حدد ثلاث خصائص مهمة لما يعرف بالأدب المضحك بجد:

أولها: أنّ هذا الصنف يستمد مادته من الواقع ومشكلاته ويعمل من خلالها على إعادة صياغة هذا الواقع، لهذا فهو مرتبط بروح العصر وتنتفي فيه المأثورات الأسطورية، كما يصبغ على الشخصيات التاريخية صفة المعاصرة.

ثانيها: أن هذا الصنف يتكئ على الموروث، ويرجع هذا الصنف الخبرة العملية القائمة على التلفيق والاختلاف وهذا ما جعله يشكل انعطافا كاملا عمّا عرف قبله.

ثالثها: اعتماده على التنوع الأسلوبي المتعمد لأنّه يرفض الوحدة الأسلوبية، لهذا نجد فيه تعددا للأصوات، كما يتميز أسلوبه القصصي بتعدد النغمات وبمزج الوضيع بالسامي، والمعارضة الساخرة للأصناف الجادة كما يمزج الشعر بالنثر.

يُورد باختين هذه المميزات لأنّها لعبت دورا كبيرا في تطوير الرواية الأوربية عامة، ونصوص دوستويفسكي خاصة، من هنا عاد باختين إلى الجذور الأساسية للصنف الروائي الأولي وهي: الملحمي والبياني المتكلف والكرنفالي، وطغيان جذر على الآخر في فترات ما، هو ما ولد صنفا أدبيا خاصا بكلّ فترة.

حسب باختين البحث في طبيعة الصنف الكرنفالي هو ما سيصل بنا إلى اكتشاف الخصائص الصنفية الإبداعية عند دوستويفسكي والكتابات الأدبية في عصر النهضة، لأن الكرنفال كان بمثابة العمق المشكل لما عرف بالأدب المضحك بجد الذي يضم: الحوار السقراطي، والهجائية المينيبية. هذان الصنفان كانا لهما تأثير بالغ في تطوير ما سمي بـالأدب الحواري، لهذا يقف عندهما باختين بنوع من التفصيل.

يقف أولا عند الحوار السقراطي(18) الذي يعتمد على الطبيعة الحوارية التي غايتها من استعمال الحوار هو الوصول لاكتشاف الحقيقة، فسقراط ينفي أن تكون الحقيقة جاهزة، لأنها بناء، أي تُولد بين الناس وليست جاهزة عندهم، لهذا كان منهج سقراط هو "الكشف الحواري عن الحقيقة.... بالاستناد إلى موقف كرنفالي شعبي"(19). أي إثارة الحوار في جوّ يسمح لكلّ واحد فيه أن يعبر عن رأيه من دون سيطرة أو خوف.

إذا تأملنا هذا القول أمكننا الوصول إلى فكرة أنّ الرواية الأوروبية وخاصة روايات دوستويفسكي متأثرة بمبدأ الحوار السقراطي، كما أنّ إنسان الفكرة موجود بوضوح في أعماله الروائية، إلاّ أنّ باختين يشير إلى أنّ الحوار السقراطي لم يعمر طويلا وولّد نوعا جديدا أو صنفا أدبيا آخر وهو الهجائية المينيبية (20) التي تكون قد كوّنت المبادئ الأولية للنثر الأوربي.

بعد أن تطرق باختين لكلّ ما يميز الحوار السقراطي عن المينيبية والخصائص التي تتمتع بها، والظروف التي أثرت في بنائها، رأى أنّ هناك ما يربط هذا النوع الأدبي بما حملته أعمال دوستويفسكي من خصائص تقترب جدا من خصائص المينيبية، لكن الفرق هو أنّ دوستويفسكي جدد في خصائص المينيبية العتيقة بخلقه لتعددية أصوات لم تعرفها المينيبية، يقول: "إنّ أهم فرق بينهما يكمن في أنّ المينيبية العتيقة ما تزال لا تعرف شيئا عن تعدد الأصوات، كان بإمكان المينيبية شأنها في ذلك شأن الحوار السقراطي أن تهيئ الشروط الصنفية الضرورية فقط لظهور تعدد الأصوات في المستقبل"(21).

هيأ الصنفان إذا ظروفا لتشكيل ما يعرف بالتعدد الصوتي والحوارية، وكان دوستويفسكي حسب رأيه الوحيد القادر على استثمار خصائص هذين النوعين وتطويرهما، واكتشاف وبناء مبدأ الحوارية في نصوصه، لهذا وإن كانت هناك، كما لمحنا سابقا، أوجه التقاء بين الحوار السقراطي والهجائية المينيبية في تطوير النثر الأوربي، التي يمكن أن نلتقي بها في نصوص دوستويفسكي مثل ما خلقته فيه من تعدد أسلوبي، وروح المغامرة، فإنّ باختين لا يزال يعتبر أنّ تعددية الأصوات عند دوستويفسكي ملكت خصوصيتها التي لا يمكن أن نردّها فقط للحوار السقراطي أو المينيبية الهجائية.

لهذا نجده يعرج على الكرنفال، للبحث عن كيفية إصباغ الروح الكرنفالية على الأدب، منطلقا من تعريف الكرنفال الذي يعده: "قوة تعبيرية مميزة خلقت تواصلها ورأيها في العالم بطريقتها الخاصة، طريقة إيحائية رمزية حاول الكثيرون نقلها إلى لغة الكلام، رغم تعذر هذه الترجمة، وكان الأدب من بين الترجمات التي حاولت نقل هذه القوة المعبرة"(22) من أهم خصوصيات الاحتفال الشعبي الكرنفالي تقريبه الرفيع من الوضيع، والمقدس من المدنس، ففيه كلّ شيء مسموح وممسرح بطريقة يقول الجميع ما يريدون دون خوف، وبسخرية، وبطريقة مضحكة، لهذا كان الضحك الكرنفالي(23)، رغم ما يحمله من سخرية وطرافة، رمزا لنقد السلطة بطريقة صارخة، ونقد أحوال المجتمع، لهذا يعود بنا باختين إلى الأصول الأولى لهذا الفن في القرون الوسطى وما تلاها، يقول:

"إنّ إنسان القرون الوسطى عاش نمطين من الحياة تقريبا واحدة كانت رسمية وجدية، عابسة خاضعة لنظام تراتبي صارم، مليئة بالخوف والتعصب. وأخرى سوقية، بطريقة كرنفالية حرة مليئة بالضحك المكافئ بين الأضداد"(24)، فـالكرنفال في عمقه كان سبيلا لطمس الحياة الروتينية والرسمية، لكنه كان محددا بفترة زمنية لا يجوز خرقها، أي أن الفترة الرسمية لها شرعيتها، وتملك السخرية أيضا هذه الشرعية، ما يَحُدُهما هو زمن الوقوع.

وجد الكرنفال في طرافة الجوّ التعبيري شيوعا في مختلف الفترات، إن لم يتحدث باختين في "شعرية دوستويفسكي" عن طبيعة الكرنفال في القرون الوسطى بعمق أكبر، إلا أننا نجده في كتابه "مؤلف فرانسوا رابليه..." قد تناول مختلف تطورات الكرنفال الذي لم يكن بمثابة حفل أو مهرجان شعبي فقط، بل كان بمثابة رؤية جديدة للعالم، نظرة تخلو من الخوف وناقدة للأوضاع، من جهة أخرى هي نظرة إيجابية وليست عدمية، لأن الكرنفال استطاع أن يجد الأساسيات المادية لهذا العالم، هذا ما نسمعه من قولنا كرنفال العالم أي: "خرق كامل للجاد الغوتي، من أجل إرعاب الصوت ليصل إلى جو جديد، حر وعميق"(25).

لاحظنا كيف أن الكرنفال عُد بمثابة الحياة الثانية لشعب العصر الوسيط أساسه الضحك، فالحفل كان السمة الأساسية لهذا العصر. يرى باختين أن هاته المهرجانات هي شكل من الأشكال الأولية المهمة للحضارة الإنسانية، كما أن لها: "دائما محتوى مهم، ومعنى عميق، كما عبرت دوما عن مفهوم للعالم"(26)، أي أن جانبا فكريا كان يصوغها وليست موجودة أو وجدت اعتباطا، بل لها عمق ودلالة، لهذا يقول أيضا: " لكي يصبح حفلا، يجب أن يكون هناك عنصر حاضر من جو آخر، من الحياة اليومية ومن الفكر أو الأفكار.... يجب أن تكون هنالك أهداف خارجية أو عليا للوجود الإنساني، أي ما هو موجود في عالم الأفكار المتعالية les idéaux ومن دون هذا يتعذر وجود جو حفل"(27).

لكن مع عصر النهضة، ابتداءً من القرن السابع عشر، بدأ انحدار هذا النوع التعبيري، لأن الحياة الشعبية بدأت تتناقص، ولأنّ البلاطات أصبحت تعرف ما يسمى بحفلات الرقص المقنعة والتي كانت بمثابة تعويض عن الكرنفال، لهذا فقد هذا الأخير شيئا فشيئا طابعه الشعبي لبقائه بين الجدران.

أما في النصف الثاني من القرن السابع عشر فقد أصبح الأدب(28) هو الحامل الرسمي للروح الكرنفالية، حيث استطاع أن يحافظ على السخرية، وعلى الجوّ البطولي وانتهاك الموروث، تكمن أهمية السخرية الروائية في أنها تعطي أو تمنح سبيلا لعالم آخر تماما، لترتيب آخر له، لبنية أخرى للحياة، فالساخر يجعلنا نقتحم حدود الوحدة وما هو غير مناقش، بفضح كذب العالم الموجود(29).

يعمم باختين، بعدها، إحساسه بوجود الجو الكرنفالي في كل الأعمال الأدبية لعصر النهضة، هذا ما جعل رواد النهضة يكتسبون قناعة تمكنهم من تحويل ترتيب العالم جذريا بوجود ثقافة هزلية كرنفالية شعبية. فأدب النهضة على عمومه مشبع بالروح الكرنفالية.

بذلك كان الأدب الفن الوحيد الذي استطاع أن يعيد للكرنفال حياته بعد أن سلبتها إياه الظروف الاجتماعية، غير أن الحياة فيه لم تعد لتقام أمام الملأ، بل نجدها بين السطور مجسدة في ألفاظ الساحة العمومية، مثلما يظهر ذلك في نصوص رابليه، فهي من بين مجمل كل النصوص الأدبية العالمية، التي جسدت الطابع الاحتفالي الكرنفالي بصورة كبيرة، حتى أنه سطر ولادة الاحتفال الشعبي.

مما تقدم يرى باختين أن فهم عالم هذا الروائي لا يتسنى من دون فهم معمق لمعنى الاحتفال الشعبي، من خلال دراسة لغة الكرنفال التي تطورت بعد مئات السنيين وتطورت معها رموزها ودلالتها.

يُمَكنُنا الوصول إلى الثروة اللغوية التي تغلف الخطاب الهزلي، وفهم هذه الثروة المنسية، التي استعملها رابليه واستعمل أيضا نظام صورها، كما استعملت بدرجات متفاوتة عند شكسبير، وسرفنتاس، من فهم أدب عصر النهضة، الذي أصبحت فيه الرواية سيدة الأجناس الأدبية بطبيعتها المتفردة وجوهرها اللامع وأصولها المتجذرة في التراث الأدبي الإنساني، التي تنفي كونها إبداع الطبقة البرجوازية مادمت سليلة الأدب "المضحك بجد".

من خلال جينيالوجيا الرواية التي صاغها باختين يمكننا أن نفهم جيدا المعادلة التي أوصلنا لها، فالرواية ليست نابعة من الأجناس القديمة المحبذة من قبل السلطة، بل هي تطور لمختلف أشكال التعبير الأكثر سوقية التي استعملها الإنسان ليعبر بها عن قهره ومعاناته، تعبيرا ينم عن فهمه للوجود الذي يعيش فيه بكل أبعاده.

الهوامش:


1Milan Kundera: L'art du roman; Essai. Edition Gallimard 1986, p 14.

2Ibid., p16.

3"Mikhaïl Bakhtine :Récit épique et roman; in Esthétique et théorie du roman: Traduit du russe par Daria Olivier, Edition Galimard, 1978; p473.

4Ibid., p441.

5[1]بيار شارتييه: مدخل إلى نظريات الرواية. ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى،2001. ص12.

6 Mikhaïl Bakhtine: De la préhistoire du discours romanesque: in Esthétique et théorie du roman; p401 et 402.

7 Mikhaïl Bakhtine: Esthétique et théorie du roman:p19.

8Mikhaïl Bakhtine: du discours romanesque: in Esthétique et théorie du roman. p 93.

9 من بين أهم المفاهيم التي انتقد بها باختين لسانيات دي سوسير التي أطلق عليها اسم الموضوعية المجردة، ونشير إلى أن هاريس ليس أول من خرج عن الجملة إلى الخطاب بل باختين هو من فعل هذا، وفي مؤلفه "الماركسية وفلسفة اللغة"، تناول بالنقد سوسير ومنهجه، كما دأب على دراسة مشكل التركيب.

10انظر: ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط 1987. ص7.

11Mikhaïl Bakhtine: De la préhistoire du discours romanesque: in Esthétique et théorie du roman: p444

12Ibid.,p448.

13Mikhaïl Bakhtine : Récit épique et roman; in Esthétique et théorie du roman p472.

14Bakhtine: Esthétique et théorie du roman: p222.

15يخائيل باختين: شعرية دوستويفسكي، ص154.

16انظر، المرجع السابق ص155 و ص156.

17المينيبية Ménippé: يعود الهجاء المينيبي إلى مينوس العذارى، وهو كاتب سوري من القرن الثالث الميلادي كتب باليونانية ولاقت كتبه رواجا منقطع النظير لكنها لم تصل إلينا، وهو أول كاتب مزج الشعر والنثر واشتهر بنقده اللاذع وهجائه الساخر. من كتاب جان لوي كاباناس: النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، ترجمة عبد الجليل الأزدي، تقديم عبد العزيز جسوس، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 2002، ص138.

18ويعتمد بناء الحوار عند سقراط على أسلوبين وهما: السنكريزة، والأناكريزة، أما الأوّل فيعني "أن يقابل بين وجهات نظر مختلفة حول مسألة بعينها". أما الثاني فيقصد به "القدرة على أن تُثار كلمة المناقش الآخر وأن تُستفز وأن يُجبر المناقش على الإفصاح عن رأيه وأن يبوح عن كلّ ما في نفسه". ويعمل هذان الأسلوبان معا على إشاعة روح الحوار ونفي المونولوجية، فالكلّ يتكلم، أو يُستفز ليتكلم، لهذا يكون البطل في الحوار السقراطي محملا بإيديولوجية معينة. ليكون هذا الصنف حسب باختين الأوّل من نوعه في الأدب الأوربي الذي يدخل البطل صاحب الإيديولوجية، وبالتالي يكون حرا لنفسه ولفكرته، لهذا أهم ما يميز الحوار السقراطي أنّ: "الفكرة تقترن عضويا بصورة الإنسان حاملها". انظر ص160و 163 انظر كتاب شعرية دوستويفسكي.

19ميخائيل باختين: شعرية دوستويفسكي، ص 159.

20نتمهل لنقف عند خصائص الهجائية المينيبية كما قدمها باختين لنحكم بعدها بتأثر دوستويفسكي والرواية الغربية الحديثة بهذا النوع، لأنه حتى وإن كان انحلال الحوار السقراطي قد كوّن أصنافا حوارية أخرى ولكن هذا لا يعني حسب باختين: "النظر إليها وكأنّها ثمرة خالصة من ثمار انحلال الحوار السقراطي، وذلك نظرا لأنّ جذورها تغور مباشرة في الفلكلور الكرنفالي الذي يعدّ تأثيره الحاسم هذا أرجح بكثير ممّا نجده في الحوار السقراطي".ص : شعرية دوستويفسكي 163

الهجائية المينيبية صنف أدبي ورث المبدأ الحواري عن الحوار السقراطي، ولكنه أضاف إليه عنصرا مهما وهو العنصر المضحك، كما أن المينيبية تختلف عن الحوار السقراطي في تحررها التام من القيود التاريخية، وتشبعها بالاختلاف الفلسفي، كما قد يكون أبطالها خرافيون، لهذا أهم ما يميز الهجائية المينيبية هو: الخيال الجامح والجريء، وإصباغ روح المغامرة، والحوار الفلسفي، إضافة إلى تكثيف الطابع الرمزي، انظر المرجع السابق: ص167

كما رأى باختين أنّ المينيبية احتفظت بالشكل الحواري لتبين وتجسد: "الموقف الإنساني اتجاه نفسه بالذات، وهذا ساعد على خرق كمال الإنسان وخرق مبدأ إنجازيته" من كتاب شعرية دوستويفسكي: ص170.

21 المرجع السابق: ص177.

22االمرجع نفسه: ص 178.

23لمزيد من التعمق يمكن العودة أيضا إلى رسالة دكتوراه الأستاذة نورة بعيو: الخطاب الروائي عند عبد الرحمن منيف، خماسية مدن الملح وثلاثية أرض السواد أنموذجا، رسالة لنيل شهادة دكتوراه الدولة، تخصص أدبي، السنة الجامعية 2007، 2008، بجث مرقون جامعة الجزائر، لأنها في الفصل الأول من الرسالة، المبحث الثاني منه تعمقت في عنصر الضحك الكرنفالي، وفي المقارنة بين السرد الملحمي والرواية، انظر الصفحات: 43، و44، و45، و46 من الرسالة.

24شعرية دوستويفسكي: ص180.

25Mikhaïl Bakhtine: L’œuvre de François Râblais et la culture au moyen âge et sous la renaissance:Traduction : André Robel; Edition Gallimard : 1970. p237.

26Ibid.,p17.

27Ibid.,p17.

28أدب باختين أنّ أفضل من مثّل في الأدب المحاكاة الساخرة هو نصّ "دون كيشوت" لسارفانتيس، الذي أُشيع فيه الجوّ الكرنفالي بطريقة جيدة، لأنّه جمع بين الأضداد ليكون هذا العمل: "أروع الأعمال الروائية ذات الطابع الكرنفالي في الأدب العالمي"، ص187 من شعرية دوستويفسكي، بل وصل إلى اعتباره: "رواية منظمة مباشرةً كفعل كرنفالي معقد متناغم بكل مكملاته الخارجية، فعمق ومنطق الواقعية السرفانتاسية بدورها محددة من خلال استلهامها الكرنفالي القح للتحولات والتجديد." انظرص275 من كتاب Mikhaïl Bakhtine : L’œuvre de François Râblais وليس سرفانتيس وحده من يجسد هذه الروح الكرنفالية في نصوصه، فحتى في أعمال شكسبير نجد تجسيدا بارزا للعمق الكرنفالي من خلال رؤيته للعالم، حيث يقول باختين: "نجد في أعماله عدة تمظهرات لعناصر كرنفالية..."ص 275 المرجع السابق.

29 Mikhaïl Bakhtine : L’œuvre de François Râblais ,p57.




د/أم السّعد حياة
جامعة الجزائر 02( الجزائر)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى