عبد القادر وساط - في ضيافة شعراء المُفَضَّليات (5) خمسة شعراء يبحثون عن مؤلف

كانوا ستة شعراء في البداية...
وكانوا في انتظاري ، في إحدى الخيام، كما هو مقرر في برنامج الحلم...
لكن أحدهم، وهو مُرّة بنُ هَمَّام بنِ مُرّة، انسحبَ من الجلسة بسبب صداع مفاجئ...
أما الشعراء الخمسة الآخرون، الذين كان عليّ أن أجتمع بهم في الخيمة المذكورة، فهم: الجُمَيْح والحارث بن ظالم والمَرّار بن مُنْقذ وعَبْدة بن الطبيب وأُفْنُون التغلبي...
كنتُ أعرف أسماءهم ولا أعرف وجوههم. ومن حسن الحظ أن الدليل الذي كان مكلفا بمرافقتي قد فطنَ للأمر في الحين، فقام بتقديمهم إلي واحدا بعد الآخر، على الطريقة " الغَرْبيةً". هكذا أشار إلى الشيخ الجالس عند مدخل الخيمة قائلا: " هذا شيخنا مُنقذ بن الطماح، المعروف بالجُمَيْح. وهو أحد فرسان الجاهلية ... كان غَزّاءً مقداماً، وهو صاحب الغارة على إبل النعمان بن ماء السماء، وقد قُتلَ يوم جبلة... وكان أبوه الطماح صديقا لامرئ القيس وسافر معه إلى أرض الروم.... وللجميح هذا قصيدة بائية مفضلية مشهورة في عتاب زوجته أمامة... وهو عتاب يبلغ أحيانا مبلغ الهجاء... وقد تساءل في مطلع قصيدته عن السبب الذي جعلَ امرأتَه أمامة صامتة لا تكلمه، فهل أصابها جنون أم لقيتْ أهلَ خَرّوب، وهم قومها، فحرضوها عليه وأفسدوا رأيها فيه؟ وهذا المطلع هو:
أمستْ أمامةُ صَمْتاً ما تُكَلِّمُنا = مجنونةً أمْ أحَسَّتْ أهلَ خَرُّوبِ؟
إثر ذلك، أشار الدليل إلى الشاعر الجالس عن يمين الجُمَيح وقال: " وهذا الحارث بن ظالم المري، من أفتك الناس وأشجَعهم، وبه يُضرب المثل فيُقال: (أفتك من الحارث بن ظالم) و ضربَ جرير بسيفه المثل في قوله: ( ضربتَ ولم تَضربْ بسيف ابن ظالم)...
و أما الشاعر الثالث فقدمه الدليل قائلا: " وهذا المَرّار بن منقذ، شاعر إسلامي كان بينه وبين جرير هجاء كثير... وله قصيدة رائية مفضلية مشهورة، يَعجب فيها من إنكار صاحبته إياه لما كبرَ وعلاه الشيب، ويعتز بذكريات الشباب واللهو ويفتخر بمعاشرته للملوك،... ومطلع القصيدة هو:
عَجَبٌ خَوْلَةُ إذْ تُنْكرُني = أمْ رأتْ خولةُ شيخاً قد كَبرْ؟
ثم إن الدليل أشار إلى الرجل الزنجي ، الجالس عن يمين المرّار، وقال: " هذا عبدة بن الطبيب، شاعر مُجيد، مخضرم أدرك الإسلام فأسلم، وحارب هرمز والفرس بالمدائن... وهو صاحب البيت الرائع في رثاء قيس بن عاصم:
( وما كان قيسٌ هلْكُهُ هلْك واحد = ولكنه بنيان قوم تَهَدّما)...
وكان عمرو بن العلاء يرى أنه أرثى بيت قالته العرب. أما ابن الأعرابي فقال عنه : " هو بيت قائم بنفسه، ما له نظير في الجاهلية و لا في الإسلام "... وعبدة هذا لم يهج أحدا لأنه كان يترفع عن الهجاء من باب المروءة و الشرف...
فلما جاء دور أفْنُون، أشار إليه الدليل مبتسما ولبث صامتا بعض الوقت ، قبل أن يقول: " وهذا أفنون التغلبي، واسمه صريم بن معشر ، و يُحكى أنه لقيَ كاهنا في الجاهلية فسأله عن موته، فقال له الكاهن: ( ستموتُ بمكان يقال له إلاهة) فصادف أن حل يوما مع أصحابه بالمكان المسمى إلاهة، فنزلوا و أبى هو أن ينزل معهم وبقي راكبا ناقته. إثر ذلك، جاءت أفعى فلدغته في ساقه ، فأدرك أنه هالك لا محالة، فقال قصيدته المفضلية المشهورة، التي نعى فيها نفسه نعيا حزينا... و منها هذا البيت الرائع:
( لَعَمْرُكَ ما يَدْري امرؤٌ كيف يَتَّقي إذا هوَ لمْ يَجْعَلْ لهُ اللهُ واقيا) ...
ومنها كذلك قوله:
( فَطَأْ مُعْرضاً إنَّ الحُتُوفَ كثيرةٌ = وإنك لا تُبْقي بمالكَ باقيا)...
فلما انتهى الدليل من ذلك (التقديم)، التفتَ إليّ وقال:
- أيها الحالم، إن هولاء الشعراء قد تركوا قصائد خالدة حقا... ومع ذلك فإن الناقدين ومؤرخي الأدب لم يولوهم المكانة التي يستحقونها... وحتى أخبارهم المتفرقة في كتب التراث لا تشفي الغليل...
وعند هذا الحد ، تدخل الجميح قائلا:
- ارفق قليلا بصديقنا الحالم، أيها الدليل ، فأنت لم تَدْعُه حتى للجلوس!
ثم إنه حدجني بنظرة ذات معنى و قال لي:
- الحق أنا دعوناك إلى هذا الحلم لأننا نبحث عن مؤلف...
كنت عندئذ قد اتخذتُ لي مكانا بين المرّار بن منقذ و عبدة بن الطبيب...
ولما كف الجميح عن الكلام، مال عليّ عبدة وخاطبني قائلا:
- نعم يا صاحبي، نبحث عن مؤلف يكتب عنا ويروي أخبارنا الحقيقية و يدون أشعارنا المجهولة...عوض الاكتفاء بما تناقله الرواة من أخبار كاذبة ومن أشعار نادرة متناثرة...
قلت وأنا لا أكاد أصدق ما أسمع:
- يا سادتي الشعراء، أنتم على حق فيما ذهبتم إليه ولكنه موضوع يطول، فلنتركه حتى حلم آخر...
ولم أكد أنتهي من كلامي ذاك حتى صحوت ووجدت نفسي على سريري ، في بيتي بضاحية البيضاء، بعيدا عن أصدقائي، شعراء المفضليات، بأزيد من عشرة قرون...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى