أحمد حسن الزيات - النقد عند العرب وأسباب ضعفهم فيه -2-

فأنت ترى أن الموازنة التي قام بها الآمدي إنما كانت بين أبيات مفرده اختارها من مطالع أبي تمام في الوقوف على الديار ونحوه واختار ما يقابلها من مطالع البحتري، ثم علق على هذه الأبيات تعليقا موجزا لا يتصل بموضوع القصيدة ولا وحدتها ولا غرضها ولا سياقها، كأنها لم تكن عضوا في جسم ولا جزءا من كل ولذلك تفرغ من الكتاب وأنت لا تدري أي الشاعرين افضل. وهذا النحو الذي نحاه الآمدي في الموازنة والحكم هو الغالب على رجال الأدب في تلك العهود. فكثيرا ما تجدهم يقولون: فلان أو صف الشعراء للقوس، أو انعتهم للخيل، أو امدحهم للناس لأنه قال بيتا واحدا في وصف قوس أو نعت فرس أو مدح ملك ولم اقف على موازنة بين قطعتين كبيرتين من قصيدتين إلا في كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لضياء الدين نصر بن الأثير الجزري المتوفي سنة 637 فقد وازن بين قصيدتين في وصف الأسد للبحتري والمتنبي، وبين قصيدتين في الرثاء لأبي تمام والمتنبي، وإن لم تكن الموازنة تامة من كل وجه. . .

ومن الظواهر التي تسترعي نظر الباحث أن اللغويين والبيانيين قد اغفلوا نقد المنثور إلا ما اتصل بالقران الكريم والحديث الشريف. وقد ظهر اثر هذا الإغفال واضحا في كتاب نقد النثر المنسوب إلى قدامة بن جعفر فانه بكتب البيان والبديع أشبه. ولعله لو وجد ما يحتذي في هذا الباب من كلام الأدباء لما بان عجزه ووضح قصوره. وما ذكره ابن الأثير في كتاب المثل السائر إنما دار على الرسائل المسجوعة دون غيرها من أنواع النثر.

فما سبب قصور العرب عن النقد البياني، وما علة هذا النقص الذي استتبع نقصا مثله في تاريخ الأدب؟

سبب ذلك أن اسبق الأدباء إلى النقد هم اللغويون والنحاة. كانوا هم قضاة الشعر في أو اخر القرن الثاني وفي القرن الثالث، إليهم يحتكم الشعراء، وعنهم يأخذ الملوك والأمراء، حتى قال الخليل بن أحمد: (إنما انتم معشر الشعراء تبع لي، وأنا سكان السفينة أن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم) وغرض هؤلاء اللغويين والنحاة من النظر في الشعر إنما كان جمع الشواهد على غريب الألفاظ وصحة القواعد، وتسجيل معاني الشعر ومن ابتك ومن سرقها. فكلما كانت القصيدة احفل بالشواهد واجمع للغريب كانت اجود، وكلما كانت المعاني ارسخ في القدم وأصل في الابتكار كانت افضل. ومن ذلك كان اغلب النظر مقصورا على الأبيات المفردة الشاهدة على صحة الكلمة، أو سلامة القاعدة، دون نظر إلى علاقتها بالقصيدة. وكان الري مجمعا على تقديم الشعر الغريب على المانوس، وتفضيل الشاعر القديم على المحدث. وقد اغرقوا في أيثار الجاهلي على الإسلامي من غير ميزة إلا الأقدمية، حتى قال أبو عمروا بن العلاء: (لو أدرك الأخطر يوما واحدا من الجاهلية ما فضلت عليه أحدا). وكان شعراء القرن الثاني ينكرون ولا بد على أقطاب اللغة والأدب هذا التحكم ويسألونهم الأنصاف، فقد روى صاحب الأغاني أن حمادا الأرقط قال: لقينا ابن مناذر بمكة، فأنشدني قصيدته: كل حي لاقي الحمام فمود. . . ثم قال لي: أقرا أبا عبيده السلام وقل له: يقول لك ابن مناذر: اتق الله واحكم بين شعري وشعر عدي بن زيد، ولا تقل ذلك جاهلي وهذا إسلامي، وذاك قديم وهذا محدث، فتحكم بين العصرين، ولكن احكم بين الشعرين، ودع العصبية)!

وأخذ هذا الإنكار ينتشر ويشتد كلما ورفت ظلال الحضارة فصقلت الألسن وأرهفت الأذواق، حتى هب جماعه من بلغاء الكتاب في أوائل القرن الثالث ينقضون أحكام اللغويين والنحاة ويبنون الأحكام الأدبية على قواعد اقرب إلى التسوية والموضوعية؛ فقد قال الجاحظ المتوفى سنة 255: (طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبة، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم اظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب، ومحمد بن الزيات). وقال أيضا: (رأيت أناسا يبهرجون أشعارالمولدين ويستسقطون من رواها، ولم أر ذلك قط إلا في رواية غير بصير بجوهر ما يروى، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمان كان. وقال عبد القاهر في دلائل الأعجاز: (روى أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر سأل البحتري عن مسلم وأبي نؤاس أيهما اشعر؟ فقال أبو نواس. فقال: أن أبا العباس ثعلبا لا يوافق على هذا فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنما يعلم ذلك من دفع في سلك طريق الشعر ومضايقه وانتهى إلى ضروراته) ثم سلك أبن قتيبة المتوفى سنة 276هذا المسلك فقال في كتاب الشعراء: (ولم اسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر نختار اليه، سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقديمه، إلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل بين الفريقين وأعطيت كلا حظه ووفرت عليه حقه؛ فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله. ولم يقصر الله العلم بالشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل كل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والاخطل وأمثالهم يعدون محدثين؛ وكان عمرو بن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته. ثم صار هؤلاء قدماء عندنا، كالخزيمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم. فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه وأثنينا عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله ولا حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه)

واخذ مذهب التسوية بين القدامى والمحدثين يذيع على الأفواه ويروى في الكتب، حتى شاع الترف والسرف والظرف في حياة الناس فتفننوا في أساليب العيش، وتأنقوا في أفانين الكلام، واستحدث العراقيون ألوان البديع، واخذ البيانيون ينقبون عن أنواعه في عبقرية المولودين، كما كان اللغويون والنحاة ينقبون عن شواهد اللغة والنحو في كلام الجاهليين والمخضرمين، فبان شأوهم على المتقدمين في هذا المضمار، وأخذت سوقهم تنفق، وكفتهم ترجح، حتى ظهر في العلماء من يتعصب لهم ويتعزز بهم. واشهر هؤلاء ابن الأثير، فقد ناضل عنهم في مواضع متفرقة من كتابه المثل السائر، ومن ذلك قوله. (ولم اكن ممن اخذ بالتقليد والتسليم في اتباع من قصر نظره على الشعر القديم، إذ المراد من الشعر إنما هو إبداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل. ولقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أو س، وأبي عبادة البحتري، وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الشعراء هم لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهر على أيديهم حسناته ومستحسناته. وقد ضمت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء) وقال في موضع أخر: (أن في الشعراء المتأخرين من فاق المتقدمين. والذي أداني إليه نظر الاجتهاد دون التقليد، أن جريرا والفرزدق والاخطل اشعر ممن تقدم من شعراء الجاهلية، وبينهم وبين أولئك فرق بعيد. وإذا استفتيت قلت أن أبا تمام والبحتري والمتنبي اشعر من الثلاثة المذكورين، وليس عندي أشعر منهم في الجاهلية ولا في الإسلام. . . وإذا انصف الناظر وترك التحامل ثم ترك التقليد عرف أن حرف الميم وحرف اللام من شعر أبي الطيب المتنبي قد ضمنا من الجيد النادر ما لم يتضمنه شعر أحد الفحول من شعراء العرب).

مما تقدم نستخلص أن علماء اللغة والنحو والبيان لم ينظروا إلى القصيدة باعتبارها كلا تتساوق أجزاؤه إلى غرض واحد، وإنما نظروا إلى ما تشتمل عليه أبياتها من غريب الكلم أو أصيل التراكيب أو محسنات اللفظ، وجعلوا ذلك سبب التفضيل وعلة الاختيار وأساس الحكم. وقل منهم من فطن إلى وحدة. القصيدة كالحصري القيرواني حين أشار إلى ذلك في زهر الآداب وروى عن الحاتمي قوله: (مثل القصيدة مثل الإنسانفي اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الأخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه وتعفى معالمه. وقد وجدت حذاق المتقدمين وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراسا يجنبهم شواهد النقصان، ويقف منهم على محجة الاحسان، حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها من جزء. وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم ولطف أفكارهم، واعتمادها البديع وأفانينه في أشعارهم)؛ ولكنهم لم يبسطوا هذا الرأي ولم يطبقوا فيما عالجوه من النقد والموازنة.

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

مجلة الرسالة - العدد 682
بتاريخ: 29 - 07 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى