نهاد عبد الملك - مطر ليلة صيف (قصة قصيرة)

فى مساء أحد أيام سبتمبر الحارة، جلست تنتظره.. خفَّتْ الإضاءة قليلًا.. حاولتْ أن تشغل فكرها بقراءة كتاب، ولكن.. عبثًا، كانت صورته تقفز بين الصفحات.. تكاد تخفى الكلمات المطبوعة!!..

وطالت، كالعادة، حرارة الجو، تحرقها داخليًّا، أكثر من خارجها.. كل يوم، حنينها يزداد إليه، وشعور غيرة يقتلها ألف مرة!.. تنتابها الهواجس بكذبه عليها، حتى باتت تخنقها!!..

حادثت نفسها:

"أخشى هذا الصمت.. فقدت قدرتي على الكلام !!"..

"أخشى أن تغرق روحي، وأموت من الداخل.. أخشى أن تطبع القسوة على جدران قلبي، وتنسحب الألوان من أحلامي.. لا، بل تنسحب أحلامي كلها !!"..
"أخشى هذا الصوت، الذي يصرخ بداخلي، حين تتراكم الأشياء فوقه: أفيقى.. لقد تحولتِ لطفلة ميتة، تحت جلد امرأة !!.. اليوم، سوف أنتظره، لأحادثه"..

مرت الساعات بطيئة، حتى عاد، وتفاجأ بانتظارها له !!.. حاول الابتسام، ومداعبتها بكلمات رومانسية.. لكنها قاطعته:

"كفى خداعًا!!.. لقد صرتُ أتجاهل اليوم، مقابل الغد.. أتجاهل نفسي.. وأنغمس في هذه الحشود المتدافعة نحو المجهول!!"..

"لم أَعِ يومًا ما التيار، حتى صرعني، وسرت معه!!.. لم أدرك حجم اختلافي الذي كان، حتى بتُّ أُشْبِه كل شيء، وتنازلت عن هذا الصوت داخلي.. لا، بل فقدته كليًّا!!"..
"فقدتُ ذاتي، فى انتظارك، وعبثًا.. حاولت إيجاد مبرر لأكاذيبك!.. ليس لديَّ العمر كله لأنتظرك.. أنا لا أملك صفحات بيضاء جديدة لنزواتك!!"..

"قُلْتَ لي: لا يمكن ان نفترق كالأرض والسماء، يجمعنا أفق.. وضحكتُ في أُذُنِك: الأرض والسماء لا تلتقيان أبدًا، فما الأفق إلا وهمٌ، ترسمه أعيننا!!.. فغضبتَ مني، وأخبرتني عن قصة الحب في المطر، وعن رسائل العصافير، وحزن الريح، ونسمات الشوق، وعن زهرة تنبت كل لقاء، لكن.. عنقك يحمل تاريخ عطورهن!!!.. وأنتَ تزعم أن الحب لم يُغرِّد إلا على أغصاني، وأن ثماري لا تعرف مواسم !!"..

"أين أخبئك.. يا مغرور، وأنتَ بين جفني، ونومي.. ذاكرتي، ويومي.. وجودي، والفَنَاء ؟!!"..

"أين أخبئك.. إن كانت رائحتي "عطرك".. وأغنياتي "اسمك"؟!!"..

"إِنْ كنتَ تريد رحيلي، فَقُلْهَا، صراحةً، وسأنفذ"..

وقف مبهوتًا.. أمام اندفاع كلماتها، المغلفة بصدق مشاعرها، وكأنَّ يدها تمسح ضبابية، تراكمت على مرآة حياتهما.. لم ينتبه لها من قبل!!..

صبرها عليه جعله يتمادى، بدون أن يدري أنه يضيِّع بيديه حب حياته!!.. مسَّ أنينها الغائر، وسط العبرات، شِغَاف قلبه.. جذبها بشدة، ودموعه تنساب على وجنتيه، بغزارة، وهو يقول، راجيًا:

"سامحيني.. !!".. وقبل أن يكمل، انهمر بالخارج مطر غزير.. سبحان مَنْ أنزله، فى ليلة صيف!!..

انسحبتْ من بين يديه، وخرجتْ مندفعةً للحديقة، وهو يلاحقها.. وقفتْ تحت المطر، والكلمات تختنق بداخلها:

"حبي لكَ.. نهر من المسامحة، ولكن.. الحب اتحاد قلبين، وروحين"..

"أحتاج لأن تقف معي، تحت السماء الواقعية، نفسها.. تؤمن بأننا سنبتل، سواسية، حين تمطر، وأن أحلامنا ستثمر، بقدر ماغرس كلٌّ منَّا بالآخر.. لا بقدر ما ابتلَّ.."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى