الحسن أيت العامل - قراءة سيميائية عاشقة في مجموعة-المشهد الأخير- القصصية، للقاص المغربي عبد الرحيم التدلاوي.

صدرت للمبدع القاص عبد الرحيم التدلاوي، عن مطبعة ووراقة بلال ش.م.م بفاس، مجموعته القصصية الموسومة بـ "المشهد الأخير"- نصوص في القصة القصيرة جدا، وذلك بعد استفادة ودربة ومراس كبير في هذا المجال، وفي مجال النقد.
ويحملنا هذا العنوان الذي ارتضاه صاحبه- والذي تتصدره لوحة بألوان متفاوتة، ومشهد لشخصين واقفين غير واضحي المعالم، إلى دلالات "المشهد الأخير"، المكتوب بالأحمر، وبخط واضح ، وبكونه البنية "الماكرو"- إلى الرغبة في استكشاف معالم، وعوالم المجموعة، وبنياتها العميقة.
وتقع المجموعة في تسعين صفحة من الحجم الصغير، تضم بين دفتيها نصوصا قصصية قصيرة، وومضات، يصل عددها إلى خمسة وثمانين نصا. وقد تصدرَ هذه النصوصَ، تقديمٌ نقديٌ محكمُ السبك، جديدُ الرؤيةِ للأستاذ الناقد: "إدريس زايدي"؛ على امتداد خمس صفحات، يسوغ فيه اختيار القاص والمبدع وكذا القارئ عامة لهذا الجنس الأدبي في الآونة الأخيرة: (إكراهات التقنية الحديثة التي غزت العالم، ولعبة الزمن؛ حيث الزمن لم يعد يسعف على قراءة المتون الطويلة). ويرى الناقد أن جنس القصة القصيرة جدا، شهد، في البدء، "نزاعا" وطبولا مقرُوعة، وأسالَ مدادا كثيرا..قبل أن يستقر على تسمية بعينها منذ السبعينات.
إن تقديم الأستاذ "إدريس زايدي"، لا يزيدنا إلا تعلقا ورغبة في الغوص في بنى النص الباطنية، والبنيات العميقة التي تُخفيها السطور وتَتَبَطَّنها. فالمعنى كله وما ينفع الناس مخفي، أما الزبد فللقارئ العادي.
بعد التقديم، يأتي إهداء المبدع موجها إلى آل بيته، وجمعيات بعينها، وشعراء بعينهم. وتلا الإهداءَ الشكر بأصدقائه وأحبائه الأدباء.
إن عبد الرحيم التدلاوي المبدع والناقد، يمتلك من الدربة والمراس في مجال الكتابة الإبداعية والنقدية ما يؤهله ليكون واحدا من أهم المثقفين المغاربة العرب. ولعل نفسه القصصي، وأفق تخيله يظلان مميزين في المشهد الإبداعي. فنصوصه تُعبِّر عن الصراع الذي تنبني عليه الحياة، وعن الحب والخيانة بشتى ألوانهما. إن عبد الرحيم التدلاوي لا يفق الرجاء في نصوصه، بل يعتبرها أرضا صالحة لإنتاج الإنسانية.
وسنتوقف الآن عند بعض نصوص المجموعة دراسة وتحليلا:
1. الــــمشهد الأخير
احتفى القاص بعنوان مجموعته في النص القصصي الأول؛ فهو البنية (الماكرو) التي ستتشظى، وتصبح مجموعة من البنيات (الميكرو) المبثوثة في بقية النصوص اللاحقة. النص الأول، إذن، نص نواتي؛ ومنه ستولد النصوص الأولى كرحم أنثى.
عطفا على ما سبق، فقد استوقفني عنوان المجموعة "المشهد الأخير"؛ لما يحمله من دلالات. فكثيرة هي العناوين التي ارتضت كلمة الأخير أو الأخيرة كصفة لكلمة سابقة؛ وقد نذكر منها " ليلة العشاء الأخير" (رواية) للروائي المغربي إدريس الصغير...وهي عموما تحيل على العشاء الأخير للسيد المسيح عليه السلام. لكن هل يمكن أن يكون القاص قد نحَا نحو المنحى نفسه؟
2. عـــــــناد
في النص الثاني، استحضار لصراع الأنثى مع الأنثى. لكن المشهد؛ مشهد الجريمة تكرر، مما يعني أن المشهد الأخير شيء من معاناة الإنسان فوق هذه الأرض...
3. شـــــــائعة
يشغل نص "شائعة" حيزا أصغر مقارنة بالنصين السالفين. وهو نص مكثف يقوم على مثال دارجي/ عامي؛ يدل على حِرَفِيّة المرء في مجال معين، حيث إن كسرت الأنياب يدل على إتقان المرء لحرفة، أو مهنة معينة، ليبين للآخر مدى تمكنه في مجال تخصصه. يقول القاص: "ورغم أني كسرت أنيابي"، وفي العامية " هذ الشي هرست فيه أسناني أو هذ الشي فاش حيدنا أسناننا". وفي ذلك كله إما تأكيد بإتقان مهمة أو صنعة، أو تعالي وأنفة.
4. ألـــــــبوم
في قصة ألبوم، نتلمس واقعا حقيقيا لشخصية انشطارية. شخصية تعيش الوحدة، والعزلة. وفي اللحظة التي وجب على هذه الشخصية الذكورية أن تكون بجانب أنثى، أرادت كل النساء اللاتي في ألبوم (صديقه).
ويصور لنا المبدع عبد الرحيم واقعا اجتماعيا مترديا ومزريا لبعض الرجال؛ الذين يريدون كل الإناث، ولا يعيرون أدنى اهتمام للمشاعر، والحب، والإخلاص..
9. همة.
تستمر نصوص التدلاوي في غوصها الرمزي والأسطوري، لتتوقف بنا، مجددا، عند قناص/ صياد يحمل بندقيته بأناة وعزيمة. لكن طلقاته كلها تضيع في الفضاء و"الفراغ الموحش". ولا ننتظر مِنْ مَن كان في هذا الوضع سوى أن يجر ذيوله بخيبة واستسلام. ونجد التدلاوي لا يكسر أفق انتظارنا إذ يقول:
"كل طلقاته ضاعت في الفراغ الموحش، عاد ممتلئا خيبة، يجر ذيول الفجيعة، بألم الصلبان..".
حتى هذا المستوى من القصة، يبدو كل شيء يسير في الاتجاه العادي. لكن سيميائية الحدث تعكس نفسها، وتكسر أفق انتظار القارئ/ المتلقي؛ حيث يقول:
"كانت تنتظره مفاجأة في منزله.."
هنا يتساءل القارئ، مباشرة، ما هي هذه المفاجأة؟ وما نوعها؟
قد يفترض القارئ أن الطريدة أو الهدف فَرَّ من الغابة/ مكان القنص، إلى المنزل. وقد يفترض أن الطريدة هي غزالة، أو حمامة.. لكن تكهنات القارئ تخيب، ويصدمها التدلاوي مجددا؛ إذ يقول:
"وجد زوجته معلقة من رجلها اليمنى، يرجى الانتباه، من رجلها اليمنى، تقطر كرها..".

10. متى النهوض؟
يصدمنا القاص في هذا النص بعنوان استفهامي. ويتكون العنوان من كلمتين: "متى"؛ وهي أداة استفهام خاصة بالسؤال عن الزمان، و"النهوض"؛ الذي يقابله القعود أو الجلوس، وربما قصد القاص الاستيقاظ. وسنرى لماذا قلنا "الاستيقاظ".
يبتدئ النص بدخول (السارد) إلى مكان غريب! ولعله غريب على السارد؛ لأنه مختلف عن القاطنين هناك. فالصمت والسكوت الذي يعُمه لا يستسيغه السارد. لذلك أحس السارد بالخوف والرهبة. ولأن السارد بدا له شعاع حياة ونور، فكر أن يترك الناس نياما، ويبحث عن النور. يقول:
"سرت على أطراف أصابعي إلى الباب، كاتما أنفاسي، وضاغطا على نبض قلبي ..
حتى لا أوقظ الأموات".
إن هذا المقطع الأخير يؤكد أن المقصود هو الاستيقاظ. فالناس/ الشعب..نائم، وفي سبات عميق، لا يريد أن يستيقظ ليغير مهما وجَد ذاك المثقف الذي يقود السفينة.
12. أســــــــرار
في نص أسرار، يستحضر القاص أسطورتين اثنتين. أو هكذا يبدو لنا على الأقل. الأولى هي نرسيس، أو نرجس؛ الفتى اليوناني الذي أعجب بصورته لما بدا له انعكاسها في النهر، فلما حاول أن يعانق الصورة وقع في النهر ومات، ونمت وردة سميت، بعد ذلك، بـ "النرجس". أما الثانية، فهي مغربية/ أمازيغية، أقصد بركة إسلي وتسليت( العروس والعريس)، التي امتلأت بدموع شابين يحبان بعضهما البعض، لكن رفض المجتمع لزواجهما جعلهما يبكيان دموع عشق.
وإذا تأملنا هذا النص، نقول إن الكتابة عند التدلاوي مشفرة وغنية بالمرجعيات الأسطورية والرمزية والاجتماعية:
تملكته رغبة إدراك سر العالم، أطرق يفكر، غير أن هذا العالم ظل صامتا.. حيره غموضه.
وبينما هو مستغرق في تفكيره العميق، إذا بامرأة من نوره تظهر فتخطف قلبه...فرش طريقه بالأمل إليها..لما دنا منه وجده مغلقا..جثا على ركبتيه، ومن عينيه، انهمر دمع غزير صار بركة.. ما لبثت أن تحول إلى حقل ورد أحاطت بالقلب، وغدت له مفتاحا..".
13. أمــــــــــــــــر
يضعنا القاص في هذا النص أمام عنوان مثير:"أمر". ولا شك أن للأمر دلالات سيميائية في الثقافة العربية؛ فالأمر أسلوب من أساليب الإنشاء الطلبي، لكنها تتحقق بشرط الاستعلاء واللزوم. ونكتشف ها هنا أن التدلاوي/ السارد، يأمر شخصا أن يثبت مكانه. ويعلله سبب هذا الأمر بكون "الأموات لا يخافون أصوات البنادق".
إذا تأملنا هذا النص، فإنه يعود بنا إلى ذاك النص الأول(السابق)، الذي اعتبرناه (النواة)، أو البنية الماكرو التي تفرعت عنها وتناسلت منها بقية النصوص. فالقاتل (ولعله سارد أو كاتب..) ما يزال رهن البحث والتفتيش..
وبالرغم من أن هناك مؤشرات وقرائن سيميائية ونصية وخطابية عدة تدل على ما قلناه، إلا أن التدلاوي تمكن من جعل هذا النص مفتوحا على إمكانات تأويلية عدة، ولعل هذا في نظري ما يجعل نصه قوية الحبك.
14. فــــــــرحة
في نص فرحة، كما في بعض النصوص، يحتفي القاص بالمرأة/ الأنثى. فهي الرفيقة، والصديقة، والمؤنسة، ومصدر الغواية. والمتتبع لنصوص المجموعة يدرك أن القاص جد ذكي حين يوظف المرأة إلى جانب الرجل، كونهما يشكلان المجتمع معا، والمشهد الأول والأخير.
وإذا تأملنا هذه النصوص، نجد القاص لا يوظف أسماء شخوص بعينها، وإنما يوظف الضمائر الدالة على جنس الشخصية: (أظهرتْ، تحلب، تعرت= امرأة)، وفي مقابلها: (سقط في امتحان الفرحة= رجل).
يمكن القول، بناءً عليه، إن الرجل يقع، غالبا، مستسلما أمام المرأة وغوايتها/ جمالها/فتنتها..
16. تـــــــقاطع
لا يترك التدلاوي قارئه في فضاء (زمان، ومكان) واحد، وإنما يهزه هزا، ويجره جزا خفيفا لكي ينقله إلى فضاءات عامة كلما أحس بالملل في المغلقة منها. لذلك وجدنا نص "تقاطع"، يحملنا إلى الشارع بكونه مكانا عاما. ويرسم مشهدا لفرار شاب من الشرطة يحمل سيفا، فيما تخلف المطاردة أضرار على مستوى ثوب زفاف عروس. ولنتأمل إشارة القاص إلى علامة "قف"، التي اصطدم بها الشاب قبل أن يخترق سيفه ثوب العروس. فكأن التدلاوي يقول لنا إن نهاية أي شاب يفر من الواقع، ومن الشرطة..إلخ، إنما نهايته تكون بالزواج. فهل هذا هو المقصود بـ"المشهد الأخير"؟.
20. قص
في نص "قص"، يضعنا القاص أمام صورة سيميائية منحوتة في أذهاننا حول الشرطة؛ إذ الشرطة لا تمل رمز الحماية الأمان للمغربي، بقدر ما تمثل رمز السلطة والعنف والتسلط. لذلك وجدنا الشخصية الموظفة في النص حالمة بتغيير الواقع..
24. ســــواحل بيضاء
يتناص هذا النص القصصي مع حادثة هجرة بعض المسلمين الذين كانوا يبحثون عن الملوك الذين لا يظلم عندهم أحد، كما يستحضر ثنائية الشرق والغرب. فالغرب يعد أرض الخلاص؛ الأرض الموعودة عند كل مهاجر سري يرغب في تحسين أوضاعه المادية والاجتماعية. وفي النص كلمات تدل على هذا الكلام مثل (الكنز، الماء، الطعام، لا يظم عندهم أحد، البحر..).
31. نشـــــــــوة
في نص"نشوة"، يضعنا التدلاوي أمام صورة سيميائية مرة هي مهنة البِغاء؛ حيث يقول"أقدم مهنة". ويتوقف، تحديدا، عند حُكمِ القاضي على هذه المرأة (المومس)، الذي يصدر حكما عليها دون مراعاة لظروفها، وما دفها إلى هذا الفِعل، بل يذكرنا أن القاضي نفسه كان من الذين جثوا في محرابها يطلون بركتها.
35. ســــــــــــــــــارد
هل يحق للكاتب أن يغير شخوص نصه إذا لم تكن تؤدي الوظيفة المطلوبة؟ لعل هذا هو المطلوب من هذا النص. لكن التدلاوي بقلبه الكبير، يرجو ويأمل أن يسود السلام والطمأنينة بين الناس، وينفروا من الخصام والصراع. لكن، من ذا الذي بيده تلك الممحاة التي ستغير الواقع؟
37. تـــــــــــتويج
غالبا ما تكون نهاية البطل الشجاع الفوز. لكن القاص جعل أبطاله في النص ضحايا مؤامرة داخلية وأخوية؛ بحيث جيء بهم ليدافعوا عن (الوطن)، لكنهم استعملوا كدرع واق. وهكذا انتهت الحرب، وصاروا ضحايا الحرب، فيما استفاد أولئك الذين يقودونهم.
لعل التدلاوي، يعود بنا إلى تلك السنوات الماضية/ الحاضرة التي مرت بها المقاومة المغربية في الريف، والأطلس، والجنوب الشرقي..

إجمالا، ومن خلال ما سبق، يمكن القول إن مجموعة القاص والناقد عبد الرحيم التدلاوي "المشهد الأخير"، تُعدّ، بحق، من خِيرة النصوص القصصية الناضجة الرؤية، السلسة التعبير، العميقة الدلالات، المفتوحة على تأويلات عدة.
ولقد نقول إن قوة هذا النص برمته تكمن، في نظري، في الكثيف، ودقة العبارة والتصور التمثيلي والاستعاري الحيَّيْن، وفي قدرة القاص اللافتة في الغوص بنا في عوالم مدهشة لا ننتبه لها في حياتنا اليومية. ولعل ذلك يعكس مدى دقة التدلاوي في التقاط قصصه ومواضيعها، وتركها تنضج على نار هادئة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى