خالد سعيد الداموك - تقمص.. قصة قصيرة

“ لو أن الله خلقني على النقيض لما كنتُ هكذا”
قالها لنفسه ودس رأسه بين كتفيه وانحنى يُدققُ ورقته الناصعة. يطوف نظره في فضاء الصالون محاولاً استجماع الذاكرة والهروب مما حوله. يستغرق في أفكاره ويقطعها أبوه وهو يلتقط كوب الشاي من يد أمه ويُعلن على الملأ:
"سندعو الأصدقاء اليوم لتناول العشاء "
اكتفى بجملته ولم يقل شيئاً آخر، ثبتَّ إصبعين في عروة الكوب وتهادى في دهاليز المنزل حتى اختفى في مكتبه. لم يبقَ حوله سوى إخوته وأمه منهمكين في أنفسهم وهو يراقبهم بسكينة. تحركات المنزل الهادئ تُبعثره أكثر مما تجمعه على ورقته التي لا تُنتج إلا الخربشة. يحاول افتعال حزن يليق بالكتابة. يتخيل ما يريد ولكن دون فائدة. عنفوان اليوم يتوهج ضوءاً ويمر عبر الشرفة ويسقط على سلة الفطائر الفرنسية المركونة بجانبه ويجعلها تبدو أشهى لكنه لم يكن جائعاً. يريد الكتابة فقط من بينهم. تحسسَ دفء كوب القهوة فاختلطت أحاسيس الشتاء واستغرق في أخيلته التي لا تُلقي بالاً له مهما استجدى حضورها. هم حوله وقريبون منه ولكنه لا يريدهم الآن، يريد التركيز فقط، أو أنه ليس كما يريد أن يكون، ليس ذلك الرجل الذي حقق الكثير من الآلام وصارع الجوع حتى صرعه. سقط على الحياة من الأعلى فتلقفته أرائك الترف. وجد نفسه في عائلةٍ يمكن أن تكون ارستقراطية أو برجوازية رغم أن زمن الارستقراطيات والبرجوازيات انتهى. تذكر (دوستويفسكي) وهو يتخيل. أراد أن يكون فقيراً مثله. أراد أن يكون جائعاً، تائهاً، مشرداً من أجل الكتابة رفع رأسه عن ورقته ورأى أمه كالأطياف ترفل في الردهات بقميص الساتان الطويل. تُحاول قدر المستطاع أن تكون ربة المنزل الرءوم. منطقة الرحمة التي حُرم منها الكثيرون وكَبُر وهو يتلذذ بها. تُتابع إخوته الصغار في استذكارهم بين الفينة والأخرى ثم تعود لإسقاط الأوامر على رؤوس حاشية الخدم المنهمكة في ترتيب المنزل . من العسير أن يكون كاتباً في منزلٍ عدد المُستخدَمين فيه أكثر من أهله. لديهم سائقين وأربع خادمات وبوابٌ عجوز يعرفه منذ أن وُلد يسكن في مرفقات القصر ومهمته الأولى الاهتمام بالحديقة.
“أحتاجُ بؤساً كبيراً وليس من الممكن افتعاله. ستخرج كتابتي بلا روح. لا بد من تجربةٍ مريرة، همنغواي مثلاً” هذا ما قاله لنفسه “ بالقرب من المسجد يسكن رجلٌ فقير في حجرةٍ خربة، لو كنت مثله لاستطعتُ الكتابة بسهولة، هو يملك التجربة والجوع ولن يحاول الادعاء أو تقمص شخصيةٍ غريبةٍ عنه، كم أحسده على جوعه"
أعاد حديثه لنفسه ثم استرسل.
“ حجرته على سطح البيت الآيل للسقوط، أو من الأنسب تسميتها جُحر. جدران متشققة تُسرب الضوء والبرد والحر والمطر. الحمام والمطبخ في نفس الجُحر، تختلط روائح قذارته مع أشهى ما يأكله. الكهرباء كثيراً ما تنقطع لأسباب الدفع أو حتى بدون سبب. باب الجُحر ليس سوى صفيحة من الزنك بلا مقبض أو قفل، مسكين !”
أرجع جسده للخلف وابتسم بسخرية لما يفعله ثم أكمل تقمصه.
“ في العيد الكبير ذهبتُ إليه بقطعة لحم مما ذبحناه تقرباً إلى الله. طرقتُ باب الزنك فاندفع إلى الداخل من الطرقة الأولى. رأيته يجلس ملتوياً في فراشه الأرضي وينظر إليّ متعجباً من زائر العيد، التقط جسده وخف نحوي مهرولاً. نظر إليّ بحيرة متوجسة، وعندما ألقى نظرةً على ما تمسكه يدي أدار لسانه في فمه ليمسك لعابه المتكاثر. حدث ضجيج في معدته لمّا رآها حتى لو كانت نية. ربما أحس بآدميته فجأة، استشعر شبق المعدة بعد أن نسيت الشبع. نظرتُ إليه بفضول ويده تمتد لتمسك جزاء جوعه منا. تلصصتُ على حجرته السوداء من على بابه، كانت تتقمص الليل هي أيضاً رغم أن الشمس تتقد في كبد السماء. انتظرَ رحيلي بعد امتنانه العظيم الذي أبداه لعابه أكثر مما أعلنته كلماته ولكني أمعنتُ في فضولي فدخلت جُحره الأسود لرؤية ما لا يمكن رؤيته من على بابه. تخطيت حدود اللباقة وخطوت بقدمي فيها، وقفتُ في منتصفها وأنا أقلب نظري في الحياة المتناقضة والمجتمعة في تلك الحجرة، شعرتُ أنها قادرة على العيش رغم الكفاف الذي يحيط بها، تأملتها وتأملته وهو ينتظر أن أتكلم أو أرحل عنه إلى عيدٍ آخر، لم أستيقظ من إلحاح التطفل إلا عندما انفجرت مكبرات المسجد بصوت أذان الظهر من المنارة المنصوبة أمام حجرته بعنجهية" رفع رأسه قليلاً وبحث عن أمه وإخوته فلم يجدهم. سمع صوت الأذان هو أيضاً. تعجب أنه عندما تذكر الأذان في خياله انطلق منبعثاً في حقيقته ولكنه لم يبتسم. كفَّ عن التفكير واستغرق في صوت التكبير من ذات المئذنة حتى انتهى وسرعان ما عاد للتأمل في الجدران وكأنما تُلهمه. “صاحب العمارة الخربة هو المؤذن. كل يوم بعد أن ينهي إعلانه دخول صلاة الظهر ينسحب من المسجد ويصعد إليه ويطرق باب الزنك بصفاقة ويهدده بالطرد إذا لم يدفع أجرة الجُحر. التقيته يوم العيد على الدرج وأنا أنزل من الجُحر، وقبل أن أعبر باب العمارة نحو الشارع سمعتُ صوتَ صفاقته على الباب” توقف عن تأملاته وأفكاره المتهدمة كما يحدث حوله وقال بصوتٍ مرتفع:
” لا أستطيع، لا أستطيع ”
قالها لنفسه ولكن بصوتٍ مسموع. خسائره مجتمعة في رأسه المُطرق على الورقة المُخربشة. تأكد أنه لا يستطيع تقمص شيء لا يعرفه. هزيمته مخزية أمام الكتابة ما دام لا يحمل ذخيرة التجربة. نظر حوله فتأكد أن أمه غابت عنه إلى الأبد وأبوه غار في أعماق حجرته ولم يعد يرى إخوته يستذكرون دروسهم في الصالون. كان الأذان قد انتهى منذ دقائق، وسمع أحدهم يجرجر قدميه في صعود الدرج ويرفع صوته بالتهليل والاستغفار مُعلناً أنه قادم، لعنه بتمتمة وانطلق يستقبله على الباب قبل أن يطرقه بصفاقة.



* نقلا عن نادي القصةالسعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى