بسمة الشوالي - جرح البازلت

رمَحه الوجع بنصل مضاء مرّ بين فِقَر العمود كالخِياط يرتِق فراغات ما بينها لمّا كان يجادل ظهره المحنيّ في الاستواء فيتأبّى كأنّما قوس غصن هو وقد شاخ على جذعه العاري إلاّ من صدار قطنيّ وبنطال من الدّجينز مهترئ.

رفع المسحاة يقطع العمل. كوّر كفّه اليسرى على المقبض وأسند إلى ظهرها المرفقَ الثّاني مريحا إلى راحة اليمنى الخدّ، فبدا في انحناءة جسده الفارع قاتم البشرة كعبد نسيه الإله “خانوم”[1] على الدّولاب الخزفيّ يحترق، الذّهن يسرح أمامه كدابّة هزيلة تتشمّم أعشاب الأمنيات النّابتة من شقوق الحياة، وعلى حاشية المُعبّد من خلفه، تتكوّم أوساخ الطّريق أكداسا تلو أكداس لو جُمّعت كلّها إلى كومة واحدة لكانت أقلّ حجما من ورم الحزن النّاهد تحت ضلعه، أخفّ من اسمها على عاتق الشّوق..

أوت الظّهيرة إلى مخدع الظّلّ البعيد، وجنح النّهار المتضرّم إلى القائلة إلاّ السّراب خفّ إلى مركب الهواء اللّفوح مجدّفا. يمرّ بالمُقل الزّائغة فيزرع في مائها النّزير نبْت الأمنيات، ثمّ يسيح على جسد المعبّد بحيرات هُراء رقراق كأعذب ما يشتهي الظِّماء.

خلت، حينذاك، الطّريق السّيّارة من كلّ سيّارة وضجيج سوى الوهج يهسُّ في الفراغ، ويخربش على سطح الصّمت الجافّ المتقبّض كأنّما أفعى تحفّ على جلد ماعز قائظ. ولم ينتبه مجدي إلاّ وسيّارة سوداء تقف على ضلع الطّريق الأعوج. اِستقام بتؤدة على عسر القيام، وتريّث أن تُفصح السّيّارة عن حاجتها لكنّها سكنت حيث رست، ولم تنبس ببنت حركة إلاّ ما أفصح عنه زجاج نافذتها الذي انفتح عن شطر وجه امرأة غائم خلف سِدْل الهجير المصفرّ.

بهت مجدي نهزة من التّوجّس ثقلت عليه كأنّما قطعة من زمن حجريّ تنيخ على صدره حالما أزيحت عنه خَفَق جنبُه فجَعا، ونصعت على جلده الفحميّ ذؤابات “شوك روميّ” متوحّش البياض. لعلّها لمسؤول ما جاء يراقبني، أوجس. وفي ربكة طفل بوغت يقترف إثم الكبار، اِستأنف العمل بجدّ لم يألفه في ساعده، يهضل عرقا وظنونا، يقشّر النّبْت وزوائد الحاشية الإسفلتيّة في حركة سريعة مهذار ولا يرفع عينا تنكّست، أو يسرّح رقبة تغرز فيها رغبةُ التلفّت أظفارها النّواشب.. لكنْ.. لا أثر للسّيّارة يا مجدي.. !

ماذا.. !؟

ألقى ما بيده. سقط منه الأمن حتّى القدمين. جرّ شقف هيكله قدُما قدر خطوتين. رعتْ أعشابَه الدّاخليّة حشراتُ الهواجس السّامّة، وما فقس من بيوضها الشّرهة راح يدبّ في صدره كحسيس الانهيار في جدار نخِر. سحبته الهواجس بحبل الظّنون السّوء وراءً خطوات..

لا أحد فعلا. لاشيء. شُبّه لك ربّما.. أو..

كيف..؟

فرك عينيه. لطم جبهته، خلّل بأصابع يابسة شعثه. تفرّس في المدى الجفيف من حوله. أصاخ. نعق صوت الجدّة في جوفه المرتاع كغراب لم يعرف أنّى يواري سوأة أخيه.. القوائل شقيقات الظّلمات يا مجدي. مراتع الأشباح والأرواح هنّ، مسارح الجرائم المنسوبة للمجهول فاحذرهنّ يا ولدي.. لكنّك تهزأ دوما بتخاريف النّساء وجبنهنّ. سحقا، ويلا، أنا الآن لا أهزأ. أشعر كأنّما أحد ما يقاسمني قطع النّار على مائدة الهجير، ولا أراه، يدقّ صوته على بوابة السّمع فإذا فتحت له أذني لم أسمعه.. لا، بل هو السّراب يراود أشباح الوهم على أخيلتك، فلا تجزع. لملمْ نفسك، وغلّق على الخوف أبوابك، واستمِرّ بالعمل كي لا تخسر أجرة أيّامك السّابقة. كاد دوام يومك هذا أن ينتهي، وإن شئت لا ترجع غدا. حتما لن أرجع. إن كان لابدّ من قطيع أنحشر إلى حظيرته لأرتزق فليكن من فصيلة الوحش فذلك أدعى لأن يفترسني ذئب حقيقيّ.. اللّعنة..

أقلعْ عن الهذر الآن وانظر هناك يا مجدي أترى..؟

يا إلهي..! في المـ.. كان، نعم.. المكان نفسِه.. إيه، هناك.. كلب أسود ضخم يُقْعي على ذيله، يُدْلي لسانه حبلا لاهثا، ويخشع رأسه يمنة حينا و ميسرة متابعا الثّواني في حركاتك كأنّما انشقّ عنه صدر الطّريق.. أيكون..!؟ ماذا؟ هل.. توهّمت الكلب!.. سيّارةً وتلك التي بداخلها فوزيّة نفسها..!؟

اِسترجع سريعا ذهنه من قبضة الأخيلة ولعن الشّوقَ الخرِف تمثّل له وجهها سويّا. اِستأنف العمل في وجَف مستتر، ولا حماس يذكر. بيد أنّ ذكراها غير المنتظرة، وغير المحبّذة في آن، كانت كريح مرسلة هفّت على حواشيه اليابسة فأعشبت آثارُ أناملها عليه، وأطلقت فرسَ الحنين من عقالها فصارت تصهل في حناياه وتركل الضّلوع ثمّ لم تستكن حتى مزّقت الرّباط ورتعت به في الزّمن الماضي كمجنون يعيش حاضرا أمسه كاملا.. هنا حمقها، مكرها، فوضاها المرعبة، هدوؤها الجليديّ، عينها البكّاء، لسانها اللاّذع، قلبها المشفق، طبعها الغيور.. وهنا ضبطته يغازل صديقتها بنفس ما سمعت منه البارحة، ومدّة تلك الأيّام الثِّقال لم تصله حتى أناب، ثمّ..!؟ ثمّ فجأة لم يعد له قطاة تعشّش لأجله في موطن الهلاك وتكتفي من الحياة باللّيل الرّخيّ المخيّم على بشرته، ونبعٍ من العشق تبني على حافّته عشّها الفقير. هي لم تقسُ. لم تغدر. اِختفت فجأة. بلا مقدّمات ولا لواحق تشرح الأمر أو تعتذر، اختفت ذات هاجرة قائظة كهذه..

كان قد جاء في إثرها من أقصى الفقر الدّاخليّ إلى حيث وقرّ به التسّكّع في إحدى المدن السّاحليّة. صار وجوده في غيابها ثقيلا كساق خشبيّة، مشقّقا كعام أجدب. ربّما جاءت بدورها تبحث عن طقس رطب يخفّف من فورة الأتربة المهتاجة بداخلها، فالدّاخليّون مصابون بداء الجفاف الباطنيّ مدى الفصول، جفاف يشقّق أنامل الأحلام اليافعة، وأعقاب الأماني النّازحة، ويبرُق وشْما أغبر يسِم الوجوه. يأتون البحر وحدانا فإذا هم عنده جماعات زِحاما يرجون آلاءه فيرزقهم على الموسر في المكر قدره، وعلى المعسر في التأقلم قدره. لم يعثر عليها هنا ، لم يكف جيبه الإملاق كما تمنّى، لكنّه ارتقى بنفسه من درجة في الفشل إلى فشل أعلى، فانتقل من حفّار بالفأس في حظائر البناء العشوائيّ أو المقابر إلى قشّار بالمسحاة في حظائر البلديّة، يجرّف العوالق عن طريق سيّارة لا تؤدّي إليه، ولا يعرف أغلب راكبيها إحداثيات قريته على الخريطة الوطنيّة، بل إنّ أكثرهم ينكرون أن يكون لونه القاتم هذا وطنيّا فينسبونه للسّود في أي مكان خارجا، فيحتمل التّغريب ويواصل البحث عنها كما لو كانت تذكرته الأخيرة للرجوع إلى نفسه. فوزيّة لم تكن أجمل النّساء، كانت كلهنّ في قامة واحدة ربْع كثيب لم يبق منها إلاّ طيف يقيم في منطقة القلب المحظورة عن سواها. تجلس متربّعة هناك، تدندن بأغنية شعبيّة فيما تنسج من حلفاء الأيّام سجّادا وثيرا يسترخي عليه مزاجه الفوضويّ، أو تطحن حَبَّ الحُبّ لخبزه اليوميّ.. فإذا ذهب عن اللّيل عقله، نفضت عن فستانها الفضفاض الطّويل نثار التّعب وعمدت إلى أرضه الجافية ترفع عنها أجداثها، وتزرع في تربتها السّوداء قمرا صغيرا، وتظلّ تسقيه بمرشّ الصّبر في أناة الصّبر، وتحنو عليه حتى ينضج فيه الضّياء.. لسبب يجهله ويغيظه في آن، لم يستطع أن يطمس أمكنتها فيه، أن يقطع مجرى عينه إلى صورة وجهها في ماء عينه. كرهها وسيعرض عنها يوم يلفظها البحر إلى جسده الصخريّ. قسوة الحبّ تحوّل الدّمع مع الزّمن إلى أحجار كريمة تبرق في حوض الجفن ولكنّها لا تسيح، وإن أذابها الحنين عنوة، تساقطت دمعا لا يجرح الخدّ، ولا يربك السّكينة قي قاع القلب كما أوّل الهجر، بيد أنّه، و قبل أن يأخذ مجراه الطّبيعيّ إلى خدعة النّسيان، يلمّع الدّمع زجاج الذّاكرة المتربة فإذا نفسه كلّها قاعة انتظار رهيبة تجدّد ورودها كلّ يوم وتفتح نوافذها على جهة الغياب..

أتته تمشي هوْنا بكعب عال لا يدقّ على جسد الإسفلت المشتعل كأنّما لا تطأ إذ تطأ أرضا تتثنّى تحت أقدامها كتأوّد الغنج في الخطى، على قوام صقيل كتمثال نُحت من كوارتز الخيال لا كثافة في صورته، لا عِوج في قيامه، لا أمتاء في تفاصيله المرهفة.. والوجه نجمة الصّبح أو ما فاق حسنا زوّقته فرشاة اللّيل بخطّين أسودين وبؤرتي نور رقراق وما سوى بقايا اللّيل تلك لا شيء موصوف. حسن غائم تحت نور شفيف كالغشاوة، كالدّهشة المفرطة، تخصف عليه صاحبته من ورق الجنّة متر قماش سماويّ رخيم أو أزيد بفتنتين..!

فُجع القلب في كبريائه دفعة واحدة، لم يعد غضبان عازفا عن لقائها المشتهى. وحين خفخف نبضه نحوها ردّته أسِنّة العظم إلى سجنه خائبا. رفرفت إليه. رزح كثيب من الرّمل البليل على كتفيه، نزّ عرق لزج من جبينه، وحصَب الملح على شفتيه. أشرقت مرمى سلام حميم منه. أظلم الذّهل وعيه، وأضحى البلَه جليّا على تفاصيله المفغورة كلِّها دهشة واحدة. أزهرت زنبقة الفرح على ثغرها. خفض التوتّر ما بقي به من ألق. اِبتسمت تخفّف الوطأ عليه. تبسّم ساخرا من نفسه، محرّكا رأسه المأخوذ بحضورها يمنة فشِمالا..

– أوووووف..!غير معقول..! ها أنت.. فوزيّة.. أنت.. !

رفرفت تلقاء جسمه الرّاعش أكثر هشاشة من ورقة خجلى على قدّ الأقحوان. أرسلت أناملها تعزف ترنيمة الغواية على جسده تقيس تضاريسه، تقدّر استدارة العضلات على زنديه، على صدره، وصوتها يرذّ عليه ناعما موَقّعا في مثل حبّات الجُمان إذا انفرطت تتوهّج على سطحه القاتم تُضيئه، تنزلق على جلده الجافّ ترطّبه، وتنقر على أرضيّة النّفق السّمعي فتُنيم نقراتُها هياجَ الحيرة، وتُهيج أوتارَه الخاملة فصار يحشرج في حلقه النّفسُ المتمزّق، يصلصل في جوفه الجوع الشّرس، وينزلق على طينه المُحمّر في فرن الهجير العرقُ المسنون تخالطه أتربة الطّريق، وأدخنة السيّارات، وأراجيف الخيال..

– فوزيّة..!؟

مدّت راحتيها المترفتين كدوْح حنان تهدهدان ضفّتيْ وجهه الجافّ، أسلم لا حول، لا قوّة ، لا صبر..

– مجدي أيّها المقطع البازلتيّ الشّهيّ، كلّ حبّة عرق تبرق على جلدك ماسة نادرة يتقاتل عليها سادة الجنّ ويتزايد على امتلاكها أثرياء البشر ليزدادوا ثراء. ساعدك الصّخريّ قُرْبة الحفر المبتغاة، جسدك تميمة الكنز السّحريّة..

ضمّته في رقّة ضارية فتّتت حضوره المتكلّس فانقلب خير منقلب ينثني إلى صدرها الرّخيّ ويستخفي به من صداع الزّمن السّاكن رؤوس عظمه فتلتئم صدوعه، ويتفتّح لونه، وتنحلّ عقد الزّمن النّاتئة على حبل العمر الخشن. لان كما قبلا لم يلِنْ. اِسترخت في حضنها السندس أعضاؤه، مرَنت عظامه، تخدّرت الحركة في جوارحه لذّة فأخرى، وسرى معها حيث أسرت به حتى استفرغ طاقته كلّها وظلّ خاويا صدرُه على عروشه صفصفا كأنّما يفنى ولا يجد جهدا ليردّ عليه نفسه فينزلق مرغما حتى الأرض جثوّا على ركبتيه، ولم يدر إلاّ والكلب جُنّ..

أجل! ذلك اللّعين، وفي الوقت غير المناسب، جنّ.. هبّ شرسا أهوج متوحّشا، وانقضّ عليها يحاول أن ينهشها فلا يدركها وهي ملء مخالبه كأنّما سَدٌّ كهربائيّ خفيّ يصعقه فيرتفع ويرتمي بعيدا كحجر ثمّ لا يلبث يتدارك قواه سريعا ويعود عنيفا. يعلو مشرعا أنيابه وأسِنّة قوائمه. يحطّ. يكشّر. يصِرّ الأذى بين شدقيه الأكبر من شدقي كلب ناثرا أقباس شرّ وقود وطشيش لعاب حقود.. ثمّ كأنّ قارعة هصرت أضلعه، عوى عواء رجّعه الفضاء المروّع من فوقه، وانشقّ له قلب الظّهيرة الهاجعة. تمرّغ الكلب موجوعا برهة، ثمّ تحامل على جراحه غير المرئيّة وانسحب كسيحا زاحفا على وجه القطِران المحمّى حتى توارى في غبش السّراب..

لم يصدّق مجدي ما رأى، لم يجد متّسعا للأسئلة فكلّ ما حوله قد جنّ ، واختلف ترتيبه الأوّل..

المكان اغترب به عن المكان.. لا طريقا تسير، لا بحرا يُنعم.. فراغ حرش، باسر، حاصب، ضاجّ ولا أحد يعمره. يسمع كأنّ حربا تجلب بخَيْل ورجِل ودفيف ولا نقاعا تُثار أو أجساما تحتدم. كلاب تتنادى، تنحشر حوله، وتتناوش بالنّباح. حمير تتنافس في النّهيق، صلصلة، فحيح، همهمة، حسيس، وقع خطى ماردة تكدّر بِرك الخوف الرّواكد، وفوضى طبيعة شعثاء لطمَها مسّ فإذا أوراقها الجفيف تحشرج ولا ريح تحرّكها، جذوعها اليبيس تخشخش ولا أذرع تهزهزها، وتدمدم أحجُرها كأنّما دُكّت عن منابتها ولا داكّ لها.. بل هذا الجمع المُحضَر من حيث لا تعلم هو الذي يدكّها يا مجدي، رَ بعينك.. أترى..؟

اِشتدّ على ضعفه حتى لان عوده للقيام. ألقى بصره حديدا فانشقّ الفضاء الكثيف جسرا للبصر.. أقدام زحام دِحام هناك، وهنا من حوله، وعلى مقربة هيّنة منه كما لو الشّعب برمّة خلقه جُمِّع في بوتقة، والبوتقة بين قدميْ طفل يركلها فتتدحرج فتقع فُوَّهتها على شفة حفرة، والحفرة هارية بها كنز يحرسه جنيّ عتيّ ومن يخرج الكنز يغنى، والكلّ هنا من أجل الغنى السّهل الدّنيّ يا مجدي.. ألست تحبّ أن تثرى ولا تنصَب أو تشقى..؟

فرقعت فيه المرأة بضحك شهوانيّ كألسن اللّهب في لثم الحطب. قعقع صوتها في جوفه كجرم يتكسّر عليه فتشقّ الشّظايا لحاءه وينخر بناءه، ولمّا تلفّت يبحث عنها لم يجدها. وجد شبابا شِدادا معروقة سواعدهم مغلولة إلى مقابض فؤوس شواحذ كالمُدى المنذورة للنّحر يجدّون في الحفر، حُفرا وحُفرا وحفرا بلا عدّ، وأبكارا حسانا وشبه حسان تبرّجن كدمى بلاستيكيّة لا يعرفن أصحابهنّ، يتسابقن طوعا ومكرهات على هتك أجسادهنّ قُرُبات لساكني الحُفر.. فوزيّة أيضا هنا، أجل، تلك هي بفستانها الرّيفيّ الطّويل نفسه وقد رثّ، وبحسنِها الحقْلِ الغنيّ إذا ترِب، وبقدّها القطاة إذا حُبست.. تقف على جانب الذّل أشدّ ذِلّة، في مقدّمة الصّافنات قدودهنّ على خرائط الحفر.. وتلك الأخرى من تكون..؟ كانت جنيّة ربّما أو لعلّها عميلة سريّة لسماسرة المعزّمين، ووكلاء حظائر الحفر خفيّة الإسم..

فوزيّة ..!

نادى. لم تجبه. مدّ ذراعه نحوها. لم يدركها، ولم تشعر بوجوده مرمى التفاتة منها. غرغر الأسى بحلقه. أيقن أنّه وقع كدبّ أحمق في مصيدة العسل. وأنّها لم تهجره يوما غير أنّها غيّرت مكان اللّقاء وساعته الجائرة..

وحيدا، كان، وأشدّ وحدة كانت. تراه ولا تراه فينفطر فؤاده، ويفلّ اليأس عزمه . أعزلين كانا إلاّ من جسدها المشتهى وقوّة ساعده المبتغاة وما بقي منهما فضلة بشر لا حاجة لأحد من هؤلاء بها، وعلى جانبيهما سيّارات فارهة، حمير رذيلة، وبضع بغال متنطّعة.. بدلات بارقة، رؤوس معمّمة من فوق جُبب مطرّزة ومهترئة، قمصان ضيّقة تكشف فتحاتها عشب الصّدور، قمصان طويلة حتى الكواحل ومن تحتها هدب سراويل رماديّة ونعال جلديّة بنيّة متشابهة، وجوه شعثاء ، أقفية جرداء، عطر زاكٍ، وعرق عطين.. كلاب بوليسيّة، كلاب مدنيّة، متسلّقون كبار، متزحلقون صغار، انتهازيّون جدُد وقدامى، سُترات مستوردة، أخلاق مهترئة، سادة جبابرة، تُبّع أراذل، سحرة ومنجّمون وعرّافون وجمعهم خلطٌ ألوان وأجناس وصور وأدهى بكثير من المنقِّبين عن الكنوز الباطنيّة تداعوا يُولمون جسد الوطن للفؤوس تقطّعه حفرا إربا من أجل جرّة لؤلؤ مخفيّة، أو مقطع أثريّ.. الكلّ حافر أو مستثمر رأس ماله في الحفر، أو مهندس مقتدر في قراءة مواقع الحُفر، أو معزّم، أو جاث على ركب الرّجاء يتوسّل بطن التّراب أن يلد ذهبا أو بعض الزّمرّد.. أرض بور ومخصبة تُبقَر، حدائق عامرة ومقفرة تُنبش، حقول تُقلّب، دور ستقام عمّا عذابات قادمة وأخرى قائمة الحلم على أعمدة الأذرع الفقيرة تُصادَر لتُنْتَهك سرائر تربتها.. مرابط الدّوابّ كذلك تُحفر، وعند جذوع الشّجر الهرِم، مربّعات الجليز تُقلّع، وتدكّ جدران الكلس الفقير..

– اِحفر هنا، هيّا. أسرع.

– لا يمكن، لا.. هذا مسكن والديّ.. ! وجدّتي التي رعتني من بعدهما ثقلا لم يخفّ عنها يوما أين هي.. !؟

– لا تسل، وعجّل قبل أن يزول النّهار فيبطل العمل. خذ الفأس بقوّة واضرب.

– لن أحفر.

صهَب وجه المرأة بغتة قبالة وجهه نارا غراما أبشع من جنون المخيّلة العجوز، ونفر شعرها أشواكا حامية تطلع من جذع صار، بأسرع من لثمة الجفن للجفن، عمودا رفيعا من مارج من نار تتلوّى وتزهر حوله كنبات وحشيّ.. تأتأ مجدي ولم يفصح. كمَد تلقاءها مقطعا فحميّا خرج لتوّه من المحرقة ولم يجد له وطنا يكفل فحمه، فلا الشّتاء يقرّبه إلى مدفأة الأمن، ولا الصّيف يُخْلي سبيله إلى شاطئ الهرب.. أناخ لقوّة طاغية لا يراها. تأمّل ما بين يديه. المقبض لمسحاته، والشّفرة لفأس ضارية، والمهمّة هدم منزله الهرم والحفر مكانه بحثا عن كنز دفين تحته.. صار حلقه نفقا مظلما تخبط فيه الأنفاس عشواء فلا تكاد تبلغ منزلها، والفؤاد هواء، يصفّر فيه العُجاج حينا فتهتاج مواجعه القديمة والقادمة، وحينا تفحّ في جنباته ريح صُراد تصطكّ لها جوانحه.. أمسك الآلة وهمّ يهوي بها على الأرض فلم يقدر.

– هيّا، قلت لك. اِضرب هنا بكلّ ما أوتي ساعدك الصّخريّ من قوّة ..

– لا. لا أقــ.. در. هذا منـ.. منز.. زلي، لا أحـ ..

لفّه ذراعاها حبلان من مسَد لهيب، رفعاه إلى علٍ شاهق وأطلقاه فتاه في مسافات الهواء الرّحيبة غيمة سوداء أخطأتها الرّيح، ثمّ تردّى أسفل على الفأس هُوِيَّ عبد عتيّ مطيع لا كلل ولا ملل ولا خطيئة الأسئلة يقترف، يضرب السّطح الصّلد فتنفجر من بين يديه هُوّة هُلَكة..

بلغ مجدي من الحفرة القاع المرتجى. هلّل المعزّم. بُشّر المُحضرون بكنز يُسمن من شره ويغني أبد الدّهر. دمدم الفرح في بطاحي الأوهام الوسيعة. تنادت الأحقاد فلبّى الحاضرون أحزابا ومستقلّين، وتأهّبوا بشرا ودوابّ للنّزال من ذا الذي يسطو على الكنز كلّه أو أكثره أوّلا. أدرك مجدي أنّ الجنين الذي في بطن الأرض أكثر من ثروة عاديّة وإلاّ فما شأن الكلاب البوليسيّة بما أخفى التّراب بين حجر وماء..؟ وأيّ جرأة لأولاء النّابحين المدنيّين على منافسة الدّولة في حفرة..؟

قنط في حفرته كأنّما الحزين أدلاه بنو أبيه إلى قعر الهلاك وألقوا بإثمه على الذّئب. قرع الخطر نواقيس الجزع في قبّة الرأس، وشخصت المآذن في باحة القلب إلى ربّها ترفع صلاة الخائف. تحسّس موقفه، وقدّر أنّه سقف أملس من حجر صقيل أو رخام. الحذرَ يا مجدي، الحذرَ، فلا تدري بأيّ ذنب يأخذك الجنيّ بالسّفَل أو الإنسيّ بالأعلى فتبكَم أو تعمى أو تختبل.. رفع الخوف قلبه خرقة على سارية الهلاك، وغمّس أطرافَه في جفنة من عرق بارد لزج كأنّ الموت يأخذ بناصيته على مشهد منه وعجز رهيب. أطلّ عليه المعزّم راكعا على حاشية التّراب المكوّم، واجدا، عرِقا، متهجّدا، راعشا، مضطربا، يرتّل قرآنا، وتعاويذ ، ورُقى ملغزة.. في حركة آليّة مسيَّرة، أكبّ مجدي على موقع قدميه وجهد يقشّر عن حوافّه لحاء التّراب المتين. لحس وجه السّطح المغبرّ بساعده العاري فبان بعض بياضه الرّخاميّ . اِرتفع نسق الرُّقى أعلى رأسه. جمجمت اللّغة بطقوس غريبة مرعبة، وتشنّج جسم المعزّم كأنّما تغيّر لابسُه. غلّق الهلع كلّ أبواب الكلام فاستوت على حدّ الفرَق مراتب المتنافسين كأنّما نفَخ فيهم الصّور بالصّيحة فأُبْهتوا إلاّ قلوبهم واجفة تنبض بجنون. حلّ محلّهم خشوع طاغ، وغام عنهم المعزّم في فورة الأبخرة وهياج الشّطح والدّروشة، علا، اِنحطّ، تلوّى، تصلّب، اِصطكّ، رعش، خنخن كدابّة مختنقة، شخر كطعين، تهزهز، وبغتة خرّ يلامس خدّه جرف التّراب وينهمر وجهه عرقا مطرا وكلاما حمما.. قُرّبت امرأة إلى الحفرة، أحدهم تلّ قفاها إلى الحاشية وغاب مستعجلا. قام المعزّم، تأبّطها تحت جنح ثوبه الفضفاض، ونقرت قطرة منها أنف الشّاخص إليها من حفرته مفغور الوجه والإدراك.. تلمّس القطرة في ذهَل، دم..!؟ نعم هذا دم.. المرأة نازفة، وخيط حرير قان ينْسِل منها رفرفا على القاع الرّخاميّ المترب.. حبّ التّراب يتحنّى بماء الجسد الغضيض، وجسد الحجر ينتفض تحت قدميه، يميد من لذّة ارتشاف دم الإنسيّة المجتباة، يتخلخل بالواقف عليه، ينزاح عن بسطته كأنّما أحد يحاول رفعه..

اِرتاع مجدي. اِنثنى إلى عقله الباقي يلوذ به فألفى خيوطه اختبلت واختلفت نواميسه. صار عينا وسيعة المحجر، جاحظة، بكماء، ترى الهول يتفتّح على جوانبها ولا لغة تؤطّر معنى ما تراه. تهزّعت نفسه: بعض له، بعض عليه، وكثير منه تفرّق على الأماني علّه يلقى خيطا من الرّحمة يخيط أشلاء ذاته.. حرّك لسانه عجِلا ذهِلا رجِفا بقرآن لا يحفظ إلاّ آيات من سوَرِه القصار يردّدها مقطّعة، وبضع أدعية مرتجلة، غير متّسقة يقرأ، يقرأ.. اِنتبه.. هه؟ هل تلاحظ؟ الحركة عند قدميك خبَتْ. لابدّ غيّر الجنيّ رأيه فلن يخرج أو لعلّه طمع أن يُجزى ببكر إنسيّة أخرى.. لكنّ جلبة خفيفة تعتمل الآن أعلى قبرك المفتوح.. ماذا؟ ألن يُرفع الكنز؟ ألن أغادر الحفرة..!؟

اِحتدمت الضّجة خارجا واستعرت حرب أجيج.. نجوم تقعقع، كواكب تجمجم، كلاب مدنيّة مسعورة تواجه تلك البوليسيّة المصفّحة، أبدان نساء ورجال تتطاحن، أرواح تفرّ، أنفُس تُداس، لحوم مزقا تنتثر، والقائلة الجرداء تستحيل حقلا من شقائق حمر قانيات، وزنابق بيضا ترامت مدى الأبصار المتقاتلة، والقيح أقحوان يسيح صفرة فاقعة على خدود الحجر.. الشّعب يقتل الشّعب لأجل حفرة، يقرّب بعضه بعضا على أضرحة التّراب لأجل كنز يوجد أو لا يوجد.. الحفّارون أنفسهم ومن ترشّحن إلى مصافّ القُرُبات المشتهاة تألّبوا على رؤساء حظائر الحفر والتّنقيب وتألّبن، وهبّوا جميعا وفُرادى يمشون على حبل الجراح الشّوكيّ يمتدّ من وريد الحياة الشّاهقة إلى وريدها المقطوع عند بطن الأرض الغامض.. الكنز واحد والقراصنة كثير، ومجدي هوّة منتهبة، وقبر مفتوح على الضّياع بلا حول ولا طاقة للنّجاة إلاّ شدق الكلب الأسود طلع عليه ثانية من غيب الوقت المراوغ..

أدرك به الرّجاء زُبى اليأس. أناخ مسلما للحتف. سيكون كالذي بُترت أطرافه وألقيت في أتون النّار ليشهدها تُشوى على مرأى منه حتى فنيَ جسمه قِددا قِددا.. لكنّ الكلب تخيّر أن يبدأ وجبته على السّطح كما بدا لمجدي.. فقد جرّ الفأس حتى الحافّة ودفعها إليه فهوت عند قدميه. فهم مجدي الرّسالة المستعجلة وخيّر بدوره أن يواجه مصيره ندّا بشريّا لندّ وحشيّ. توسّل بالشّفرة والمقبض يخرجان من جُبّه، والكلب بعْد هادئ ينتظر والشّعب على جانب منهما يقتتل. اِنتهز حِلْم الحيوان المبهم، وعرّج على المرأة الملقاة مقربة منه كتلة هامدة.. رفع خدّها عن خدّ التّراب. رفّ جفنها الرّفيفَ الأخير كأنّما كان وجهه نهاية الأمنيات، وانسلّ طرف خيط ابتسامة كانت تضيئ شحوب شفتيها شفَقا سريعا ما ترصّدته سحائب سود مدلهمّات.. تهدّمت بقاياه. صرخ بها، خضّها، نفخ في فيها، تنصّت على نبضها، قرّبها منه، أبعدها. وقف، حاول إسنادها إلى قامته فتراخت وأوشك يتداعى لولا انتبهت إليه طرائق الشّعب المقتتل واتّحدت عليه.. الحفّار الأسود يهرب هلمّوا عليه، تنادوا.. اِنبرى يركض والتلفّت يهزّع شطر جذعه الأعلى، ويدمي الحصى بطانة قدميه.. يركض والكلب يجري أمامه كبرق يضيء سماء الخوف من فوقه فيهديه أعطاف النّجاة، ودون ذاته التي ترك ثلاثة أرباعها هناك حيث خلّف فوزيّة قتيلة منهوشة يركض غير منتبه حتّى لم يدر فيما تعثّر عثرة أردته على وجهه غائبا..

ساح قطر الماء البارد على جلده الحامي. اِنتفضت الحياة في دمه كطير ظمآن لثمته غيمة. خلال سِجف الضّباب المنسدل على نافذة البصر رأى الصفرة تترقرق على كلّ ما حوله، وأحسّ الهدوء ينيخ رزينا موحشا. أغمض. اِستمرأ ماء يثلج سُعاره وأنامل ناعمة تلامس وجهه. فتح عينيه في شبه عافية. كان ملقى على جانب الطّريق السّيّارة، والمسحاة ملقاة إلى جانبه، والشّمس تزورّ عن سمت السّماء إلى شاطئ العصر القريب. اِجتهد في القعود يتأمّل دهِشا، مبلبل الفهم شابّة جميلة على نحو غير مألوف، سماويّ فستانها الأكثر من خليع، تحنو على وهنه، وتسعفه من ضربة الشّمس التي شجّت وعيه فكادت ترديه، وعلى مسافة مربكة، كلب أسود ضخم يُقعي على ذيله ويتأمّله..

********

[1] – خانوم :” الإله الصّانع في الدّيانة المصريّة القديمة . خلق البشر عندما جلس إلى دولابه الفخّاريّ ” – جفري بارندر : المعتقدات الدّينيّة لدى الشّعوب – ترجمة : إمام عبد الفتاح إمام – عالم المعرفة – العدد 173. ص 402 .



* نقلا عن موقع الأوان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى