يوسف وقّاص - ترجمة الترجمة

يقول غونتر غراس في خطاب استلامه لجائزة نوبل عام 1999: كان واجبنا يُحتّم علينا استخدام كل براعتنا لإنقاذ اللغة الألمانية وانتزاعها من الشعر الرعوي والانطواء المشوش على الذات. كانت الريبة والشك بوصلتنا الثابتة، وكل تدرجات اللون الرمادي هدية موهوبة لنا. وكانت تلك هي الرياضة الروحية التي فرضتها على نفسي قبل أن أكتشف ثراء لغة اعتبرتها مذنبة بشكل شامل: لطفها الفاتن وميلها الرصين إلى الأعماق وصلابتها فائقة المرونة، إضافة إلى لهجاتها المستساغة وبساطتها وغموضها وغرابتها ورونق جملها الشرطية. وتضيف توني موريسون – نوبل 1993: تكمن حيوية اللغة في قدرتها على تصوير الحيوات الراهنة والمتخيلة والممكنة لمتكلّميها وقرّائها وكتّابها. نحن نموت، ولعل ذلك مغزى الحياة، لكننا ننتج اللغة، ولعل ذلك مقياس حيواتنا.
في المقولة الأولى نجد أن البوصلة، في دفاع الكاتب عن لغته، كانت الريبة والشك قبل أن يكتشف لغة كان يعتبرها مذنبة، ربما لأنها كانت لا تفي باحتياجاته، أو تضع العقبات أمام إبداعه. بينما في المقولة الثانية، تتحول اللغة إلى مقياس لحيواتنا، المكان الذي نلجأ إليه لنبوح بأسرارنا، رغم أنها سرعان ما تجد طريقها إلى العلن، ونترجم، وفق ما هو متاح لنا، أفكارنا وتخيلاتنا والواقع المحيط بنا. واللغة هي لغات، تطورت مع الزمن، وفي فترات متلاحقة، تقاطعت مع لغات أخرى لتنتج لغات جديدة، حيث، في كثير من الأحيان، لا تملك سوى بعض الملامح الباهتة من جذورها. فأين نحن من لغة الغال أمام اللغة الفرنسية الحديثة، أو لغة شعب الفاندال من اللغة الإسبانية الحالية، بعد أن أصبحت اللاتينية تشكل نسبة كبيرة، بل طاغية، من مفرداتها وقواعدها النحوية؟ والتقاطع المعني كان يرتكز في كثير من الأحيان على الترجمة الفورية، أو ابتداع ما كان ينقص اللغة أو تلقفها مباشرة من فم القادم الجديد، محارباً كان، أم تاجراً أو حتى مجرد عابر سبيل. وهذا الأمر ينطبق على معظم اللغات، بلا استثناء. ولعله من المفيد الإشارة إلى دراسة حديثة حول لغة الغجر التي تطورت أثناء ترحالهم الطويل من شبه القارة الهندية إلى القارة الأوروبية، حيث كانوا يستلفون من الشعوب التي كانوا يصادفونها في طريقهم، ما كان ينقصهم من مفردات ومصطلحات. ولقد تمكن الدارسون، بفضل هذه المفردات بالضبط، من تحديد المسار الذي سلكوه عبر مئات السنين، والتي تشمل عشرات اللغات، منها الفارسية، الأرمينية، التركية، اليونانية، السلافية ولهجات محلية منقرضة أو لا تزال قيد الاستعمال. والملفت للنظر في هذه الاستعارات، أنها لم تكن عشوائية، إنما اختيرت بعناية لكي تتناسب مع لغتهم، وهو أمر طبيعي ولا يمكن الشذوذ عنه، وإلا ستصاب اللغة بتشوهات لا يستسيغها اللسان ولا العقل.
نتائج ضحلة

ولقد سقت هذه المقدمة البسيطة للتطرق إلى ما آلت إليه الترجمة في وقتنا الحالي، كمّاً ونوعاً، في عصر ما زلنا نقتات من فتاته ونستلهم مما تتيحه من معرفة جامعة. معرفة، كما في المنطلق، تؤول بلا مناص، إلى فوضى عارمة، إن لم نستطع تداركها في الوقت المناسب، ونضع أسساً ملائمة لها، لكي نضمن الحدّ الأدنى من التقدير للجهد الذي يبذله مئات المترجمين في كل البلدان العربية، ونمهد لاستراتيجية بعيدة المدى غايتها الأبرز نقل المعرفة بمنهجية تواكب التفاعلات الثقافية الجارية بين كل شعوب العالم، وإلّا، فإن النتيجة، مهما كانت، ستبقى ضحلة، كما هي الآن، ولن تؤتي ثمارها.
وبهذا الصدد، أعتقد أننا، قبل كل شيء، بحاجة ماسة إلى تضافر جهود مؤسسات رسمية وخبرات أكاديمية وفردية، لكي نتلافى جزءاً كبيراً من العقبات التي تصادف المترجمين في عملهم، وأولها، وربما أهمها، عدم وجود مرجع موحّد للمصطلحات أو الكلمات التي أفرزتها الثورة الرقمية على الأصعدة كافة، وبشكل خاص المصطلحات العلمية والأدبية لما لهما من تأثير ودور رائد في السياق العام للمعرفة. والأمثلة التي سأسوقها هنا، وهي لا تتعدى مقتطفات من ترجمات متداولة في الصحف والكتب، تكشف حاجتنا إلى مرجع يوفر على المترجم عناء البحث، وعلى القارئ إحساس “النفور” من مصطلحات لا يفهم مغزاها ولا يعرف مصدرها أو نطقها الصحيح عندما يقرأها كما هي مدوّنة بالأحرف العربية. إذ كيف يمكن لقارئ ذي ثقافة متوسطة أن يعرف، مثلاً، معنى كلمة “الإستيطيقي” (Estetica – Aesthetics)، أي الجمالية، أو مجموعة من المبادئ المتعلقة بطبيعة وتقدير الجمال، وخاصة في الفن، أو “الإبستيمي” (Epistemic) أي المعرفي، أو من المعرفة أو ما يتعلق بها أو مستوى مصداقيتها؟ ونفس الشيء ينطبق على كلمة “مديوكرية” (من اللاتينية Mediocris)، التي صادفتني أثناء قراءتي مقالة لأحد الكتّاب. وأول سؤال خطر في بالي: ألم يكن بوسع الكاتب، مثلاً، أن يُتبِعَ الكلمة بشرح بسيط لمعناها، مثل “اعتيادي”، “متوسط”، “مقارب”، أو “شخص ذو ثقافة متوسطة أو متدنية” لكي يتمكن القارئ من استيعاب ما يعنيه بهذه الكلمة في سياق الجملة؟ بينما في مكان آخر، نقرأ أيضاً: “إيراكالوم، مدينةٌ أرستقراطية صغيرة لنبلاءٍ رومان، طمّها ماجما بركان جبال فيزوف المجاورة”. الكاتب يقصد هنا كلمة Magma، وكان يمكنه أن يستعمل عوضاً عنها “رواسب بركانية”، التي يمكنها أن تعبّر بوضوح عمّا يعنيه.
إلا أنني، في هذا الإطار، أود أن أتوقف بشكل خاص عند كلمتين وجدت أنهما تترددان بكثرة في ترجمات بعض الكتّاب وهما: “البويطيقا” و”إيطيقا”، اللتين سيشكل عبء فهمهما، دون شرح أو تعقيب، حاجزاً أمام معظم القراء، وبالتالي لا يبقى أمامهم سوى تجاوزهما من دون استيعابهما، أو إهمال المقال برمّته، وخاصة إذا عرفنا أن قراءنا الحاليين لا يملكون ذلك الحافز الذي يمكن أن يدفعهم إلى البحث والاستقصاء. فلو حدث أمر كذلك، فسنعتبر أنفسنا محظوظين حتماً.
بين أكثر من لغة

وللإسهاب ليس إلا، مصطلح Ethics (بالإنكليزية) أو Etica (بالإيطالية، وبقية اللغات ذات الأصول اللاتينية)، ينحدر من اليونانية (Ethos)، ويعني “خاصّية”، “سجيّة”، “سِمَة”، “شميلة”، “صِبْغة”، “شخصيّة”، أي منظومة الأخلاقيات، آداب مهنة ما، علم القيم والأعمال التي توصف بالحُسْن والقُبْح. وهو فرع من الفلسفة مختص بالأسس العقلانية التي تسمح بإضفاء ترتيب أو مرتبة إلزامية (الأخلاق الواجبة Deontological Ethics) على السلوك الإنساني، أو بالأحرى تمييزهم كأشخاص طيبين، مستقيمين، قويمين، في تضاد مع سمات غير قويمة، سيئة أو محرّمة، استناداً إلى نموذج مثالي انسجامي أو سلوكي، أو كما عرّفه أرسطو: “الأخلاق هو ذلك الفرع الفلسفي الذي يعنى بسلوك البشر والمعايير التي تُقيّم من خلالها السلوكيات والاختيارات”. وبتعريف آخر: علم الأخلاق Ethics، في اللغة الفلسفية، هو مبدأ أو عقيدة أو استبصار، تأمل وتفكّر تقديري حول السلوك العملي للإنسان، فوق كل شيء عندما يريد الإشارة إلى ما هو الخير الحقيقي وما هي السبل لبلوغه، ما هي الالتزامات الأخلاقية تجاه نفسه وتجاه الآخرين، وما هي المعايير التي يجب تبنيها لتقييم فضيلة وأخلاقية الأعمال الإنسانية. بالتالي علم الأخلاق، هو مجموعة من الأحكام والقيم التي تنظم سلوك الإنسان فيما يتعلق بالآخرين، وفي نفس الوقت معيار يسمح للإنسان أن يُقيّم سلوكياته وسلوكيات الغير، استنادا إلى الخير وإلى الشر. يجدر الذكر أن مصطلحي “Ethics أخْلاقِيّ، أدَبِيّ، خُلُقِيّ، مَعْنَوِيّ، مَنَاقِبِيّ” و”Moral اعْتِبارِيّ، أخْلاقِيّ، أدَبِيّ، خُلُقِيّ، فَضِيلَة، مَعْنَوِيّ، مَنَاقِبِيّ” يستخدمان كمرادفين في اللغة الإيطالية، و في معظم اللغات الأوروبية المشتقة من اللغة اللاتينية أو التي تنهل منها، و يُعتبر هذا الاستخدام، حسب معجم “تريكّاني Treccani”، استخداماً مشروعاً في كثير من الحالات، ولكن يجب التنويه أنه يوجد ثمّة اختلاف: فمصطلح “Moral” يتوافق مع مجموعة من الأحكام والقيم لشخص أو مجموعة ما، بينما “Ethics”، بالإضافة إلى هذا القاسم المشترك، يضم أيضاً التأمل التقديري لهذه الأحكام والقيم. إذا كان “Moral” يعتبر هذه الأحكام والقيم حقيقة مفروغاً منها، يتشاركها الجميع، ﻔ “Ethics” يحاول أن يمنحها تفسيراً عقلانياً ومنطقياً.

وEthics يمكن أن يكون “معيارياً” و”اجتماعياً” في نفس الوقت:

“معيارياً”، لأنه يدفع الأفراد للعمل على تجربة مشاعر إيجابية أو سلبية وفقاً للأحكام.

“اجتماعياً”، لأنه يضع حدوداً أمام رغبات الفرد لتحقيق هدف أكبر: لأن التنسيق الاجتماعي عامل ضروري لكي يسمح للغالبية الحفاظ على حالة من الرفاهية وإمكانية تحقيق الذات.
أما اﻠ “بويطيقا Poetica”، فهي، حسب المعجم الفلسفي لجميل صليبا (الجزء الأول – 1982) من الآثار المنسوبة إلى أرسطوطاليس، وتعتبر عند العرب من مجموعة الكتب المنطقية المعروفة باﻠ”أورغانون”، حيث نقلها إلى العربية أبو بشر متّى ضمن حركة الترجمة في العصر العباسي الأول، ولها عدة ترجمات حديثة، واحدة لإحسان عباس وأخرى لعبد الرحمن بدوي.
و”الشاعرية”، أو “Poetica”، حسب منظور الثقافات الغربية، هو مفهوم ذو طبيعة جمالية: في إشارة إلى جميع وسائط التعبير الفني (ليس الشعر فقط، إنما يشمل الرسم أيضاً، النحت، الفن السينمائي، الأدب بالمعنى الأوسع، إلخ). ويتمّ التكلّم عن الشاعرية ضمن مجموعة منظمة من النوايا التعبيرية – النصية، عندما يقوم فنان ما (بغض النظر عن المجال الذي يعمل فيه) التعبير عنه في أعماله، أو عندما يطرحه تيار أدبي ما في البيئة الثقافية ذات الصلة. إذن، الأمر يتعلق بمفهوم نبيل اصطلاحاً، ولكنه في ذات الوقت، يكون الحديث عنه ذا مغزى فقط عندما تكون درجة اشتغاله – ضمن انتاج فنان معين، أو حركة أدبية معينة –مستقراً بما فيه الكفاية.
تجاهل المرادف العربي

يخمّن المؤرخون أن أرسطوطاليس ألّف كتاب “فن الشعر Poetica”، ما بين 330 و334 قبل الميلاد، وهو النموذج الأول، في الحضارة الغربية، لتحليل الفن بشكل مجرّد، بعيداً عن الفضيلة والمناقب وعلم الأخلاق. وفي هذا الكتاب، يخصّ أرسطوطاليس دراسة التراجيديا والملحمة. ووجود كتاب آخر عن الكوميديا كان قد افترضه الشاعر تيموثيوس الميليتي (357 – 446 قبل الميلاد)، ولكن غالبية النقاد الحاليين يدحضون هذه الفرضية.

وقد أدخل أرسطوطاليس فكرتين أساسيتين في مفهوم القضية الفنية:

– المحاكاة Mimèsi، وهي كلمة تنحدر من اليونانية وتعني بشكل عام “تقليد”، “إعادة إنتاج”، مع المشتق Mimeomai (عرض، تقديم) وMimos – Mimo (تمثيل) الذي اكتسب المعنى الخاص ﻠﻠ “عرض المسرحي”.

– التطهير Catarsi، من اليونانية Katharsis، وهو مصطلح استخدم للإشارة إلى احتفالية الطهارة التي تتواجد في مفاهيم دينية مختلفة وفي طقوس سحرية حيث يتمّ أثناءها القيام بتضحية ما اعتدنا على تسميته مجازاً “كبش الفداء”.
وكبش الفداء، أو الضحية، كان يستخدم في القدم أثناء الطقوس التي كان العبرانيون يطلبون فيها الصفح عن خطاياهم. والاسم – حسب مصادر المعاجم الإيطالية – ينحدر من الطقس العبري في يوم التكفير عن الذنوب (يوم كيبور)، عندما يقوم الكاهن الأعلى بتحميل كل الذنوب التي ارتكبها شعبه على كاهل كبش ويبعث به إلى الصحراء. والجانب الرمزي لكبش الفداء، هو عندما يتم اختيار فرد، أو مجموعة، أو شعب بحاله (كما في حال الشعب الفلسطيني) لتحميله وزراً، جزئياً أو كاملاً، لذنب لم يقترفه. وهذا الإجراء غالباً ما يخفي وراءه مآرب سياسية واجتماعية تُبرّر لاحقاً بوسائل متعدّدة، من بينها تأويلات وترجمات تحاول أن تجعل منه أمراً واقعاً. والحال، نخشى أن تتحول هذه المصطلحات، على كثرة استخدامها في سياق بعيد تماماً عن أية مقاربة مع لغتنا وخصائصها المميزة، إلى أمر واقع ينفر منه القارئ ولا يفي بالغرض مهما تعدّدت الأساليب، كاختيار كلمة “حاضون” كمرادف ﻠ “لابتوب” حسب اجتهاد أحد المجمّعات اللغوية العربية، رغم أن استعمال كلمة “محمول” أصبح شائعاً منذ فترة طويلة، ولكن يبدو أن أعضاء المجمع اللغوي المذكور لا دراية لهم عمّا يجري في الواقع. أو ترجمة كلمة عَرَقْ (أو تعرّق) Race بدلاً من Sweat، اعتماداً على الترجمة الآلية لغوغل، كما حدث مع الإصدار الجديد للكتب المدرسية في سورية الذي يبدو أن من أشرف على تأليفها، كان يميل إلى الإبداع والإمتاع! أكثر ممّا يميل إلى الترجمة “الجدّية”، و يا ليته في هذا الصدد، لو اطلع، قبل أن يخطو خطوته المتهورة هذه، على ما أبدعه الروّاد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، عندما اشتقوا وصكوا كلمات ومفردات جديدة فرضتها الثورة الصناعية في القرن السابع عشر من الأفعال مثل مدفع من فعل “دفع”، دبابة من فعل “دبّ”، طائرة من فعل “طار” إلخ.

أخيراً، لا بد من التوقف عند ترجمة بعض الكلمات بطريقة تدعو إلى الاستغراب حقاً. فرغم وجود مرادفات لها في اللغة العربية، إلا أن المترجم، لسبب نجهله، ارتأى أن ينقلها كما تلفظ في اللغة الأصلية، دون أي شرح يمكن أن يسعف القارئ في فهمها، كما في الجملة التالية:

“حينئذ انتبه أن السارينة التي سمعها من بعيد منذ برهة ولم يعرها انتباهًا، كانت سارينة نفس عربة الإطفاء الواقفة الآن أمام بيته”.

ألم يكن من الأفضل لو أن الكاتب استخدم عبارة “صفارة عربة الإطفاء”، بدلاً من سارينة، المُحرّفة عن الإيطالية Sirena مثلاً؟ أو القول:” لكن ضمن انتظام أوبرالي يمنح الكلام معناه في صعود وهبوط فونيتيكي واضح …”، بدلاً من: “… في صعود وهبوط واضح في وتيرة الأصوات”. وللإيضاح، Fonetico، صفة مشتقة من اليونانية ϕωνητικός من ϕωνή (صوت، نغمة)، وتتعلق بالصوتيات بشكل عام، أو ظاهرة الأصوات وأنظمتها: أي الدراسات الصوتية، الأبحاث الصوتية، الطابع الصوتي، البنية الصوتية. ويُعنى بالأبجدية الصوتية مجموعة الرموز المستخدمة في التمثيل البياني لأصوات لغة ما. وتكمن أهميتها في ربط كل علامة بيانية واحدة لكل صوت. لا تعتمد الأبجدية الصوتية على نظم الاملاء المستخدمة في اللغات: لهذا السبب هو الشكل الوحيد للكتابة التي لا يشكل غموضاً أو تكرارا.
أنا أستهلك..

والجملة الأخرى التي أريد أن أتوقف عندها أيضاً هي: “أنا أستهلك إذن أنا موجود” في تدمير سلبي لكوجيطو أبي الفلسفة الحديثة: المبدأ الذي يثبت وجود الكائن من واقع تفكيره أو وعيه”. طبعاً، ما يقصده الكاتب هو جملة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر، إذن أنا موجود (بعضهم يصرّ على أن ترجمتها الصحيحة باللغة العربية، هي “أنا أشك، إذن أنا موجود، مع أن مجمل المعاجم الإيطالية تترجم الجملة الأصلية باللغة اللاتينية، أي: Cogito، ergo sum، إلى: Penso dunque sono، وهي تعني حرفياً: أنا أفكّر …)، وبالتالي ما معنى كلمة “كوجيطو” في سياق هذه الجملة؟ ألم يكن من الأفضل لو أن الكاتب صاغ الجملة على الشكل التالي: … في تدمير سلبي لفكرة أو مقولة أبي الفلسفة الحديثة …، بدلاً من هذا الغموض الذي، بالنتيجة، لا يفي، دلالياً، ما يروم إليه الكاتب ولا ما يبتغيه المتلقي من وضوح في البيان؟

والقصيدة التالية أيضاً، ليست أقل إبهاماً من الجملة السابقة:

يا هاربو! متى كانت المرة الأخيرة التي بدوتَ

فيها كملاك؟

وعزفتَ على الهارْب الذهبي الكئيب؟

أكان نذْرُ صمتكَ (هارْبَاً) هندياً؟

آنذاك، رأيت سيدة حبي المغرورة

تفكر على عتبة مغطاة بالنيلوفر

بسماء ماطرة

فلو حاولنا أن نترجم الكلمات التي بقيت كما هي (Harp مثلاً، التي تعني قيثار)، فسنجد أنفسنا أمام قصيدة جديدة تقريباً، وفوق كل شيء مفهومة وسهلة القراءة:

يا هاربو! متى كانت المرة الأخيرة التي بدوتَ

فيها كملاك؟

وعزفتَ على القيثار الذهبي الكئيب؟

أكان نذْرُ صمتكَ (قيثاراً) هندياً؟

آنذاك، رأيت سيدة حبي المغرورة

تفكر على عتبة مغطاة بزنابق الماء

بسماء ماطرة.

على فكرة، القيثار آلة موسيقية قديمة جداً، وأول من استخدمها السومريون في الألف الثالث قبل الميلاد. وHarp كلمة مشتقة من اللاتينية Harpa، وهي مشتقة بدورها من اللغة الجرمانية القديمة. والقصيدة الآنفة الذكر من تأليف الكاتب والشاعر الأميركي جاك كيرواك ومهداة إلى هاربو ماركس (كوميدي وموسيقي أميركي 1888-1964).
لا أدري أين تكمن العلّة، أفي قلة الموارد أم النأي عن البحث؟ ولكنني أعتقد أنه لا يوجد أي تبرير لاستخدام مفردات مُبهمة، والاكتفاء بترجمات سطحية أو كتابة المصطلحات الأجنبية بأحرف عربية من دون أي شرح أو تعقيب لإيصال الفكرة بوضوح وشفافية إلى القارئ.



* عن موقع الاوان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى