عبد القادر وساط - جولة في سيارة فخمة مع سي أحمد بوزفور

كانت السيارة تتقدم ببطء عبر كورنيش الدار البيضاء، تحت المطر المنهمر ...
كنتُ أتولى السياقة، بينما يجلس سي أحمد بوزفور عن يميني، وقد أرخى بيريته على عينيه وألقى برأسه إلى الخلف، مستمتعا بصوت المطر وهو يسقط على زجاج السيارة، وكذلك بالصوت الناعم، الذي يصدر عن ماسحتي الزجاج، في حركتهما الدؤوبة...
قلت لسي أحمد:
- أنت تعرف أنني لا أملك رخصة سياقة... فماالذي سأفعله يا تُرى، إذا أوقفنا أحد رجال الشرطة؟
- لا تخش شيئا يا صديقي، قال سي أحمد و هو يبتسم... فالسياقة دون رخصة أمرٌ جائز في الأحلام...
أجبته قائلا:
- هذا صحيح، لقد نسيتُ أننا في حُلم....
قال سي أحمد:
- انظر... ما أجمل هذا المطر في الحلم! إنه مطر دون رعد أو برق... القدماء يسمونه الدِّيمَة... وقد جاءت هذه اللفظة في شعر طرفة بن العبد حين قال:
( فَسَقى ديارَكِ غَيْرَ مُفْسِدِها = صَوْبُ الربيع وديمَةٌ تَهْمي)
كنا قد بلغنا شارع الرُّجَّاز فسألت سي أحمد عن السر في تسميته كذلك ، فقال :
- لقد أطلقَ عليه هذا الاسم لأن الرُّجَّاز يأتون إليه بانتظام، حين يَضيقون بعالمهم السفلي... إنهم يأتون من ( هناك) إلى هنا ويقضون أوقاتا طيبة في رواية الأخبار وإنشاد الأشعار...
كان جهاز الراديو المثبت في السيارة يُذيع أغنية شجية، بصوت أحد المغنين الإنجليز... كانت تلك الأغنية تتحدث عن شجرة عتيقة في شارع من شوارع مدينة نيويورك... وعن فتاة كانت تختبئ تحتها في الأيام الممطرة... ولكن الفتاة اختفت ذات يوم ولم يظهر لها أثر، والشجرة تريد أن تسأل عنها العابرين...
ولما انتهت الأغنية، أدرتُ زر المذياع وشرعت أبحث عن شيء يثير الاهتمام في باقي المحطات... وكانت مفاجأة عجيبة حقا، حين ( وقعتُ) على برنامج أدبي أسبوعي باللغة العربية، يقدم حوارا مباشرا مع عنترة بن شداد... كان أحمد بوزفور من بين المشاركين في هذا البرنامج الإذاعي المباشر، حسب ما أعلنته المذيعة...
قلت لسي أحمد:
- كيف؟ هذا أمر مستحيل... أنت توجد بجانبي الآن... فكيف توجد في الوقت نفسه في محطة إذاعية بعيدة؟
قال سي أحمد بابتسامته المعتادة:
- هذا أمر ممكن في الحلم يا صديقي...
فتذكرتُ عندئذ أن كل شيء ممكن في الأحلام...
كان صوت عنترة متميزا فعلا ، عبر الأثير، وهو يقدم نفسه للمستمعين... بعد ذلك أعطيت الكلمة لسي أحمد بوزفور، الذي بينَ أن كلمة عنترة تعني الذبابة الزرقاء، قبل أن يقدم تعريفا بالشاعر وشعره... إثر ذلك اتصل مستمع يُدعى عبدالسميع بنصابر وسأل عنترة عن معنى قوله في المعلقة:
( و لقد شربتُ من المُدامة بَعْدما = رَكَدَ الهواجرُ بالمَشُوف المُعْلَمِ)
فطلب الشاعر من سي أحمد بوزفور أن يتولى شرح البيت ...كان سي أحمد بوزفور جالسا، فيما يبدو، بين الشاعر والمذيعة، في مقر الإذاعة، ولكنه كان في الوقت نفسه جالسا عن يميني في تلك السيارة الفخمة، التي نتجول على متنها، في البيضاء، في هذا الحلم الممطر... وكنا ننصت معا داخل السيارة لصوت صاحب ( ديوان السندباد) وهو يشرح ذلك البيت العجيب من معلقة عنترة بن شداد:
- المُدامة هي الخمر، سُميت كذلك لأنها أديمت في الدن ، أي طال بقاؤها فيه... والشاعر يقول في هذا البيت: شربْتُ من الخمر بعد رُكود الهواجر، أي حين ركدت الشمس ووقفَتْ، وهذه الخمر دفعْتُ ثمنَها بالمَشُوف أي بالدينار المَجْلُوّ، والمُعْلَم، أي الذي فيه كتابة...
إثر ذلك، اتصل مستمع آخر، يسمى عبدالقادر وساط... وقد نظر إلي سي أحمد عند سماع هذا الاسم وابتسم ابتسامة ذات معنى، كأنما يقول لي: " ألم تصدق بَعْد أن كل شيء ممكن في الحلم؟"... كان سؤال المستمع عبدالقادر وساط ينصب على معنى البيت التالي من المعلقة:
( و لقَدْ خشيتُ بأنْ أمُوتَ و لمْ تَدُرْ = للحَرْب دائرةٌ على ابْنَيْ ضَمْضَم)
وهنا تدخل عنترة بنفسه لشرح البيت: ( ضَمْضَم رجلٌ قتَلْتُه شخصيا... وكان له ابنان، أحدهما يُدعى هرم والثاني يُدعى حُصَين، لا يكفان عن تهديدي بالقتل.. وأنا كنتُ خائفا أن أموت قبل أن أظفر بهما... هذا هو معنى البيت... ولما سكت عنترة، أضاف سي أحمد قائلا: " وحُصين بن ضمضم هذا، ذكره زهير بن أبي سُلْمى هو الآخر في معلقته، حين قال:
(لَعَمْري لَنعْمَ الحَيُّ جَرَّ عليهمُ = بما لا يواتيهمْ حُصَينُ بنُ ضَمْضَم)...
لم يكن المطر قد كف بَعد عن الهطول. والشوارع كانت شبه مقفرة، الأمر الذي جعلنا نقرر العودة إلى الفندق، عبر شارع الرجاز... وفي طريق العودة، تراءى لنا شخص من بعيد... كان وحيدا ومبللا بالمطر، وكانت أضواء السيارة المنعكسة على معطفه تضفي عليه مظهرا شاعريا بحق، وهو يشير لنا بيده كي نتوقف ونحمله معنا. قال لي سي أحمد: " ليس هناك أشرار يمارسون الأوتوستوب في الأحلام، فلنتوقف كي نحمل معنا هذا الشخص دون خوف..."
ولما توقفت السيارة الفخمة بالقرب منه، اندفع بسرعة وفتح الباب وألقى بنفسه على المقعد الخلفي... وقبل أن يسلم قال: " شكرا لكما... أنا صحافي من جريدة ( الحلم الأبدي)... مال عليّ سي أحمد وقال لي هامسا: " لا عليك... إنه أخونا محمد علي الرباوي، جاءنا متنكرا كعادته..."
في تلك اللحظة ، مررنا بالرجّاز وهم في مكانهم المألوف... كان أحدهم- ولعله رؤبة- ينشد أرجوزة جميلة بصوت شجي...
ولما ابتعدت عنهم السيارة، التفتُّ لصديقنا المتنكر وقلت له:
- متى يعودون إلى عالمهم البعيد؟
أجابني قائلا:
- إن موعدهم الصبح...
وسكت قليلا قبل أن يضيف:
- أليس الصبح بقريب؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى