علي البهلول - في العنوان والعنونة.. قراءة سيميائيّة للمصطلح

مثلت السيميولوجيا من أهم المباحث التي ميزت علم اللسانيات وعلم الدلالة وحتى العلوم الفلسفية والتأويلية والتحليلية منها فهذا المفهوم السيميوطيقي منقول عن الأصل اليوناني Semeion بمعني الإشارة أو العلامة، ولذلك فقد ترجم المصطلح إلى العربية أحيانا بعلم الإشارة وأحيانا أخري بعلم العلامات، وعلى هذا فهو يهتم بكل الإشارات الدالة “مهما كان نوعها وأصلها ” من طقوس ورموز وعادات وإشارات حربية وكتابة ولغة[1].

ولقد انصبَّ اهتمام هذا المفهوم أوعلم السيمياء بالعناوين والعنونة ( titrologie ) باعتباره منهجا نصّيا مشتغلا على المفاتيح الأساسية للنصوص، والعنوان واحد من أهم المفاتيح التي تخضع للتحليل والمساءلة[2].

فالعنوانين والنظر اليها لم تكن وليدة اللحظة بل كانت من الإشكاليات التي حاول عدد كبير من الباحثين والمختصين في اللغة والتحليل والتأويل والتفكيك الاشتغال عليها فسيمياء العناوين كانت ولاتزال مصبّ اهتمام النقاد والدارسين وليس الأمر جديدا بالمرَّة، فقد استوقفت الأقدمين في الشعر العربي خصوصا، ورافقت جميع مراحل تطوّره إلى أن ظهر علم العلامات والسيمولوجيا حيث أفاضت الدراسات في العناوين وظهر مصطلح العتبة (seuil) حيث تعددت المفاهيم وتعابرت وارتكز فكر النقاد وأبحاثهم على تقصّي حيثيات العناوين بوصفها مفاتيح إجرائية غير قابلة للتجاوز في منظور النَّص المقروء وكأننا هنا سنكون ازاء الفلسفة المعاصرة ونقصد داريدا الذي عمل على مفهوم الكشف والتفكيك عبر نحته لمفهوم «Déconstruction» الذي يصفه بكل مناسبة بمعنى، ذلك أن تعريف التفكيك هو نفي لوظيفته، فلكل ممارسة يقوم بها المفهوم خطها الذي يكيف المعنى والوظيفة والغرض[3]، غير أنه أتاح للناقد أن يدخل من الشبابيك إذا أوصدت الأبواب.

إنّ مرادف العنوان كمصطلح لغوي جاء في لسان العرب عن ابن سيده قوله: “العنوان والعِنوان سمة الكتاب، وعنونه عنونة َ وعنَّاه إذا وسمه بعنوان وقال أيضا: العنوان سمة الكتاب، وقد عنَّاه وأعناه، وعنونت الكتاب.. قال يعقوب: وسمعت من يقول: أطنْ وأعنْ أي عنونْه وختمه، قال ابن سيده: وفي جبهته عنوان من كثرة السجود أيْ أثر”[4].

كما جاء في نفس الأثر في تفسير العنوان:” وعننت الكتاب وأعننته لكذا أي عرضته له وصرفته إليه. وعنّ الكتابَ يَعُنُّه عنّا وعنّنته: كعنونه، وعنونته وعلونته بمعنى واحد، مشتق من المعنى. وقال اللحياني: عننت الكتاب تعنينا وعنّيته تَعْنِيَةً إذا عنونته، أبدلوا من إحدى النونات ياء، وسمي عنوانا لأنه يَعُنُّ الكتاب من ناحيتيه، وأصله عًنّان، فلما كثرت النونات قلبت إحداها واوا، ومن قال عُلوان الكتاب جعل النون لاما لأنه أخف واظهر من النون. وروى المنذري عن أبي الهيثم أنه قال: العنوان واللحن واحد، وهو العلامة تشير بها إلى الإنسان ليفطن بها إلى غيره ، تقول : لحن لي فلان بلحن ففطنت; وأنشد:

وتعرف في عنوانها بعض لحنها

وفي جوفها صمعاء تحكي الدواهيا[5]

وبالتالي فهذا العنوان الذي يمثل جزء من النص او أنه النص بعينه يمكن أن يكون على شاكلة مفردة أو عدة مفردات فمثلا يمكن ان يكون العنوان متكون من كلمة واحدة ويمكن أن يكون بمثابة الجملة الطويلة فهو أول لقاء بالقارئ والنص.. حيث صار هو آخر أعمال الكاتب، وأول أعمال القارئ. [6]

فلا يمكن إذن الحديث عن نص مهما كان جنسه وصنفه دون الحديث عن العنوان حيث سنكون ازاء ثنائي مفهومي (العنوان-النص)، فالعنوان هو وجه النص مصغّرا على صفحة الغلاف لذا كان دائما “يعد نظاما سيميائيا ذا أبعاد دلالية و أخرى رمزية تغري الباحث بتتبع دلالاته و محاولة فك شفراته الرامزة[7]” بغية استجلاء المفاهيم النصية المتراكمة داخل الحيّز النصي.
فالعنوان إذن هو أولى عتبات القارئ التي يقيس دلالاتها على جميع مضامين النص،” فهو مفتاح الدلالة الكلية التي يستخدمها القارئ الناقد مصباحا يضيء به المناطق المعتمة في النص و التي يستعصى فهمها إلا من خلال العودة إلى العنوان[8]، أو لنقل أنه المفتاح الإجرائي الذي يمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النَّص وتسهيل مأمورية الدُّخول في أغواره وتشعباته الوعرة[9].

من خلال ما تقدم من تعاريف للعنوان وللعنونة فان الغاية منها هو الارتقاء بالعنوان وجعله السمة الأساسية لكل نص ولكل كتاب ولكل مقال وغيره من الأجناس الإبداعية الأخرى ليكون بذلك العنوان رديفا للغة من حيث هي نظام سيميو طيقي مكثف لنظام العمل، حتى ليصل إلى حد التشاكل الدلالي، و حتى أن بناء النص يظل معلقا على اكتشاف آليات هذا التشاكل فيصبح العنوان مع صغر حجمه وصيا على النص بعدما رفعت وصاية النص على العنوان[10].

فغير بعيد عن هذا ما قرّره معجميو اللغات ذات الأصل اللاتيني في هذا الباب من لغاتهم فلفظة ” Titre” بالفرنسية أو’’Title’’ بالإنجليزية أوبالإيطالية أوبالإسبانية تنحدر كلها من اللفظة اللاتينية ’’ Titulus’’ وهـي تعني اللافتة تعلق علـى الدكان والملصقة توضع على القارورة تبين محتواها، كما تعنـي المعلقة في عنق العبد أُعدّ للبيع، وقائمة مناقب الأسلاف[11]

نستخلص من خلال ما تقدم وبلغة الفيلسوف والكاتب الايطالي “أمبرتوإيكو” بأن العنوان قاعدة عليها أن ترن دائما وتخلخل الأفكار لدى المتلقي، حسب معرفته وثقافته، حيث يتباين أفق التوقع من إنسان لآخر. وتبقى دلالة العنوان غائبة، مراوغة، عصية على القبض، تحتمل تأويلات عدة، فالعنوان والنص يشكلان بنية معادلية كبرى بمعنى أن العنوان يوّلد معظم دلالات النص. فإذا كان النص هو المولود، فالعنوان هو المولد الفعلي لتشابكات النص وأبعاده الفكرية والأيديولوجية[12].

********

1- مازن الوعر، مقدمة: علم الإشارة/ السيميولوجيا، لبيير جيرو، ترجمة منذر عياشي، دار طلاس للدراسات و الترجمة، ط1، 1988، ص: 9.

2-ضيف الله (بشير) : سيميائية العنونة في في رواية سيدة المقام لواسيني الأعرج، ديوان العرب منبر حر للثقافة والفكر والأدب نشر بتاريخ 14 مارس 2009 ،تاريخ الدخول 30/10/2017 الساعة 16.22.

3-جاك دريدا… فيلسوف التفكيك و”التشتيت”فهد الشقيران،الشرق الأوسط نشلا بتايخ 26 أفريل 2014.

4- ابن منظور: (لسان العرب)، م15، دار صادر، بيروت، ط1، 1992، ص106.

5-نقس المصدر.

6- د. عبدالله الغذامي، الخطيئة والتكفير، منشورات النادي الثقافي، جدة، ط1، 1985، ص: 263.

7- بسام قطوس، سيمياء العنوان، وزارة الثقافة، عمان / الأردن، ط1، 2001، ص12.

8- عدنان حسين قاسم، الاتجاه الأسلوبي في نقد الشعر العربي، الدار العربية للنشر و التوزيع، مصر، ط1، 2000.

9- د.جميل حمداوي، (السيموطيقا والعنونة)، عالم الفكر، الكويت، ع/23، يناير/مارس، ص90.

10- محمد فكري الجزار، لسانيات الاختلاف، إيتراك للطباعة و النشر و التوزيع، مصر الجديدة، ط1، 2001، ص.218 نقلا عن سيميائية العنوان في رواية:” استوكهولم، ذلك الحلم الهارب” للروائي الجزائري “محمد الجزائري” تحليل نقدي للرواية بقلم الأستاذ: عبد القادر رحيم قسم الأدب العربي/ كلية الآداب و العلوم الإنسانية و الاجتماعية جامعة محمد خيضر- بسكرة/ الجزائر،نشر بموقع مركز النور للدراسات بتاريخ 11-06-2007 ،تاريخ الدخول 31/10/2017 ساعة 23.54.

11-مدخل نظري لدراسة العنوان :محمد راشد،، ديوان العرب منبر حر للثقافة والفكر والأدب نشر بتاريخ 11 فيفري 2014 ،تاريخ الدخول 31/10/2017 الساعة 22.14.

12-نفس المصدر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى