السيد يعقوب بكر - رأي جديد حماد الراوية - 5 -

يقول نولدكه إن حماد هو الذي اختار المعلقات، وهو في هذا يتابع ما قاله ابن النحاس في أوائل القرن الرابع الهجري، وليست بنا حاجة هنا إلى أن نعيد ما قلناه في صدد رأي ابن النحاس. وإنما نكتفي بنقد ما يستدل به نولدكه من أن حماداً أقحم قصيدة الحارث بن حلزة ممالأة منه لمواليه بني بكر، ودفعاً منه لقصيدة عمرو بن كلثوم في الافتخار بتغلب. فنولدكه يرى في هذا دليلاً على أن حماداً هو الذي اختار المعلقات. وهو دليل لعمري ضعيف. فقد كان يستطيع حماداً ألا يختار قصيدة عمرو، لو كان هو الذي اختار المعلقات. ولكنه لم يغفلها أو لم يسعه إغفالها، لأنه كان يجمع مشهورات القصائد، أي القصائد التي اختارتها العرب وفضلتها، وفيها قصيدة عمرو بن كل ثوم. وهكذا يكون دليل نولدكه دليلاً عليه لا له. وأما ما يقوله من أن الحارث بن حلزة لم يكن شاعراً مبرزاً، وأن حماداً أقحمه بين أصحاب المعلقات إقحاماً، فنحن نورد عليه اعتراضين: الأول أن ابن سلام الجمحي صاحب طبقات الشعراء يجعل عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وعنترة بن شداد في طبقة واحدة، هي الطبقة السادسة من طبقات الشعراء الجاهليين؛ والثاني أن الحارث بن حلزة كان زعيم قومه كما كان عمرو بن كلثوم زعيم قومه، وأن قصيدتيهما استفاضتا بين العرب له ذا السبب. وليس في الاعتراض الثاني مطعن في شعر الشاعرين، وإنما نريد به الدلالة على أن مكانة القائل تغني عن جودة القول في مجال الشهرة والذيوع.

فالحارث إذن من شعراء المعلقات أصلا. ويؤيد هذا ما يقو له نولدكه نفسه من أن ابن عبد ربه، وابن النحاس (فيما يقوله القدماء)، قد قبلا المعلقات السبع كما جاء بها حماد، ولم يبدلا فيها شيئا من شئ. ومعنى هذا أنهما لم يجدا مطعناً في جمع حمادٍ المعلقات، ولم يريا ما يراه نولدكه من أنه أقحم الحارث بن حلزة إقحاماً. وهما من رجال أوائل القرن الرابع الهجري، كما سبق ذكره؛ فهما إذن قريبا عهد بعصر حماد (المتوفى سنة 155 أو 156 هـ). وأما ما يذكره صاحب جمهرة أشعار العرب من أن المفضل قال: (القول عندما قاله أبو عبيدة في ترتيب طبقاتهم، وهو أن أول طبقاتهم أصحاب السبع معلقات، وهم امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمر بن كلثوم وطرفة بن العبد)، ومن أنه قال: (هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب بالسموط، ومن زعم غير ذلك فقد خالف الجمهور) أما ما يذكره صاحب جمهرة أشعار العرب من قول المفضل هذا، فلا يمكن الاعتماد عليه، لأنه ظهر - كما يقول نولدكه نفسه - أن صاحب الجمهرة غير ثقة، وأنه إنما انتحل اسم أبي زيد القرشي ليخدع الناس عن نفسه. فالمفضل وأبو عبيدة، وهما معاصران لحماد، لم يخالفاه إذن في شعراء المعلقات ولم يجعلا النابغة والأعشى مكان عنترة والحارث بن حلزة؛ أو لم يثبت أنهما خالفاه.

فقد استبان إذن زيف رأي نولدكه؛ واستقام لنا ما قلناه من أن العرب القدماء هم الذين اختاروا المعلقات وفضلوها على غيرها، وأن حماداً هو الذي جمعها بعضها إلى بعض وجعل منها جملة معروفة متداولة. وما قلناه في رأي نولدكه يمكن أن نقوله في آراء من شايعه من المستشرقين، وأمثال أرندنك (الموسوعة الإسلامية، مادة حماد الراوية) وبروكلمان (كتابه المشهور، ج1 ص 18، وتكملة ج1 ص 34) وغيرهما.

جمع حماد المعلقات إذن. بل إنه جمعها كما سمعها، فلم يصح عنه فيها انتحال.

كذلك روى حماد معظم شعر امرئ القيس. ففي المزهر (ج2 ص 205) أن الأصمعي قال: كل شئ في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية، وإلا شيئاً سمعناه من أبي عمرو ابن العلاء.

(ج) إشهاره بالانتحال

اشتهر حماد بالانتحال، وهو ما سنناقشه في الفصل الآتي من البحث. وإنما نكتفي هنا بحصر الأقوال والأخبار التي توردها كتب القدماء في صدد انتحاله، لتكون هذه الأقوال والأخبار موضع تمحيصنا فيما بعد.

أقوال العلماء فيه

1 - في الأغاني (ج5 ص 172) ومعجم الأدباء (ص 140) وخزانة الأدب (ص 131) أن المفضل الضبي قال: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسد فلا يصلح أبداً، فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطي في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب؛ لا، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟

2 - وفي الأغاني أيضا (ص 174) أن خلف الأحمر قال: كنت آخذ عن حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها.

3 - وفي الأغاني أيضاً (ص 164) ومعجم الأدباء (ص 140) أن الأصمعي قال: كان حماد أعلم الناس إذا نصح (يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار).

4 - ويقول ابن سلام في طبقات الشعراء (ص 23 - 24)، وينقل عنه السيوطي هذا في المزهر (ج1 ص 87)، أنه سمع يونس بن حبيب يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر.

5 - وفي المزهر (ج2 ص 205) أن أبا حاتم قال: كان بالكوفة جماعة من رواة الشعر مثل حماد الراوية وغيره، وكانوا يصنعون الشعر ويقتنون المصنوع منه وينسبونه إلى غير أهله:

6 - ويقول ابن سلام (ص23)، وينقله عن السيوطي في المزهر (ج1 ص87): وكان أول من جمع العرب وساق أحاديثها حماد الراوية؛ وكان غير موثوق به، كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار.

أخبار انتحاله

1 - يذكر أبو الفرج (ص 172 - 173)، وينقل عنه البغدادي (128 - 129)، أن أمير المؤمنين المهدي دعا المفضل الصبي وقال له إني رأيت زهير بن أبي سلمى أفتتح قصيدته بأن قال:

  • دع ذا وعدِّ القولَ في هرم *
ولم يتقدم قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت في هذا شيئاً، إلا أني توهمته كان في قولٍ يقوله أو يروّي في أن يقول شعراً قال: عد إلى مدح هرم دع ذا، أو كان مفكراً في شئ من شأنه فتركه وقال: عد ذا أي دع ما أنت فيه من الفكر وعدّ القول فيهرم؛ وأن المهدي دعا بعد ذلك حماداً وحده، فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل. فقال ليس هكذا قال زهير أمير المؤمنين، قال: كيف؟ فأنشده:

  • لمن الديار بقنّة الحجر *
الأبيات الثلاثة.

  • دع ذا وعدّ القول في هرم *
البيت؛ وأن المهدي أطرق ساعة، ثم أقبل على حماد، فاستحلفه على هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقرْ له حينئذ أنه قالها، فأمر فيه وفي المفضل بما أمرهما وكشفه.

2 - وفي الأغاني (ص174 - 175)، وخزانة الأدب (ص131 - 132) أيضاً أن الطرمّاح بن حكيم قال: أنشدت حماداً الراوية في مسجد الكوفة، وكان أذكى الناس وأحفظهم قولي:

  • بان الخليط يسحُرة فتبدّدوا *
وهي ستون بيتاً، فسكت ساعة ولا أدري ما يريد، ثم أقبل علي فقال: هذه لك؟ قلت نعم، قال: ليس الأمر كذلك، ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتاً زادها فيها في وقته.

3 - وفي الأغاني كذلك (ص 173) أن حماداً قدم على بلال ابن أبي بردة البصرة، وعند بلال ذو الرمة، فأنشده حماد شعرا مدحه به، فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال جيدا وليس له: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله؛ فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه، قال له؛ إن لي إليك حاجة، قال: هي مقضية، قال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا، قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم وما يرويه غيري، قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام.

4 - وفي طبقات الشعراء (ص23)، والأغاني (ج2 ص50 - 51، وج5 ص 172)، والمزهر نقلا عن ابن سلام (ج1 ص87)، أن يونس بن حبيب قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال: ما أطرفتني شيئاً؟ فعاد إليه، فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى، فقال: ويحك! يمدح الخطيئة أبا موسى ولا أعلم به وأنا أروي للحطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس.

5 - وفي المزهر (ج1 ص 87) أن عمرو بن سعيد الثقفي قال: كان حماد الراوية لي صديقا ملطفا، فقلت له يوما: أمل على قصيدة لأخوالي بني سعد بن مالك، فأملى علي لطرفة. . . وهي لأعشى همدان.

6 - وفي المزهر أيضا (ج2 ص 205 - 206) أن سعيد ابن هُرَيمْ البرجمي قال: حدثني من أثق به أنه كان عند حماد حتى جاء أعرابي، فأنشده قصيدة لم تعرف ولم يُدرَْ لمن هي، قال حماد: اكتبوها. فلما كتبوها وقام الأعرابي قال: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالا، فقال حماد: اجعلوها لطرفة.

فهذه أقوال ستة وأخبار ستة توردها كتب القدماء في صدد انتحال حماد، وهي كل ما وجدناه فيها. ونحن نضيف إليها هنا ما يقوله صاحب العقد الفريد (ج4 ص402 - 403ط المطبعة الأزهرية): (وكذلك كان يفعل حماد الراوية، يحقق الشعر القديم ويقول: ما من شاعر إلا قد حققت في شعره أبياتا فجازت عنه إلا الأعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت. . . قيل له: وما البيت الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال

أنكرتني وما كان الذي نكرت ... منى الحوادث إلا الشيب والصلعا

(للبحث بقية أخيرة)

السيد يعقوب بكر


مجلة الرسالة - العدد 649
بتاريخ: 10 - 12 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى