عباس محمود العقاد - بين التخطئة والتصويب في اللغة وغيرها

عاد بنا الأستاذ (عبد الحميد عنتر) إلى قواعد الصرف في النسبة إلى أم وأمه وأمهة التي تحدثنا عنها في مقال سابق

فالأستاذ يقول (إن الهاء في سنة لم تقلب واواً في النسب كما قد يتوهم، لأن هذه الواو مبدلة من تاء التعويض المشوب بالتأنيث. . . والواو في سنوي ونحوه أصل من أصول الكلمة كانت حذفت وعوض عنها التاء. . .)

إلى أن يقول: (وإذا ثبت بالدليل أن الواو في سنوي غير مبدلة من الهاء في سنة ثبت أن الهاء في أمهة لا يصح قلبها واواً. . .) إلى آخر ما جاء في مقاله تخطئة (للأموية) في النسبة إلى أمه وأمهة

ورأينا أنه لم يثبت بالدليل أن الواو في سنوي أصل من أصول الكلمة محذوف، وإلا لجاز على وجه من الوجوه أن يقال سنة وسناء وشفة وشفاء وعضة وعضاء، كما يقال فرو وفراء ودلو ودلاء وجرو وجراء وحقو وحقاء، إلى آخر هذا الباب

ومن الطريف في إضعاف الدليل الذي عليه الأستاذ عنتر أن بعض العلماء بالعبرية يردون سنه إلى أصلها العبري وهو (شنه) المؤلفة من ثلاثة حروف مجموعها بحساب الجمل 355 وهو عدد الأيام في السنة القمرية. فالشين في هذا الحساب تساوي ثلثمائة والنون تساوي خمسين والهاء تساوي خمسة، ولا محل هنا للواو ولا للتاء

فقول الأستاذ (ثبت بالدليل أن الواو في سنوي غير مبدلة من الهاء) لا يؤيده شيء وتنفيه أشياء، وفي تعليلات النسب التي يعتمد عليها الصرفيون ما هو أضعف جداً من التعليل الذي اخترناه للنسبة إلى أمه وأمهة على اختلاف القول في أصل حروفها

بل نحن لو ذهبنا إلى القول بأن الأموية والأبوية جائزة على الجوار لما كنا في قولنا أغرب عن المألوف من القول بالغدايا والعشايا لهذا الجوار بعينه، أو للاتباع الذي هو أغرب من الجوار

لكن الخطر على اللغة في هذه الكلمة هين - بالغ في الهون - إلى الخطر الأكبر الذي نحن متهمون بتعريض الإسلام له في كتابنا (الصديقة بيت الصديق) أيدري القارئ ما هو هذا الخطر الأكبر الذي يقوم له بعض الأناسي من أنباء آدم ويقعدون؟

خطر لا يخطر على بال، ولا نظنه بعد ذلك يثبت في بال

ذلك الخطر هو اجتهادنا في إثبات سن السيدة عائشة عند زواجها بالنبي عليه السلام، لاستبعادنا أن نكون خطبتها في السادسة والبناء بها في التاسعة كما جاء في بعض الروايات، فقلنا إنها ربما تجاوزت الثانية عشرة عند البناء بها، معتمدين على الأسباب التي سردناها في الكتاب

والظاهر أن بناء النبي بفتاة تتجاوز التاسعة خطر لا تنام عنه بعض العيون التي تنام عن كل شيء

فلهذا يقوم بعض الأناسي من أبناء آدم ويقعدون ليدرأوا هذا الخطر الأكبر ويثبتوا جهدهم أن عائشة لم تتجاوز السادسة وهي مخطوبة، ولم تتجاوز التاسعة وهي زوجة في بيت محمد عليه السلام

والبديع حقاً أن الغاضبين - أو الغاضب - لارتفاعنا بسن السيدة عائشة إلى ما فوق الثانية عشرة عند زواجها هو قاض شرعي، فهو لا يقبل من مسلم من عامة الناس أن يتزوج بمن لم تبلغ السادسة عشرة ثم يثور ليؤكد أن محمداً عليه السلام بنى بزوجة في التاسعة أو ما دونها، مع قيام القرائن التاريخية التي تدحض هذا التقرير

إن حقدك علينا لا يغض منا لأنه مقياس نعمة الله التي خصنا بها على رغم أنفك، وإذا كان حقدك علينا فوق غيرتك على واجبك فأي مقياس لنعمة الله أبلغ في الدلالة من هذا المقياس، وأحق بالشكران منا فوق هذا الشكران؟

فالحمد لله. وزادنا الله، وزادك، مما أوجب هذه الهيجة التي لا تنام عنها عيناك

وقد كانت السيدة عائشة في الثانية عشرة على أقل تقدير، ولم تكن قط في السادسة أو التاسعة كما تقول

واصرخ في واديك بعد هذا كما تشاء

ويظهر أن هناك معركة أخرى تشملني في حومتها خلال هذا الأسبوع، كما نمى إلى من أسئلة بعض الأدباء

فهؤلاء الأدباء على ذكر مما كتبت أخيراً عن غرض الأدب وعلاقة الفنون بالمشكلات الاجتماعية، وهو موضوع يختلف فيه اليوم كاتبان كبيران كلاهما له حق الرأي والتوجيه في هذه الشئون، وهما الأستاذ أحمد أمين والأستاذ توفيق الحكيم

فالأستاذ أحمد أمين يقول: (إن الأدب العربي إلى الآن تغلب عليه النزعة الفردية لا النزعة الاجتماعية، فالغزل والمديح والعتاب والرثاء والفخر والهجاء ونحوهما كلها في الأدب القديم نزعات فردية طغت على الأدب العربي ولو نته اللون الذي نراه. . . وأرى أن العربي يجب أن يتجه من جديد إلى النزعة الاجتماعية. . . أعنى نظر الأدباء إلى مجتمعهم الحاضر يشتقون منه رواياتهم وأقاصيصهم وشعرهم ومقالاتهم الأدبية. . . وهذا النوع من الأدب يجب أن يكون أسلوبه سهلاً واضحاً جميلاً جهد الطاقة، لأنه لا يؤدي رسالته حتى يصل إلى آذان أكبر عدد ممكن في الحقيقة الاجتماعية)

والأستاذ توفيق الحكيم يقول: (إن استيحاء أساطير اليونان والرومان وامرئ القيس وشهرزاد هو النوع الأرقى في الأدب. . . في كل أدب. . . لا في الماضي وحده ولا في الحاضر. . . بل في الغد أيضاً وبعد آلاف السنين. . . وإن اليوم الذي نرى فيه الأدب قد استخدم للدعايات الاجتماعية والتصوير استغل في معارض الإعلان عن السلع التجارية، والشعر جعل أداة لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية - لهو اليوم الذي نوقن فيه بأن الإنسان قد كر فانقلب طفلاً يضع في فمه تحف الذهن وطرف الفكر، لأنه لا يدرك لها نفعاً غير ذلك النفع المادي المباشر. . . هذا هو الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان). . . وقد سألني أدباء فضلاء من قراء الرسالة: ما الرأي بين المذهبين؟ وأي القولين فيه الخطأ وأيهما فيه الصواب؟

وأقرب الوسائل عندي إلى الوجهة القصوى من هذا الاختلاف أن نعود إلى الماضي البعيد لنرى على التحقيق الذي لا تردد فيه - على ما نعتقد - إن وجهة الأدب والأخلاق والشريعة جميعاً إنما تتقدم من الاجتماعية إلى الفردية، لا من الفردية إلى الاجتماعية، كما يؤخذ من مقال الأستاذ أحمد أمين

ولهذا كانت أغراض الأدب العربي فيما مضى هي الأغراض التي تعني القبيلة ولا تعني أفرادها على استقلال، وهي الفخر والحماسة والمديح والهجاء والغزل والرثاء

فالفخر بالأنساب والأحساب سنة من سنن القبائل البدوية التي تتفاضل بعراقة الأجداد والآباء

والحماسة مطلب لا غنى عنه في حالة الصراع بين القبائل التي تتقاتل أبداً على المرعى والماء ومظاهر الجاه والغلب

والمديح والهجاء سلاح للقبيلة يرتبط به العز والهوان، وتنظر إليه القبائل نظرتها إلى سلاح؛ فتحتفل بظهور الشاعر كما تحتفل بالفرس الكريم والغارة الموفقة

وليس الغزل من المسائل الفردية التي تنفصل عن النوع والأمة والقبيلة، وليس الرثاء كما عرفه العرب مطلباً فردياً، لأنهم قلما نظموه في غير السادة الذين ترثيهم القبيلة قبل أن يرثيهم الأقربون، وليس ما نظم في رثاء أخ أو صديق أو زوجة يبالغ عشر ما نظم في الرثاء القبلي الذي يهم من الوجهة الاجتماعية مرات، قبل أن يهم مرة واحدة من الوجهة الفردية

هذا في الأدب جملة

أما في الأخلاق والشريعة فحسبنا أن نذكر الرجل كان يقتل في التراث لأنه فرد من أفراد القبيلة، لا لأنه هو القاتل بيديه، وحسبنا أن نذكر سنة الخلع لنعلم أن الخروج على حظيرة القبيلة هو بمثابة الخروج على حظيرة الشريعة والأخلاق

فاتجاه التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية، أو من التبعات والحقوق العامة إلى التبعات والحقوق الخاصة، ومناط التقدم عندنا هو قدرة المجتمع على إخراج أكبر عدد من الأفراد لهم استقلال في الحق والتبعة يعترف به العرف والقانون

كذلك نرى من جانب آخر أن الاهتمام بالحاجة المادية هو أقدم المطالب التي شعر بها الناس، وليس هو بأحدثها وألزمها للإنسان في عصور التقدم والارتقاء

وأن أمل الإنسانية الأكبر لهو أن تصبح على توالي الأيام أقل اشتغالاً بالطعام والكساء، وليس أكثر اشتغالا بهما كلما ارتفعت في معارج الحياة، وأن تنتقل من الشيوع إلى التخصص الذي يجعل بعض الناس مشغولين بعمل لا يشتغل به الآخرون، ولا يجعلهم من كتاب وشعراء وفلاسفة واقتصاديين وتجار وزراع مشغولين بشؤون المعيشة في عالم الواقع وعالم الفكر وعالم الخيال وعالم الأحلام

ومناط الفن الأعلى أن يتذوقه أرفع الناس ذوقاً وأدقهم حساً وأغزرهم علماً، وليس أن تشترط فيه الملاءمة لأقل الناس في جميع هذه الصفات

وقد أحسن الأستاذ الحكيم حين شبه المجتمع الذي يستخدم الفن للرغيف بالطفل الذي يضع الحلية في فمه، لأنه لا يحسن أن يتملاها بنظره

فلا بد من شيء في الفن لا ينتهي إلى المعدة ولا يتوقف على الذين يعيشون للمعدات

لكن هل يفهم من ذلك أننا خطأنا الأستاذ أحمد أمين في حرصه على المصالح الاجتماعية والمطالب المعيشية؟

كلا. بل نحن مثله في حرصنا على تلك المصالح والمظالب، ولكننا نقول إن ظهور الفنون الخالصة في بنية الأمة ضرورة حيوية لسلامة تلك البنية، فإذا وجدت الفنون الخالصة في الجو الذي يلائمها كان ذلك دليلاً على استكمال المطالب التي دونها في مراتب الكمال، كأنما هي الزهرة التي لا تؤكل ولا تشرب، ولكنها إذا غابت عن الشجرة كان ذلك دليلاً على مصاب أحاط بالثمرات والقشور والأوراق والأحطاب

فالفنون الخالصة زهرة الأمة التي تنم على حياتها، ولن تحيا أمة يكون فيها اختلال يعوق مصالح الأكثرين ومطالب المعدات والأجسام.

وعلى هذا نتفق جميعاً إذا اتفقنا على أن الفنون علامة صحة ونماء، وليس من الضروري بعد ذلك أن نطالب حمرة الخدين بفائدة مادية غير الدلالة على الجسم الصحيح

عباس محمود العقاد



مجلة الرسالة - العدد 563
بتاريخ: 17 - 04 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى