ناصر سالم الجاسم - صراخ الأواني الفارغة

في البدء: أيها الشك ، أيها الحيوان المتطور دوماً ، لو تخرج لي وضعت حذاءً في فمك.
كل شيء يتبعك ، فهو يشبهك .

ابتدأ الليل وجه زنجي واحد ، وابتدأت أنافيه إناءً واحداً مملوءً سواداً ، مشاعري ثمرة موز صفراء آل نضجها الشديد إلى سوادها ، يداي وقدماي ورأسي وبطني وظهري يطبعون الرعدة على سطوح الأشياء ، رأيت رعدة قدميَّ في الندى الهابط لتوه على الإسفلت ، فاسترجعت صورة رعد وبرق الجن في أعلى كتفي ، ومشيت على الإسفلت ، والإسفلت مائدة سوداء طويلة لي وللأواني الفارغة نكسوه بأقدامنا ، كل الأواني تعرف أنني احتضنت آنية جيراننا وأنا صغير ، وأن عمتي حين شاهدتني غضبت مني غضبًا شديدًا ، فصفعتني عشاءً أعلى كتفي ، والجن حاضرون في المطبخ يأكلون من الأواني التي لم تفتح لنا ، فتعلمتُ من صغري أن الجن يسبقوننا في كل شيء ، حتى في طعامنا ، ثم نمت باكياً ، استيقظت والنمش قد انبتته الجن مكان صفعة عمتي الخاطئة الهدف !

قالت أمي صبحاً ، وهي تحممني من إناء الماء الساخن ، ويدها تدعك أعلى كتفي : صفعة الجن لن تغادر جلد ظهرك حتى تموت !

الليل يتكاثر ويصير وجوهًا عديدة لزنوج متعاضدين يسبحون في فلكه ، ووجهي نقطة رعب سائرة في فضاء أسود ، أنظرُ إلى الأواني من حولي فأجدها سوداء باكية !

في أزمنة منتهية كانت الأواني تطوف بين المنازل في الأضاحي والأماسي ، وحين توضع في المغاسل تبدو كبطات تعوم في ماء أزرق ، وحين تصف على الأرفف تبدو كحمائم بيضاء تهدل طويلاً ، وحين تجلس فوق الموائد تبدو نظيفة لامعة براقة متباعدة عن بعضها البعض ، ولكن حين أخذت الفساتين تعض أجسادها تحررتْ من قبضة الأمهات ، ومن حبها الشديد لها ، وخرجت فارغة صارخة معي في الليل الأسود .
الريح السوداء خرجت من آنيتها ، وأنشأت تعصف بنا ، وتدحرجنا وتماسسنا وتلامسنا على مائدة الإسفلت ، تثلمت بعض الأواني ، جعلت أشك في أن الأواني لن تواصل الصراخ معي ، أخذت أعد الأواني فلاحظت أنها نقصت ، وأن كثيراً منها تخلفتْ على جانبي الإسفلت، وأن الأقدام لم تعد تكسو الإسفلت كله ، وأن الريح السوداء تمر بيننا بسهولة ، كنا مصممين بعناد أسود على أن نصل جميعاً ، أيقنت أن الأواني الباقية لم تكن فارغة كما تصورت في البداية ، إنما هي ممتلئة سواداً مثلي ، وأن مشاعرها ثمرات موز صفراء آل نضجها الشديد إلى سوادها .
حينما لم تنجح في مهمتها ، عادت الريح السوداء إلى آنيتها ، وأحكمت غلق غطائها عليها خائفة من غضبنا وانتقامنا ،
في لحظة شبق جماعي تولت الآنية الباقية نزع ثيابي ، وأخذت بحجر الطريق تحك جلد أعلى كتفي حتى أتت على محو النمش كله ، وأنا مستسلم خاضع لإرادة الصراخ والمحو والوصول ، ثم توالت على تقبيل أعلى كتفي ، وتنافست في احتضاني ، لقد صرن مثل آنية جيراننا ! ، ثم قمن يحممنني كأمي بماء ساخن من الإناء الذي تحممت منه في صغري ، حتى تطهرت من صفعة الجن الجائعين ، ألبستني الآنية ثيابي وواصلنا المشي والصراخ ، أقامت الجن خندقاً مائياً وسط الإسفلت ، رأيت صورة عمتي غارقة فيه ، عبرناه عوماً وهو يكبر تدريجياً أمام أعيننا ، صعدنا الإسفلت ثانية ، وعادت أقدامنا تكسو بعضا منه .
وصلنا مخدعه صبحاً ، شعرنا أننا فارغون ، وأن مشاعرنا أضحت ثمرات موز خضراء في بداية نضجها ، بحثنا عنه فلم نجده ، قالت واحدة من الآنية : لعله هرب في حراسة من الجن ، وافقناها القول ، وصرخنا بصوت واحد : نحن الأواني نمشي ونقف ، نفرغ ونمتلئ ، حسب إرادتنا لا إرادتكم .

* عن نادي اقصة السعودي


ناصر الجاسم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى