شيماء عبدالله - الإناء.. قصة قصيرة

كل إناء بما فيه ينضح ، عبارة شغلتني منذ الطفولة، لم تكن عبثية ، أو هامشية، تناقلها الأجداد ضربا من الأمثال، كان خالي إنسانا ذا هيبة؛ حسن الخلق والخليقة فيه من دماثة الخلق ما يستقطب كل من حوله حبا به وتقربا إليه، لا تستهويه الحداثة ولا تجتذبه أدوات العصر الميّسرة، كلما قام للوضوء صاح : الإناء! نصُّبَ له الماء على مكث و بعد انتهائه يأخذه من أحدنا ليشرب منتعشا : ولا أطيب.

أعجب لقوله هذا متسائلة مما تعلمناه وتلمسناه أليس الماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة ؟ ذات ثرثرة مني سمعني فقال مهذِّبا : الماء في الإناء له نكهة وطعم لا يضاهى، استطاب لي شرب الماء كما يصنع تأسيا به، انتظرناه فجرا ما صحا! شققنا خطوات الشمس؛ نزيل عنه لحاف الظلمة ونمسك إناءه المغمور بقداسة الوضوء وشربته الهنية ، تلألأ وجهه نورا ؛ يشرق وقارا وهيبة متلحفا بهادم اللذات، سقط الإناء وانكسر جزعا .. قطع تطايرت هنا وهناك جهدت في لمها؛ لم أسلم من نظرات أمي المحدقة بي على حذر تنهرني : دعيها، أسبقها القول بارتباك : ألا يمكن الإصلاح؟ تذكرت يوم خرجنا أنا وأمي واشغلني إحدى الشبان ، لا يفتأ باحثا عني أينما جنحنا في السوق يتتبعني باهتمام غريزي، برغم حيائي كان بريق عينيَّ يفضحني غرورا بأنوثتي كأي فتاة مراهقة تستثار بنظرات الإعجاب تلك، تكسر أمي صمتي برغم ربْكي: إصلاحها لا يأتي بالنفع تبقى أجزاءها مشوهة أيها البنت، تناثر مني ما تبقى في يدي..

الزجاج المتناثر زاد من هلعنا وهو يشقشق ما بين أصابعنا بعد هزة عنيفة ودوية مجلجلة للمكان بارتماء قنبلة كبيرة من القنابل الأمريكية، كنا بجانب ذلك الحادث كل ما حولنا تبعثر وتهشم ؛ ربما سلمت الجدران وليس كلها، هبط الظلام مع الغبار الأسود ؛ الحجار والطوب لبك أجواءنا وألزمنا التراتيل والنطق بالشهادتين، الموقف : حرب لأجل احتلال، المكان : قرب مطعم الساعة وبعد توقف الساعة تماما في زمان الهرج والمرج، مقبلين على توديع عالمنا ذاك؛ لآخر مشبّع بالظلم، بعد هدوء هذه العاصفة ؛ الصمت سيد الموقف، تفحصنا أجسادنا؛ فما نفع باقي الأشياء قياسا بها برغم رخصنا وعدمنا، رغم أننا لم نعني شيئا لما حولنا وربما نفهم ونتجاهل لننعم بالمجهول، عالم فضائي انقض علينا بفكه المفترس حال ليلنا ومض وشرار ونهارنا معتم، الشر يفتح ذراعيه لنا يحيطنا من اتجاهاتنا الأربعة، كل ما حولنا تهشم إلا إناء مزهوا على طاولة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى