فوزي هادي الهنداوي - سيمياء العنوان في النصوص الإبداعية.. سحر الكلمة الأولى 1-2

مقدمة

تتبارى دور النشر بالاهتمام بجماليات العتبات الأولى للكتب الصادرة عنها، وتشتمل هذه العتبات على الغلاف والعنوان والاهداء والنبذة التعريفية بالمؤلف وما إلى ذلك.

هذا الاهتمام بالعتبات الأولى جعل المتلقي يقرأها قراءة نقدية تحليلية بوصفها المرشدة الى متن النص ؛ مما دفع النقاد إلى تأمل العتبات الأولى وتحليلها وربطها بالمتن النصي.

ويعد العنوان من أهم العتبات النصية الموازية المحيطة بالنص الرئيس ، حيث يساهم في توضيح دلالات النص ، واستكشاف معانيه الظاهرة والخفية ان فهما وأن تفسيراً وأن تفكيكاً وان تركيباً. ومن ثم فالعنوان هو المفتاح الضروري لسبر أغوار النص ، والتعمق في شعابه التائهة، والسفر في دهاليزه الممتدة.

والعنوان هو الأداة التي يتحقق بها اتساق النص وانسجامه ، وبها تبرز مقروئية النص ، وتنكشف مقاصده المباشرة وغير المباشرة. في ضوء ذلك يرى البعض أن النص هو العنوان ، والعنوان هو النص ، وبينهما علاقات جدلية وانعكاسية ، او علاقات تعيينية أو إيحائية ، أو علاقات كلية او جزئية.

وقد أدرك الباحثون المعاصرون أهمية دراسة العنوان ، وظهرت بحوث ودراسات عديدة تعنى بالعنوان وتحليله من نواحيه التركيبية والدلالية والتداولية ، فالعنوان يقدم معونة كبرى لضبط انسجام النص ، وفهم ما غمض منه ، إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه ، فهو بمثابة الرأس للجسد.

والعنوان ذو صلة وثيقة بافق انتظار القارئ ، على تعدد فهم مستويات هذا الأفق ، إن افق هذا الانتظار يتحدد بالعنوان أولاً ليكون سبباً للدخول إلى النص ، حيث أن أول ما يقف عليه القارئ هو العنوان.

ولا يمكن مقاربة العنوان مقاربة علمية موضوعية إلا بتمثل المقاربة السيميائية التي تتعامل مع العناوين باعتبارها علامات أو إشارات ورموزاً وإيقونات واستعارات.

في ضوء ذلك اولت السيمياء أهمية كبرى للعنوان بوصفه مصطلحاً إجرائياً في مقاربة النص الأدبي.

العنونة مدخل عام

العنوان لغة واصطلاحاً

وردت في لسان العرب مجموعة إشارات متعلقة بالعنوان ومرتبطة بالعني والإظهار: (( عنت القربة تعنو إذا سال ماؤها ، وقال الأصمعي : عَنوْتُ الشيء : أبديته ، وأعني الغيث النبات كذلك، ومنه المعنى وهو القصد والمراد ، ومنه اشتق فيما ذكروا عنوان الكتاب. قال ابن سيده: العُنوان والعِنوان سمة الكتاب ، وعنونه عَنْونةً وعُنونا وعناه … وسَمَهُ بالعنوان(1).

وقال العكبري: (( عنوان الكتاب، ما يعرف به … ويقال : عنوان وعُنْيان وعِنْوان وعُلْوان ، وجمعه عناوين وعلاوين … )) (2).

العنوان وفق ذلك إظهار لخفي وَوسُم للمادة المكتوبة ، فالكتاب يُخفي محتواه ، ولا يفصح عنه ، ثم يأتي العنوان ليظهر أسراره ، ويكشف العناصر الموسعة الخفية أو الظاهرة بشكل مختزل وموجز.

وقال المتنبي:

وَرُبَّ جَوَابِ عن كتابه بَعَـثْـتَـه

وعنوانَــه للناظرين قَـــتامُ

يشرح البرقوقي هذا البيت بقوله: ((ورب جيش أقمته مقام جواب كتاب كتب اليك ، فصار غباره يدل عليه كما يدل العنوان على الكتاب .. وهذا عنوان الكتاب ما يعرف به … وكلما استدللت بشيء تظهره على غيره فهو عنوان له )) (3).

يفهم من ذلك أن العنوان يقوم بوظيفة إظهارية ، فالقتام (الغبار) عنوان على الجيش القادم وإظهار له ، أنه يدل عليه ، إن الجيش الجرّار يُعرف بالغبار، كما أن الكتاب يعرف بالعنوان، وكل ما يستعمل للدلالة على شيء آخر فهو عنوان له.

والعنوان تعريف للمكتوب ، به يعرف الكتاب ويتميز عن غيره، وهو تجميع واختزال لنُوى كتابية متناثرة وموسعة في فضاء الكتاب.

قال السيوطي: (( عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله )) (4) ؛ إنه مادة لغوية ترتبط بموضوعها الكلي الذي تُعنونه، وتعمل على تلخيص المقاصد الكبرى والرئيسة فيه ، تسهيلاً لعملية الاطلاع والبحث ، فالمرسل (( يتأول عمله ويجدد مقاصده ، وعلى ضوء تلك المقاصد يضع عنواناً له ، مع الحرص على الاقتصاد والتركيز اللغوي ما أمكن )) (5).

لقد نظر إلى العنوان في الثقافة العربية على أنه العنصر الذي يحدد هوية نص من النـــــصوص ، ويميزها عن هويات أخرى ، كما أنه إختزال وتجميع وإظهار لما هو مطوي وخاف من المقاصد ، وهو إيحاء بشيء ووعد به ، وبما أنه كذلك فهو يغري المتلقين ويثيرهم للاطلاع على محتويات الرسالة ، وهذه الوظائف نفسها هي التي أشارت إليها نظريات العنوان الحديثة. (6)

العنوان عند العرب القدماء

أعطى العرب منذ القديم أهمية كبيرة للعنوان في مخطوطاتهم، بكتابته بألوان مميزة أو بخط مخالف لخطوط الكتاب ، وداخل فضاء مزخرف إظهاراً له وإشعاراً بأهميته ؛ وعادة ما يتميز العنوان بأن يكتب بالمداد الأحمر، وظهرت بعد تلك الفترة صفحة تسبق الكتاب ، يذكر فيها عنوان المخطط واسم المؤلف ، وعادة ما يكتب بالخط الكوفي أو بالثلث الغليظ. وكانت بعض العناوين تكتب بالمداد الذهبي أو الأحمر على أرضيات مزخرفة .. أما المخطوط فغالباً ما كان يذكر فيه عنوان المخطوط ودعاء ختم الكتاب ، وحمد الله على إنجازه ، وتاريخ الفراغ من التأليف والمدينة التي كتب فيها. (7)

العنوان نسق شامل

تقوم العنونة على مجموعة من العمليات الذهنية ، أو اللغوية ، والجمالية المفتوحة على إمكانات واختيارات عديدة ، يدخل فيها ما هو موضوعي ، وما هو جمالي ، وما هو تأويلي ، وما هو تجاري بقصد إغراء القارئ وترويج الكتاب.

ولا تنحصر مادة العنوان فقط في توجهها إلى المتلقي- القارئ ، بل تصبح ذات سمات مميزة داخل نسق شامل يلعب فيه الجمهور بدل القارئ دوراً مركزياً، يشمل هذا الجمهور كل الذين يتعاملون مع الكتاب : الناشر، الصحفي ، صاحب معرض الكتاب ، الباعة المتجولون ، النقاد، الأب الذي يشتري كتاباً لابنه ، الشخص الذي يهدي كتاباً لآخر، المؤسسات الثقافية ، المكتبات، وغيرها. تلعب هذه الأطراف دور الوسيط في عملية تنقل الكتاب وتداوله ، وعندما يصل العنوان إلى المتلقي ، فإنه يعامل قراءة وفهماً بكيفيات مختلفة حسب الوضع الاعتباري لكل قارئ ، وأغراضه من القراءة. (8)

عنوان مركزي وعناوين فرعية

لا يقصد بالعنوان فقط العنوان المركزي للكتاب ، إذ هناك ما يسمى بالعنوان الفرعي ، وهو إشارة أو إشارات لغوية تحدد بدقة موضوع الكتاب ، فداخل الكل الشاسع الذي يميل إليه العنوان المركزي ، نجد تخصيصاً لجانب من جوانب الموضوع ، أو مسألة خاصة أو نموذج بعينه. هو إذاً عنوان ثانٍ يحد من شساعة أفق التصور التي يخلقها العنوان الرئيس.

وإذا كان العنوان الخارجي يعنون الكتاب ككل ، فإن العناوين الداخلية تسم الأجزاء الصغرى الداخلية وتحدد مضامينها أو توحي بها ، أو ترتبط بها بأي شكل من أشكال الارتباط التام أو الجزئي : حالة الدواوين الحديثة مثلاً ؛ إذ قد لا يكون عنوان القصيدة دالاً عليها مباشرة.

يقول ريناتير: (( يمكن للعناوين أن تشتغل دلائل مزدوجة ، فهي تقدم القصيدة التي تتوجها ، وتحيل في الوقت نفسه إلى نص غيرها .. وبإحالة العنوان المزدوج إلى نص آخر فإنه يشــــــــير إلى الموضوع الذي تفــــــــــسر فيه دلالة القصيدة التي يقدمها القارئ عبر المقارنة..))(9)

قد يكون العنوان في الخطاب الشعري خادعاً مراوغاً ؛ فيحيل عنوان قصيدة ما إلى قصيدة أخرى ، إذ يتناسلان من بنية عنوانية واحدة ؛ لذلك يتم الفهم وبناء المعنى عبر إقامة جسور رابطة بين النصين ؛ وهكذا ففي الوقت الذي يرتبط العنوان توثيقياً ، وخطياً ، ونصياً بقصيدة معينة ، فإنه يكون تنويرياً لأخرى ، هادياً إليها. أما في غير الخطاب الشعري فإنه في أغلب الأحيان يكون دالاً على موضوع النص ، مبيناً عن مقاصده. ثم إن من العناوين ما قد يشير إلى جنس الكتاب ونوع المادة التي يهتم بها ، سواء في العنوان الرئيس أو في العنوان الفرعي مثل: (ديوان أبي الطيب المتنبي ، تاريخ أفريقيا ، تفسير القرآن الكريم ، أزهار ذابلة (شعر) ، لماذا تركت الحصان وحيداً ؟ … ) ومن العناوين ما ينحو نحو الإثارة عبر صياغة لفظية مميزة مثل: (الدر المنثور، الأنيس ، الثمرات ، الجامع ، الكامل ، الكشاف ، البحر المحيط ، العباب ، اللباب ، الأحكام…)

وظائف العنوان

يعد العنوان عتبة قرائية وعنصراً من العناصر الموازية التي تسهم في تلقي النصوص ، وفهمها ، وتأويلها داخل فعل قرائي شمولي ، يفعل العلاقات الكائنة والممكنة بينهما.

وبحسب جيرار جنيت فإن العنوان : (( مجموعة من العلامات اللسانية (…) التي يمكن أن توضع على رأس النص لتحدده ، وتدل على محتواه لإغراء الجمهور المقصود بقراءته … )) (10)

إذن يحدد العنوان هوية النص ويشير إلى مضمونه، كما يغري القراء بالاطلاع عليه.

وتظل وظيفة التحديد هي الأهم من غيرها، فالعنوان المثير قد لا يربطه بما يُعنون أي رابط، كما أن العلاقة بين مادة العنوان ومواد النص ليست دائماً مرآوية ، بحيث يكشف ظاهر العنوان بواطن الكتاب. إذ من الممكن أن نجد عناوين فارغة ، أو دالة على الشكل أكثر مما تدل على المضمون.

في ضوء ذلك ، فالعنوان بوصفه اسماً للكتاب ، أهم محدد ومميز له عن هويات أخرى، وإن كنا نجد بعض العناوين مبنية بطريقة رمزية أو مجازية ، مما يدفعنا للتأويل لإيجاد ألوان من التطابق أو شبه التطابق بين النص وعنوانه ، وخاصة في الكتب ذات الطبيعة النظرية أو الفكرية.

أما عناوين الدواوين الشعرية والروايات والقصص ، والمقالات – الحديثة على الخصوص- فهي تقوم في غالب الأحيان على المراوغة والإيحاء.

يحصر جنيت أهم وظائف العنوان في : وظيفة التحديد ، والوظيفة الوصفية ، والوظيفة الإيحائية ، والوظيفة الإثارية – الإغرائية. (11)

قد تتحقق هذه الوظائف كلها في عنوان واحد ، بحيث يصف المحتوى ، ويوحي بأشياء أخرى ، ويغري المتلقين بالقراءة ، وأكثر من ذلك فهو اسم محدد للكتاب يميزه عن غيره. وبعض العناوين تحضر فيها وظيفة أكثر من غيرها بسبب اختيار موضوعي ، أو جمالي فني مقصود من طرف المنتج.

ويرى انطوان كومبانيون أن الوظيفة المركزية للعنوان هي الوظيفة المرجعية ، لأنه يشير إلى نص بأكمله عبر علامة واحدة ، إضافة إلى الوظيفة الإغرائية التي تقوم بها ، فاسم المؤلف وعنوان الكتاب مادتان تتكفلان بوضع الكتاب في الفضاء الثقافي لعملية القراءة ، وأمام قراء ذوي أوضـــــــــاع اعتبارية متباينة لأن اللقــــاء الأول مع أي كتاب يتم عبر هاتين العلامتين في الغالب. (12)

ويرى جون كوهن إن من أهم وظائف العنوان الأساسية : الاسناد والوصل ، كما يعتبر العنوان من أهم العناصر التي يتم بها لتحقيق الربط المنطقي ، وبالتالي ، فالنص اذا كان بأفكاره المبعثرة مسنداً ، فإن العنوان سيكون بطبيعة الحال مسنداً إليه.

ويعني هذا أن العنوان هو الموضوع العام ، بينما الخطاب النصي يشكل أجزاء العنوان، حيث أن العنوان في النص يرد باعتباره فكرة عامة أو دلالة محورية أو بمثابة نص كلي.(13)

ويؤكد جون كوهن على ان النثر – علمياً كان أو أدبياً – يتوفر دائماً على العنونة ، والتي هي من سمات النص النثري البارزة كيفما كان النوع ، لأن النثر قائم على الوصل والقواعد المنطقية ، في حين يمكن للشعر أن يستغني عن العنوان ، مادام يستند إلى اللا إنسجام ، وبالتالي، يفتقر الى الفكرة التركيبية التي توحد شتات النص المبعثر.

وهذا يعني أن العنوان يحقق وظيفة الاتساق والانسجام على مستوى بناء النص أو الخطاب، ويعد كذلك من أهم العناصر التي يتم بها تحقيق الوحدة العضوية والموضوعية والشعورية ، وفي هذا النطاق ، يقول جون كوهن : (( إن الوصل عندما ينظر إليه من هذه الزاوية ، لا يصبح إلا مظهراً للإسناد ، والقواعد المنطقية التي تصلح للآخر. )) (14)

إن طرفي الوصل، يجب أن يجمعهما مجال خطابي واحد ، يجب أن تكون هناك فكرة هي التي تشكل موضوعهما المشترك ، وغالباً ما قام عنوان الخطاب بهذه الوظيفة ، إنه يمثل المسند إليه أو الموضوع العام ، وتكون كل الأفكار الواردة في الخطاب مسندات له ، ونلاحظ مباشرة أن كل خطاب نثري يتوفر دائماً على عنوان ، في حين أن الشعر يقبل الاستغناء عنه ، على الرغم من الاضطرار إلى اعتبار الكلمات الأولى في القصيدة عنواناً. وهذا ليس إهمالاً ولا تأنفاً.

وإذا كانت القصيدة تستغني عن العنوان ، فلأنها تفتقر إلى تلك التركيبة التي يكون العنوان تعبيراً عنها ، وهكذا فالعنونة الشعرية إنزياح وخرق وانتهاك لمبدأ العنونة في النثر، وذلك من خلال مجموعة الفروق التي تميز بين الشعر والنثر، ومن ثم يؤكد كوهن أن الفرق بينهما يكمن في أن النثر أو الفكر العلمي يرتكز على الانسجام الفكري والترابط المنطقي، وإذا انعدمت القواعد المنطقية ، فإنها تستحضر لدى المتلقي بشكل بديهي.

لقد ثبت أن الانسجام الفكري شيء يتحقق من الفكر العلمي ، وليس ضرورياً استحضار الأمثلة. (15)

أهمية العنوان في النص الحديث

أصبح العنوان في النص الحديث ضرورة ملحة ومطلباً أساساً لا يمكن الاستغناء عنه في البناء العام للنصوص ، لذلك ترى الشعراء يجتهدون في وسم مدوناتهم بعناوين يتفننون في اختيارها ، كما يتفننون في تنميقها بالخط والصورة المصاحبة ، وذلك لعلمهم بالأهمية التي يحظى بها العنوان.

ونظراً لهذه الأهمية (( شغلت عناوين النصوص الأدبية في الدراسات الحديثة حيزاً كبيراً من اهتمام النقاد )) () ، رأوا فيه عتبة مهمة ليس من السهل تجاهلها ، إذ يستطيع القارئ من خلالها دخول عالم النص دونما تردد مادام استعان بالعنوان على النص.

كما تتجلى أهمية العنوان فيما ((يثيره من تساؤلات لا نلقى لها إجابة إلا مع نهاية العمل )) (16) ، فهو يفتح شهية القارئ للقراءة أكثر، من خلال تراكم علامات الاستفهام في ذهنه ، والتي بالطبع سببها الأول هو العنوان ، فيضطر إلى دخول عالم النص بحثاً عن إجابات تلك التساؤلات بغية إسقاطها على العنوان.

إن إطلالة سريعة على معظم الدراسات السيميائية الحديثة التي طالت الأعمال الأدبية – الروائية منها والشعرية – تبرز بشكل واضح ((أهمية العنوان في دراسة النص الأدبي )) (17) ، التي تعتمد في تحليلها على قواعد المنهج السيميائي.

فأي محاولة لاختراق حاجز العنوان تقتضي من القارئ الوقوف مطولاً عنده ، إذ (( قد نخسر رهانات كثيرة في قراءتنا ونحن نعبر سريعين نحو ما نعتبره قصيدة مخلفين العنوان في الآثار المتلاشية للقراءة )) (18) ، مما جعل العنوان يرتقي من (( عامل تفسير مهمته وضع المعنى أمام القارئ إلى مشروع للتأويل )) (19) ، قد نحتاج في كثير من الأحيان إلى النص لفهم مغزاه.

فالعنوان – على أهميته – أصبح علماً مستقلاً له أصوله وقواعده التي يقوم عليها ، فهو يوازي إلى حد بعيد النص الذي يسمه لهذا ((فإن أي قراءة استكشافية [ لأي فضاء ] لابد أن تنطلق من العنوان )) (20)، كما أنه لم يعد (( زائدة لغوية يمكن استئصالها من جسد النص )) (21)، بل أصبح عضواً أساساً يُستشار ويستأذن.

إن التطور الحاصل في تاريخ العنوان ، جعله بعد سنوات عجاف يستفيق من غفوته (( ويتمرد على إهماله فترات طويلة ، وينهض ثانية من رماده الذي حجبه عن فاعليته وأقصاه إلى ليل من النسيان )) (22) ، ليـــــــكون شيئاً ذا بال ويزاحم النص في أهميته ، لا ليكون جزءاً منه بل ليـــــكون نصاً موازياً له.

ولعل عناية كل من جيرار جينيت وليوهوك وكلود دوشي وجون مولينو وروبرت شولز وجون كوهين … بالعنوان أسس – حقيقة – لمــــــــا يسمى اليوم بعلم العنونة حتى أخـــذ النقــــــــاد ((يستنطقون البعد السيميائي في تحليل العلاقة الجدلية بين العنوان في قمة الهرم ، وبين البنيات المشكلة لمتن الهرم )) (23)، اتكاءً على ما خلفته دراسات فرانسوا فروري وأندري فونتانا وشارل جريفال.

أما عناية المبدعين (وبخاصة الشعراء) بالعناوين فأمر ظاهر، حتى أن الشاعر (عبدالوهاب البياتي) يذكر ان كثيراً من الشعراء يطلبون منه أن يضع لهم أسماء لقصائدهم ، أو مجموعاتهم الشعرية ، مع أنه يستغرب كيف يكتب شاعر ديوانه ولا يعرف كيف يختار العنوان(24) ، فأهمية العنوان وخطورته ، تضطر الشعراء – المبتدئين منهم خاصة – إلى الوقوف مطولاً أمام عناوين النصوص قبل اختيار أي عنوان.

وإذا عدنا إلى النقاد ، فإننا سنرى أن كثيراً منهم، يعد العنوان نصاً مصغراً تقوم بينه وبين النص الكبير ثلاثة أشكال من العلاقات :

علاقة سيميائية : حيث يكون العنوان علاقة من علاقات العمل.
علاقة بنائية : تشتبك فيها العلاقات بين العمل وعنوانه على أساس بنائي.
علاقة انعكاسية : وفيها يُختزل العمل – بناءً ودلالة – في العنوان بشكل كامل()، وهو تحليل يثبت مدى عناية النقاد بالعنوان بجعله ندا للنص ومثيلاً له ، فأهمية العنوان – إبداعياً وسيميولوجياً – إذن كبيرة لا شك فيها ، فهو باختصار (( أشد العناصر (السيميولوجية) وسماً )) (25) ، للنص أو الكتاب دون غيره من العناصر الأخرى، لأنه يشكل واجهة النص وبؤرة اختزال الأفكار التي ينوي النص إبلاغها.

أنواع العنوان

تتعدد أنواع العناوين بتعدد النصوص ووظائفها ، وأهم أنواع العناوين هي :-

العنوان الحقيقي

وهو ما يحتل واجهة الكتاب ، ويبرزه صاحبه لمواجهة المتلقي ، ويسمى((العنوان الحقيقي، أو الأساسي ، أو الأصلي )) (26)، ويعتبر بحق (( بطاقة تعريف تمنح النص هويته )) (27)، فتميزه عن غيره ، ونضرب مثالاً على ذلك بعنواني (المقدمة) لابن خلدون ، و(أحاديث) لطه حسين، فكلاهما عنوان حقيقي لهذين الكتابين.

العنوان المزيف

ويأتي مباشرة بعد العنوان الحقيقي (( وهو اختصار وترديد له ، وظيفته تأكيد وتعزيز للعنوان الحقيقي )) (28)، ويأتي غالباً (( بين الغلاف والصفحة الداخلية )) (29)، وتعزى إليه مهمة استخلاف العنوان الحقيقي إن ضاعت صفحة الغلاف ، ولا حاجة للتمثيل له لأنه مجرد ترديد للعنوان الحقيقي ، وهو موجود في كل الكتب.

العنوان الفرعي

يستشف من العنوان الحقيقي ، ويأتي بعده (( لتكملة المعنى )) (29) وغالباً ما يكون عنواناً لفقرات أو مواضيع أو تعريفات داخل الكتاب ، وينعته بعض العلماء (( بالثاني أو الثانوي )) (30) مقارنة بالعنوان الحقيقي ، ومثال ذلك مقدمة ابن خلدون إذ نجد أسفل العنوان الحقيقي (مقدمة) عنواناً فرعياً مطولاً هو (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) أو عناوين المباحث والفصول في متن المقدمة نحو : (فصل في البلدان والأمصار وسائر العمران – فصل في أن الدول أقدم من المدن والأمصار) (31).

وأما العناوين الفرعية في كتاب (أحاديث) فعديدة نذكر منها: (صريع الحب والبغض – فجأة فاجعة) (32).

الإشارة الشكلية

وهي العنوان الذي يميز نوع النص وجنسه عن باقي الأجناس، وبالإمكان أن (( يسمى العنوان الشكلي )) (33) لتمييز العمل عن باقي الأشكال الأخرى ، ومن حيث هو قصة ، أو رواية، أو شعر، أو مسرحية … الخ.

العنوان التجاري

ويقوم أساساً على وظيفة الإغراء لما تحمله هذه الوظيفة من أبعاد تجارية ، وهو عنوان (( يتعلق غالباً بالصحف والمجلات )) (34) أو المواضيع المعدة للاستهلاك السريع ، وهذا العنوان الحقيقي لا يخلو من بعد إشهاري تجاري.

السيمياء : مفهومها – تطورها – إهتمامها بالعنونة

السيمياء في اللغة

السيماء والسيمياء ، بياء زائدة : لفظان مترادفان لمعنى واحد ، وقد ورد ذلك في كتاب الله (سبحانه وتعالى) ، لكن مقصوراً غير ممدود ، أي بلا همز، هكذا (سِيمَا).

قال تعالى: (سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مِنْ أثَرِ السُّجُود) (الفتح : 29).

وقال سبحانه: (تَعْرِفَهُم بِسِيمَاهُم) (البقرة : 273).

والسيماء في معاجم اللغة : هي العلامة أو الرمز الدال على معنى مقصود ؛ لربط تواصل ما ، فهي إرسالية إشارية للتخاطب بين جهتين أو أكثر، فلا صدفة فيها ولا اعتباط.(35)

والسومة والسيمة والسيماء والسيمياء : العلامة ، والخيل المسومة : هي التي عليها السمة ، وقد يجيء السيما والسيميا ممدوين :

غلام رماه الله بالحسن يافعاً

كـأن الثريــا علقــت فـــوق نحره

له سيمياء لا تشق على البصر

وفي جـده الشِّعري ، وفي وجهه القمـر

أما مفردة Semloigic فهي مشتقة من اللفظة اليونانية Semion أو Simieon وتعني العلامة. وقد بنيت مفردة السيميائية من المقطع Seem ذي الجذر الإغريقي ، ودلت في البدء على دراسة الظواهر.

وكلمة Semloigie أي علم السيمياء فهي صيغة معاصرة ، أما Semioiogic الفرنسية فهي مثل كلمة Semiontic الإنكليزية فتستعمل أحياناً ، ومفردة سيمياء وثيقة الصلة بالتقليد الأوربي ، فيما السيميائية Semiotique ترتبط أكثر بالتقليد الإنكلو- سكوني ، مع ذلك تستخدم مفردة سيميائية Semiontique للتعميم على نحو أكبر. (36) وقد حسم المؤتمر الأول للجمعية الدولية للسيميائية عام 1969 كلمة السيميائية Semiotiqueالتي هي اليوم الاسم الأكثر استخداماً لهذا النوع من الدراسات. (37)ويطلق على السيميائية أيضاً تسمية السيميائيات وعلم الرموز ونظم العلامات والسيميونية وعلم الاشارات وعلم العلامات فيما تطلق بعض القواميس على الــ Semiotics تسمية علم الدلالة بينما تسمى الـ Semioiogy علم الاشارات. (38).




* نقلا للفائدة عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى