علي الحديثي - الصرخة.. قصة قصيرة

مزدحمة الشوارع بالخطوات المجنونة.. مبعثرة هنا وهناك.. الفضاء يضيق بالنظرات الملونة التي تتقاذفها العيون فوق الأرصفة وبين المحلات.. محيطة به كأذرع الأخطبوط، باحثاً عن مكان لا يراه فيه احد ليخرجها إلى حيز الوجود.. العيون ـ كما يظن ـ تترصده.. والآذان تتجسس عليه.. ما تحدث اثنان أو أشار أحدهم الاّ شك في نفسه وداعبته الظنون وظن أنه هو المقصود حتى لو كانت الإشارة في الإتجاه المعاكس…

أقلقته كثيراً وهو يشعر أنها تعرقل سيره وهي مخبوءة.. لا يعرف عنها شيئاً.. من أبن؟.. كيف؟.. متى جاءت؟.. غير أنه متيقن من وجودها منذ أن عرف الوجود، وإلاّ لا يمكن أن تكون قريبة العهد به لتنمو بهذا الشكل المريب.. كبيرة جداً بل فوق ما يتصور هو نفسه، حتى نسجت عناكب الشك حول عقله خيوطاً من انها معه مذ كان جنيناً، ليزداد خوفاً وقلقاً حينما يحمل شيئاً أكبر منه.. ولكن.. ألا يمكن ان تكون هي التي تحمله! فكل شيء جائز في عالم أبله…

ضاق بها ذرعاً وهي تعبث به، غاصّة في بحر دمائه من دون أن يستطيع فعل شيء.. خُيِّل اليه أنه علبة ما وجدت إلاّ لإخفائها عن الأنظار.. لا يستغرق استخراجها سوى ثانية أو أقل، الاّ انها ظلت تشتت دواخله، كل لحظة تمر به تبيعه عاماً مشوّهاً بالأحلام والأحزان.. في غربة الليل المقفر.. حيث العقول الراقدة في غرفها المظلمة.. خلف الجدران، حين يوصد باب غرفته، ويشعر انه بعيد بعد اللامتناهي عن البشرية الثرثارة، التي يؤلمه أنه منها.. حيث لا صوت انسان يزعجه.. لا نظرة عين تمزق وجوده.. في الأماكن النائية، حيث ليس سوى نباح الكلاب – الملكة التي لا تُنازَع في مملكة الليل -.. بإمكانه أن يتقيأها ويقذف بها.. ولكن الشخص المسجون في أعماقه السفلى يرحل في نوم عميق أقرب إلى الموت منه إلى النوم.. يستيقظ شخص آخر لا يعرف من يكون ؟ ليخمد ما أوقد الراقد…

– أنت منهم..لا تختلف عنهم بشيء.. أخرجها و لا تبالي بهم.. ليسوا خيراً منك.. أثبت أن ملك نفسك.. أنك تفعل ما تريد لا ما يريدون..

كلمات يهمس بها الشخص في أذنه، تنتابه رغبة عارمة لإخراجها بينهم، إنها المنقذ لوجوده.. هكذا يراها.. إنها ذاته.. إنها هو.. نعم.. هو.. إن خبّأها خبّأ نفسه.. انتفض بشدّة وكل مسامة في جسده فم يصرخ:

– أرهم من أنت…. أرهم من أنت…

لم يشعر الاّ بساقيه تعدوان بشراهة السجين حين يطلق سراحه.. يعدو بعنف كأنه يُغلق بعدوه أفواهاً من الأرض كادت تبلعه..

– أرهم من أنت.. أرهم من أنت…

صوت يتساقط مع أشعة الشمس.. يخرج من بين ذرات التراب.. من داخله.. من ملابسه.. حتى لسانه يبدأ ينطق بها بعدما صار دولة مستقلة عن جسده.. راكضاً بين الشوارع والمدن.. حيث تتشابك الخطوات بالنظرات.. إلاّ أنه الليالي تلعب لعبتها، حائكة الثوب الذي ستلبسه إياه.. باثّة النعاس في ذلك الشخص ليصل اليهم والنوم يعانق عينيه عناق القبر لساكنه..

في الوقت ذاته، كان الراقد يستيقظ خطوة فخطوة، وقف بينهم محملقين في هذا المعتوه الذي يركض أمامهم.. احس بذعر شديد وهو يقف بينهم.. هذا يترحم عليه.. وذاك يضحك.. وآخر مشدوه بما يجري.. أيقن انه ملغي من حساباتهم، وأنه الآن في عداد اللا موجودين، اسمه ـ منذ الآن ـ لا محالة سيدرج في قائمة المجانين، والأطفال ـ منذ اليوم ـ سيركضون وراءه بالطماطم وقشور الرقي.. كان الغد يرتسم له في وجوه الناظرين له.. وصياح الأطفال.. فرائصه ترتعد.. جسده يضمحل.. يده تعبث بالهواء تتقي بها ضربة الفراغ الممتد أمامه.. لا شيء سوى الفراغ.. الظلام.. فراغ.. ظلام.. فرا.. ظلا.. فـ.. ظـ….لا………..

صرخة مزق بها حجاب الصمت البشري …

لا يعرف بوجه من خرجت ؟.. ليسقط بعدهاً شاعراً بيد خفية ألقته بقوة على الأرض بعدما انتهت مهمته وخان الأمانة.. وأخرج الصرخة المخبوءة في آخر لحظة من حياته.. إنها وجوده.. تحطمت العلبة متناثرة أشلاؤها… خرجت …

ـ من يأويني ..

تساءلت محدقة في العلبة التي كانت آمنة مطمئنة فيها.. وبعد قليل ستُلّم اشلاؤها وتوارى.. فزعت وهي تفكر بضياعها..

ـ لا.. لا.. إنه سيبقى.. نعم.. أنا سأبقى.. أنا منه.. أنا هو.. سأبقى.. سأبقى..

أخذت ترقص وتتجول بين الأرجل.. أمام العيون.. فوق الرؤوس.. وهي تغني:

ـ أنا سأبقى … أنا سأبقى…

لا أحد يراها.. لا أحد يسمعها ..

ـ ما هذا ؟!

زعقت وهي تنتبه الى ما ترى.. عيون صماء .. آذان عمياء .. شلت الأرجل فلا أحد بعد اليوم يأكل بها.. الأغلال كأنها الأفاعي التفت حول الأيدي، فعلى ماذا سيمشون؟

ـ يا إلهي … صرخت مرة أخرى وهي تضم وجهها بين كفيها.. ما أرى ؟.. عراة.. رجالاَ ونساءً.. بعضهم ينظر إلى بعض.. نظراتهم سكاكين يجزون بها رأس الحياء ملقين بها في مزابل قاذوراتهم..

ـ هل نفخ في الصور ؟

التفتت يميناً وشمالاً ..

ـ لا.. لا.. لم تقم الساعة بعد..

أخذت تتجول كانها تبحث عن شيء والخوف قد ألجم فاهها.. فجأة توقفت وهي ترى مرآة.. فراحت تتجمل وتتزين لتنظر ـ ولأول مرة ـ لنفسها في المرآة ..

وقفت.. نظرت.. هربت.. هربت.. ارتطمت.. سقطت.. دوار يعتريها.. تساءلت :

ـ بِمَ ارتطمت؟!

نهضت، فتحت عينيها كأنها تلتهم الزمن اللامتناهي بهما..

ـ قفل ؟!

تلمسته.. حاولت رفعه.. تحريكه.. ثقيل.. ثقيل جداً.. تساءلت ساخرة :

ـ كيف يحملونه؟ أم إنه وسام الصمت؟.. نعم.. وسام الصمت.. لا بد أنهم فخورون به.. أغبياء..

تحركت شفاهها بكلمتها الأخيرة وصقور الغضب تحلق بها عالياً في سماء الوهم:

ـ سأحطمه.. وليكن بعدها ما يكون..

وقفت بعيداً عنهم.. تركض.. تركض.. تر.. تطم.. تسقط.. ما زال كما هو.. تعاود مرة.. مرتين.. آلاف المرات.. كل شيء كما هو .. يتفرقون.. يتملكها الفزع وهم يتركونها وحدها في العراء.. صرخت.. حاولت الإمساك بهم.. لا جدوى.. من يراها ؟ من يعرفها ؟.. لا أحد في الشوارع سواها وهذه الأشلاء المبعثرة.. أحست برغبة غريبة لا تعرف: أهي الضحك ؟ أم البكاء ؟ إنهما سواء.. علام الضحك وعلام البكاء ؟

استلقت فوق الأرض.. مدت ساقيها في الشوارع والدروب.. كلما مرت بدار أغلقت الباب بوجهها.. فتحت ذراعيها تحتضن السماء بعدما يئست من الأرض وهي تضحك.. تضحـ… تضـ……….

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى