جمال الدين علي - فراغ آيل .. قصة قصيرة

كانوا يبحثون عنه بالرصاص; واليوم يزورون قبره بالشموع. يضعون على ضريحه الورود بآلية. ثم يؤبون منكسي الرؤوس. وكنت على يقين أنهم سيندمون. تاه الدرب; سلك فراغا عريضا يؤدي إلى مألات العدم. رياح النسيان محت آثاره من على الخارطة.
كنت أرعى غنم أبي عند التل قرب الجرف; ومع أن أمي حذرتني مرارا من الذهاب إلى تلك النواحي; ولكني كنت مغرما بمراقبة الفراشات الملونة وهي تحط على زهور الربيع البرية; لذا عصيت أمرها. لمحته من بعيد قادما من عمق الغابة الجبلية. في كل خطوة كان يطأ فيها بقدمه الأرض; تسقط حبة عرق تسقي بذرة ألم تنبت صرخة. تعلو همة وتثمر خلاص. هذا ما ترأى لي وأنا في تلك السن الصغيرة. لا أستغرب ذلك أمي دوما كانت تقول لي أن الأطفال يمشون ويسير بجوارهم ملاك ليحرسهم. ربما كان ملاكي الحارس هو من شاهد كل ذلك ووصفه لي لاحقا. لقد كنت لحظتها مشوشا. فقد كانت هناك جلبة كبيرة آتية من جهة القرية. أصوات كلاب تنبح وصافرات تنطلق; وكأن جيشا غازيا يداهم سكون قريتي الوادعة. التفت ناحية الصوت وحين عدت لمراقبته من جديد; كان قد اختفى. مثل طيف عابر غازل عيوني وتلاشى في الأفق.
كانوا وهم يقصون الأثر. يتشممون العشب الأخضر; يلتقطون الحصى و ينحون الأشواك; يتوهون عنه أكثر وتغوص أذهانهم في رمال الشك. يقفون محتارين يتساءلون أي طريق سلك؟.
فوق الصخرة الجاثية في حافة الجرف عند المنحني الجبلي; وقف قائد الجند وراح ينظر لشعاع الأمل المتكسر بالضفة الأخرى. يشم أنفاس الحقول ورائحة الطين المبلل و يلعق المناظر الخلابة ككلب مدرب. وبالأخير فتح سحاب سرواله وبال في قعر الهوة السحيقة. ثم التفت لجنوده وقال.
- هيا بنا نعود قطعا لم يعبر من هنا.
كذبت أقول في نفسي; وأنا أقف بجوار أمي وما زالت كفها تطبق على فمي. فيلسوف لاتيني استمد فلسفته من تلك النظرات التأملية التي لمحتها بعينيه حين ناولته طبق الحساء الساخن الذي صنعته أمي خصيصا له في البيت - رفع صوته بداخلي وعبر عن تلك اللحظة بكلمات لها دلالات فلسفية عميقة. عجزت عن فهما ساعتها ولكنني رددتها بيني وبين نفسي أحفظها جيدا.
(ألم تصادفوا قط في طريقكم حقول الخير; زهور الفضيلة; ثمار الحق; نسيم الحرية و عبق الدهشة. وذلك الغصن المرصع بالأشواك الذي القيتم به بعيدا; كانت تجلس في طرفه وردة ضامة عطرها تنتظر شعاع الشمس القادم. لقد وعدها بالعودة وحتما سيفي بوعده في الصباح. كل ذلك لم تشاهدوه. الآن عليكم الاعتراف أيها الجنود أنكم عميان. بصيرتكم عمياء).
قال المزارع أنه شاهد غيمة حينما جمع القائد أهل القرية وبدأ باستجواب الجميع. قالت الفتاة أنها رأت فارس أحلامها بالصحو. الرجل الكهل لم يقل شيئا. كح كحه جافة وبصق ذكريات مرة من قاع عمره. نش ذبابة حامت أمام وجهه و أشاح بيده في الهواء. جلس فوق دكته الحجرية; رفع كفه أمام جبهته يستطلع سنين عجاف قادمة من تخوم الدهر القاحلة. هممت بالحديث ورفعت يدي لأشير بأصبعي ناحية الصخرة الجاثية فوق حافة الجرف. لو لا أن أمي كتمت سري بكفها المطبقة على فمي وقرصتني في يدي لبحت بالسر. أنزلت يدي ونفثت ألمي وسري المكبوت بكفها. أبي الراعي صاحب الخراف; تردد قليلا. وحين انتهره القائد تمتم بصوت خفيت .
( لمحت ظلا لمرعى خصيب و....). أمر القائد جنوده بسحب أبي. مضى الركب حاملا أبي معه. نظر أبي الينا من فوق السيارة نظرة; لا هي حائرة ولا هي منكسرة; لكني سمعت صوت تكسر زجاج عدسات عينيه حين ارتطمت بأرضية سيارة الجند وداس عليها القائد ببوته.
نظرته لا تشبه نظرة الرجل الطيف. لقد كان وحيدا و منهكا وجائعا ومع ذلك نظرته كانت مفعمة بالحياة. ملابسه متسخة وشعره منكش وشفاه يابسة و لكنه كان يبتسم. لم يكن خائفا. أبي كان مرعوبا أما هو فلا. كان جائعا وعطشا فقط. ويعاني من جروح نازفة بقدمه. لقد كان وسيما بالفعل. لو صففت شعره وحلقت شاربه الكث و لحيته الطويله; لكان فتاة ريفية فاتنة. لكنه أحب تلك الصورة التي هو عليها وتلك النظرة التي تميزه عن النساء. كان وجهه بذلك الشعر الطويل المنكش مثل لبدة واللحية الدائرية التي عند التقائها بشاربه تضغط على محجريه لتخرج منهما تلك النظرة العجيبة; أقول كان وجهه بتلك الصورة المجسمة وجه أسد. نعم لو دققت النظر جيدا لرأيت وجه أسد ينظر.
عاد أبي بعد يومين; و قد اختفت تلك النظرة; لقد حل مكانها فراغ آيل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى